تصاعد الخلاف بين الجمهوريين والديمقراطيين في الكونجرس الأميركي مع اقتراب انتهاء مهلة “تعليق سقف الدين الأميركي” في الأول من يناير.
وتشير التوقعات إلى أن الدين العام الأميركي سيبلغ نحو 36 تريليون دولار في الثاني من يناير، وهو اليوم الذي يُعاد فيه فرض سقف الدين، ما يضع الحكومة الأميركية أمام تحدٍ جديد لإدارة التزاماتها المالية دون تجاوز هذا السقف، إلا إذا قرر الكونجرس رفعه أو تعليقه مجدداً.
وشهدت الولايات المتحدة في يونيو 2023، أزمة سياسية طويلة كادت أن تتسبب في تخلف الحكومة عن السداد، قبل أن يتوصل الرئيس جو بايدن ورئيس مجلس النواب آنذاك كيفن مكارثي إلى اتفاق لتعليق سقف الدين حتى 1 يناير 2025.
وسمح هذا الاتفاق للحكومة بمواصلة الاقتراض لتغطية نفقاتها الحيوية، متجنباً أزمة كانت ستؤثر على الاقتصاد العالمي.
ومع ذلك، أدى هذا التعليق إلى زيادة الدين الوطني من 31.4 تريليون دولار إلى نحو 36 تريليون دولار خلال فترة التعليق، مما رفع من حدة النقاشات السياسية حول سياسات الإنفاق الحكومي والإدارة المالية.
عودة الخلافات السياسية
وأعاد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إشعال الجدل حول هذا الملف، إذ وصف اتفاق تعليق سقف الدين لعام 2023 بأنه “واحد من أغبى القرارات السياسية في التاريخ الحديث”، منتقداً إدارة بايدن و”الكونجرس الديمقراطي” آنذاك، لتأجيلهم معالجة الأزمة بدلاً من إيجاد حلول طويلة الأمد.
ودعا ترمب إلى إلغاء سقف الدين تماماً أو تمديده بشكل كبير حتى عام 2029، لتجنب الأزمات المتكررة التي باتت سمة للسياسة المالية الأميركية.
وقدم رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون مشروع قانون إلى المجلس يتضمن زيادة في سقف الدين، لكن الديمقراطيين وعشرات من الجمهوريين في مجلس النواب صوتوا ضده.
وترجّح وسائل إعلام أميركية أن هذا التصويت قد أثار استياء ترمب، الذي دفع الجمهوريين إلى دعم رفع سقف الدين حتى لا تضطر إدارته للتعامل مع هذه المسألة في أشهرها الأولى.
ماذا سيحدث بعد 2 يناير؟
حذرت وزيرة الخزانة جانيت يلين المشرعين من أنه سيتعين عليهم التحرك بسرعة في عام 2025 لرفع سقف الدين مرة أخرى، لتجنب تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها.
ووفقاً ليلين، فإن الحكومة قد لا تواجه أزمة فورية في 2 يناير، إذ يمكنها الاعتماد مؤقتاً على الموارد المتاحة، ولكن بحلول منتصف يناير، من المتوقع أن تصبح القيود المالية ملزمة، مما قد يدفع وزارة الخزانة إلى اتخاذ “إجراءات استثنائية” لإدارة السيولة، مثل تأجيل مدفوعات محددة أو إعادة تخصيص الأموال المتاحة.
ويتوقع معظم المراقبين أن تستمر قدرة الخزانة على تحويل الأموال وتلبية الالتزامات الأميركية باستخدام مثل هذه التدابير حتى يونيو من العام المقبل.
وإذا استمر الخلاف السياسي ولم يتم رفع السقف أو تعليقه، فإن الولايات المتحدة قد تواجه خطر التخلف عن سداد ديونها، وهو ما سيؤدي إلى اضطراب في الأسواق العالمية وزيادة تكاليف الاقتراض، ويهدد استقرار الاقتصاد الأميركي.
تداعيات التأخير في 2025
تعتمد الحكومة الأميركية بشكل كبير على الاقتراض لتغطية مجموعة واسعة من التزاماتها المالية الأساسية، والتي تشمل استحقاقات الضمان الاجتماعي التي يعتمد عليها الملايين من المواطنين المتقاعدين وأصحاب الإعاقات، بالإضافة إلى مدفوعات ائتمان ضريبة الأطفال التي تمثل شريان حياة للعديد من الأسر ذات الدخل المحدود.
كما تشمل هذه الالتزامات دفع رواتب القوات المسلحة، وهي عنصر حيوي لضمان جاهزية الجيش وعملياته، فضلاً عن تسديد مستحقات المتعاقدين الحكوميين الذين يوفرون خدمات أساسية تتراوح من الأمن إلى البنية التحتية.
وفي حال فشل الكونجرس في رفع سقف الدين أو تعليقه في الوقت المناسب، فإن الحكومة ستُمنع من الاقتراض لتغطية هذه النفقات، مما يعني أنها قد تضطر إلى تأخير أو حتى إيقاف بعض هذه المدفوعات.
