لطالما بقيت الثقافة الأميركية فوق السياسة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، أو بالأحرى فوق الحزبية، حيث يمكن للطرفين أن يتحاربا حتى النخاع، في كل ما يتعلق بالسيطرة على كرسي البيت الأبيض والكونجرس، وحتى المحكمة العليا، لكنهما يتفقان على تحييد الثقافة، وتحديداً المؤسسات الثقافية المرتبطة عضوياً بالحكومة الفيدرالية.
الانتصار الكبير للرئيس ترمب، جاء فوزاً لمشروع سياسي واقتصادي واجتماعي صريح وشديد الوضوح، لا يغيب الخطاب الثقافي عن مضمونه، بل يقع في صلب هذا المشروع.
هو خطاب محافظ قلق مما “ليس أميركياً أصيلاً”، وتحت هذه الخانة من تعريف “أميركا الأصيلة”، مروحة واسعة من الخلافات الثقافية الجوهرية، بين معسكر ترمب والمعسكر الليبرالي المقابل، تتعلق بمسائل الجندر والميول الجنسية والتنوّع والمساواة بين الإثنيات والأعراق.
لم يكمل ترمب شهره الأوّل في البيت الأبيض بعد. لكن كثافة قراراته التنفيذية غير المسبوقة، توحي بأنه يريد إنهاء كل الملفات العالقة منذ فترة الحكم الأولى، قبل حلول المئة يوم الأولى على ولايته.
وكما أنه لا يتردد في توقيع أمر تنفيذي حيث يحتاج، فإنه يتصرّف بسرعة أكبر حين لا يتطلب تنفيذ قراره تطبيق حقّه الدستوري. هكذا استحوذ في أسبوع تقريباً على مركز كينيدي للفنون الأدائية (أو المسرحية).
أيزنهاور والتأسيس
تعود فكرة “مركز ثقافي وطني” في العاصمة واشنطن، إلى الرئيس دوايت أيزنهاور عام 1955. بعد ثلاثة أعوام أصدر الكونجرس تشريعاً خاصاً بإنشاء المركز وجمع التبرعات له، فضلاً عن الدعم الفيدرالي.
عام 1961 عيّن الرئيس جون كينيدي رئيساً لمجلس الأمناء، وبعد عام من اغتياله (1964)، قرّر الكونجرس تغيير اسمه إلى مركز جون كينيدي للفنون الأدائية، تخليداً لذكرى الرئيس الذي سيكون المركز بمثابة متحف حيّ له.
عام 1971، افتتح المركز رسمياً، ليصير علامة فارقة في المشهد الثقافي في العاصمة الفخورة، بأنها ليست مقراً سياسياً ودبلوماسياً فحسب، بل ملتقى ثقافي على مستوى أميركا برمتها.
ديفيد روبنشتاين
خلال عقود من عشرات آلاف العروض السيمفونية والأوبرالية والمسرحية، وتكريم مئات الفنانين والفنانات، واستضافة مئات الفرق العالمية، لم يكن المركز في بقعة الضوء السياسية، وأموره تجري بسلاسة بعيداً عنها.
يعيّن الرئيس الأميركي أعضاء مجلس الأمناء، وهؤلاء ينتخبون رئيس مجلس الأمناء ورئيس المركز. ويحرص الرؤساء المتعاقبون، على إبقاء توزيع مقاعد مجلس الأمناء عادلاً بين الحزبين، بينما استمر الملياردير ديفيد روبنشتاين، أحد أكبر مموّلي المركز، رئيساً له طوال السنوات الأربع عشر الأخيرة.
وجرى العرف، أن يعيّن الرئيس قبل مغادرته البيت الأبيض أعضاء من إدارته في المجلس تكريماً لهم، بما لا يخلّ بالتوازن فيه، كما لم يحدث من قبل أن جمع شخص واحد، بين رئاسة البيت الأبيض ورئاسة أمناء مركز كينيدي معاً.
ترمب يجمع اللقبين
ترمب هو أوّل من يجمع اللقبين، وقد طرد 18 من المحسوبين على الديمقراطيين، وعيّن 13 من المحسوبين عليه، بعضهم في صلب إدارته، مثل كبيرة موظفي البيت الأبيض سوزي وايلز ونائبها دان سكافيو، إضافة إلى زوجة نائب الرئيس أوشا فانس.
كما طرد الرئيسة التنفيذية ديبورا راتر، ليسلم منصبها إلى ريتشارد غرينيل، الذي شغل سابقاً مناصب دبلوماسية، كما عيّن في إدارة ترمب السابقة، مديراً مؤقتاً لجهاز الاستخبارات الوطني.
مجلس الأمناء المعدّل، انتخب ترمب رئيساً له، ليكون أوّل وعوده “إطلاق عصر ذهبي من الفنون والثقافة”، عبر استضافة فنانين كبار من كل الولايات المتحدة.
“تطهير” إداري
وكتب شون ماكريتش في صحيفة “نيويورك تايمز”، “أن السيد ترمب أعلن عن خطته لتطهير مجلس إدارة مركز كينيدي من المعيّنين من قِبل بايدن، وتعيين “رئيس رائع، دونالد ترمب”. لقد عيّن أحد أكثر أتباعه ولاءً، ريتشارد جرينيل، رئيساً مؤقتاً، وأعلن أنه لن يكون هناك المزيد من “الدعاية المناهضة لأميركا”.
في الواقع هناك مسألتان أساسيتان يرفض ترمب “استمرارهما” في المركز، هما “اليقظة” Woke وعروض “الدراغ”.
“اليقظة” هو مصطلح كان له في بداية القرن الفائت محمول ثقافي مستمد من نضال الأفارقة الأميركيين ضد العنصرية والتمييز، ليتحول مؤخراً إلى مطلب لنشر الوعي ضد رهاب المثليين والعابرين والعنصرية والتحيّز الجنسي، وفي سبيل بناء مجتمع مساواة واندماج، لكنه بحسب منتقديه بات عنواناً لفائض الصوابية السياسية وثقافة الإلغاء.
صحيفة “واشنطن تايمز” المحافظة، نقلت عن غريغوري أنجلو، رئيس “حملة التسامح الجديد المائل صوب الحق” أو (اليمين Right)” قوله: “إن الإدارة السابقة لم تعرض إلا وجهة النظر الليبرالية حول “التنوّع والمساواة والشمول”.
بينما يقول فيشر دردريان، وهو مدير مجموعة ضغط فنية محافظة، “إن التأثير الاجتماعي للبرنامج، دفع إلى الخلف السؤال حول الجودة الفنية للعروض. يجب أن تكون العروض فنية تلمس جوانب سياسية، وليست عروضاً سياسية بحتة صودف أنها فن”.
أنظمة توتاليتارية
في المقابل، كتبت إليزابيث برو، في مجلة “فورين بوليسي” مقالاً مطوّلاً، شرحت فيه أنها كزائرة دائمة للمركز، شاهدت عروضاً لا تحصى من السيمفونيات والجاز والموسيقى الكلاسيكية، مع ملاحظة استضافة المركز لعروض “دراغ” موسمية.
وتسحب الكاتبة النقاش حول سيطرة ترمب على المركز إلى مساحة أخرى، حيث تشبّه محاولة سيطرة الرئيس على الثقافة، بعقلية الأنظمة التوتاليتارية والاشتراكية، التي توجّه الثقافة والفنون في خدمة الأيديولوجيا الحاكمة ودعايتها، وتضرب أمثالاً من تشيكوسلوفاكيا السابقة إلى فنزويلا نيكولاس مادورو الحالية.
التغيير الكبير والسريع في المركز، أدى إلى موجة احتجاجات لم تقتصر على إلغاء فنانين لعروضهم، أو انسحاب مستشارين فنيين رئيسيين من المركز، بل وصلت إلى اعتصامات احتجاج في المركز نفسه.
مع ذلك، فليس في ما فعله الرئيس، ومن ضمنه تبوّؤ منصب ثقافي إضافي إلى منصبه، ما هو ضد القانون. فالمركز الذي يجذب مليوني زائر سنوياً، فدرالي ويتبع “مؤسسة سميثسونيان”، أكبر مجمع للمتاحف والأبحاث في العالم.
هذه المؤسسة كانت أعلنت سابقاً إغلاق “مكتب التنوّع” بعد قرار ترمب التنفيذي، الذي ألغى مبادرات سلفه للتنوّع والإنصاف والشمول، ووصفها بأنها “برامج تمييزية غير قانونية ولا أخلاقية”.
آلاف المنح البحثية والفنية التي تعطى لمدارس أو لمجتمعات عرقية أو إثنية، أو حتى يمكن وصفها بالفقيرة، ألغيت أو في طريقها إلى الإلغاء، تحت خانة هذا القرار التنفيذي.
كل الأموال التي ستوفّرها الحكومة الفدرالية من برامج الدعم الملغاة هذه، ستصب في تمويل الاحتفال العام المقبل، الذي بدأت إدارة ترمب الإعداد له من الآن، وهو عيد إعلان ميلاد أميركا 250، والذي لا شك فيه أن لمركز كينيدي دوراً أساسياً في إحيائه، على الأقل ثقافياً، وبحسب الرؤية المختلفة، والملتبسة دائماً، لرئيس مجلس أمنائه الجديد.