هذا التأخير سيؤدي إلى تأثيرات مباشرة على الملايين الذين يعتمدون على هذه الأموال لتلبية احتياجاتهم اليومية، مثل دفع الإيجار، تكاليف الغذاء، أو نفقات الرعاية الصحية.
على المستوى الاقتصادي، فإن تخلف الحكومة عن سداد التزاماتها سيؤدي إلى انخفاض الثقة في قدرة الولايات المتحدة على إدارة ديونها، ما قد يدفع وكالات التصنيف الائتماني إلى خفض التصنيف السيادي للبلاد.
وسيؤدي ذلك إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض بالنسبة للحكومة والشركات على حد سواء، مما يفاقم الأعباء المالية ويعيق الاستثمارات الاقتصادية.
وفي عام 2013، عندما اقتربت الحكومة من التخلف عن السداد قبل أن يتم رفع سقف الدين في اللحظة الأخيرة، فقد الاقتصاد الأميركي 1% من الناتج المحلي الإجمالي.
وعلى الصعيد العالمي، فإن الأسواق المالية التي تعتمد بشكل كبير على السندات الأميركية كاستثمار آمن ستواجه اضطرابات كبيرة. وستتراجع ثقة المستثمرين الدوليين في الاقتصاد الأميركي، مما قد يؤدي إلى تدفقات مالية هائلة إلى أسواق أخرى أكثر استقراراً، ما يهدد بدوره استقرار الدولار الأميركي باعتباره العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم.
وفي الداخل، قد يؤدي التأخير إلى تقلبات حادة في أسواق الأسهم، وزيادة في معدلات البطالة، وتراجع في إنفاق المستهلكين، مما يدفع الاقتصاد نحو ركود عميق.
هذه التداعيات ستؤثر ليس فقط على الاقتصاد الأميركي، بل ستنتقل عدواها إلى الاقتصاد العالمي، نظراً للدور المركزي الذي تلعبه الولايات المتحدة في النظام المالي العالمي.
تجارب تاريخية مع سقف الدين
ووفقاً لتقرير نشرته شبكة NBC، يُعد سقف الدين أداة حديثة نسبياً في النظام الاقتصادي الأمريكي.
ففي أول 128 عاماً من تاريخ الولايات المتحدة، كان الكونجرس يناقش ويصوت على كل عملية اقتراض بشكل منفصل، وهو ما يُعرف بـ”التصويت المنفصل”، حيث كان يتطلب موافقة رسمية لكل مبلغ تقترضه الحكومة لتغطية مشاريعها أو التزاماتها المالية.
ومع تزايد الاحتياجات المالية خلال الحرب العالمية الأولى، قرر الكونجرس في عام 1917 استبدال هذا النظام بوضع سقف إجمالي للدين، يسمح للحكومة بالاقتراض بحرية ضمن حدود معينة دون الحاجة لتصويت منفصل على كل عملية، مما ساعد على تبسيط إدارة الأعباء المالية الكبيرة التي فرضتها تلك الفترة.
وفي عام 1939، قررت الحكومة رسميا استخدام سقف الدين من أجل إدارة التزاماتها المالية على أساس إجمالي.
ومنذ ذلك الحين، أصبح سقف الديون بمثابة كابح اسمي للإنفاق الفيدرالي، مما يسمح للكونجرس بالتفكير في عبء الديون التي تحملها الولايات المتحدة في أي لحظة.
ومنذ ذلك الوقت، جرى تعديل سقف الدين 78 مرة، ما يعكس الجدل المستمر حول دوره وتأثيره على السياسات المالية، بحسب شبكة NBC.
عبء الدين والجمود السياسي
وتمتلك الولايات المتحدة واحدة من أعلى نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم، حيث تقترض أكثر مما تنتجه.
وفي السنوات الأخيرة، ازدادت المطالبات بإلغاء سقف الدين، حيث يرى المؤيدون أنه يتسبب في عدم استقرار اقتصادي غير ضروري ويهدد بتخلف الحكومة عن سداد التزاماتها. ويؤكد الداعمون، بمن فيهم خبراء ماليون وبعض المشرعين، أن سقف الدين لا يخدم أي غرض عملي، بل يغذي النزاعات السياسية، مما يعطل الأسواق ويقوض الثقة العالمية في الاقتصاد الأميركي.
وللمرة الأولى انضم رئيس جمهوري إلى الديمقراطيين في تبني الحجة الداعية لإلغاء سقف الدين. وقال ترمب في تصريح لشبكة NBC إن “الديمقراطيون قالوا إنهم يريدون التخلص منه، وإذا أرادوا التخلص منه، فسوف أقود الحملة”. وأضاف أن “سقف الدين لا يعني أي شيء، إلا من الناحية النفسية”.
ومع ذلك، لا تزال الدعوات لرفض إلغائه قوية، خاصة بين المحافظين الماليين الذين يعتبرون سقف الدين أداة حاسمة لفرض الانضباط المالي والسيطرة على الإنفاق الحكومي.
وبشكل عام، يميل الديمقراطيون إلى إصلاح أو إزالة سقف الدين لتجنب الأزمات المالية المتكررة، مشددين على أهمية ضمان قدرة الإدارة على الوفاء بالتزاماتها دون نزاعات سياسية مستمرة.