“نشكر الحياة، نحن ما زلنا أحياء”.. صرخت سائحة سويسرية، ثم أجهشت بالبكاء، أثناء وقوفها أمام موقع يضمّ قبوراً بيضاء في كمبوديا، حيث دُفنت آخر دفعة من الضحايا، وعددهم 14 شخصاً، في مركز التعذيب “تول سلينغ”.
لاحقاً أصبح المركز متحفاً للإبادة الجماعية في العاصمة الكمبودية فنوم بن، إثر سقوط نظام “الخمير الحمر”، بقيادة بول بوت (1975-1979)، من قِبل القوات الشعبية الفيتنامية التي “حرّرت” كمبوديا.
ترمز هذه القبور إلى ضحايا الجرائم المرتكبة، ويشكّل المتحف رمزاً للذاكرة الوطنية، وهو موقع مهم للباحثين وللناجين من الإبادة وللزوّار أيضاً، الذين يسعون لفهم واحدة من أفظع الجرائم الإنسانية في القرن العشرين.
كان المتحف عبارة عن مدرسة ثانوية، أصبحت سجناً ومركز استجواب وإبادة، من قِبل جماعة “الخمير الحمر” اليسارية المتطرّفة، المدعومة من نظام الصين الشعبية حينذاك، بما يسمّى”الماويون”، إشارة إلى زعيم الصين الشعبية ماو تسي تونغ.
تقع المدرسة وسط العاصمة فنوم بن، وتتكوّن من ثلاثة طوابق، وتحتوي على 20 زنزانة، فضلاً عن أدلة تاريخية، تُوثّق جرائم التعذيب والتصفية.
تذكر لافتة تعريفية أمام المتحف: “أحدث تقدير لعدد الضحايا في المعتقل هو 18,063، من بينهم 12 شخصاً (8 بالغين و 4 أطفال) نجوا”.
تمّ استخدام المدرسة زنازين فردية في الطابقين الأرضي والأوّل، أما الثاني، فكان عبارة عن غرف صغيرة لزنازين جماعية.
تضمّ الغرف كلها أسماء الضحايا، كما تشتمل على صور بعضهم، وأدوات التعذيب ونماذج من خراطيش الرصاص، فضلاً عن أسرّة حديدية، كانت تُستخدم لتقييد المعتقلين في أثناء استجوابهم أو تعذيبهم، بما يشي بالظروف القاسية التي كان يعاني منها السجناء.
الفن والجرائم
هناك معرض تشكيلي دائم في الطابق الثالث، من لوحات جرافيكية وتشكيلية، تصوّر عمليات إعدام الضحايا، فضلاً عن أدوات الزراعة المستعملة من قِبل نظام بول بوت، في تطبيق خطته بترييف البلاد، وتحويلها إلى مزرعة كبيرة، بما يذكّر بنظام “الكولخوزات” السوفييتي (التعاونيات الزراعية).
قام نظام “الخمير الحمر”، فور استلام السلطة عام 1975، بتهجير سكان المدن إلى الأرياف لتحقيق ذلك، مستخدماً نظام السخرة، الذي لم ينج منه حتى الأطفال، الذين نرى صورهم في المتحف، وهم يرتدون زيّ العمل الشعبي وأدوات الزراعة.
أجبر النظام الشعب الكمبودي على العمل في مشروعات زراعية وصناعية قاسية، في ظروف لا إنسانية، ما أدى إلى موت الملايين نتيجة الجوع والإرهاق، وسوء المعاملة.
2 مليون ضحية
يحتفظ المتحف بخرائط تهجير من المدن الكبرى والمناطق الحضرية الرئيسة إلى الأرياف، وتمّ التهجير الأوّل للسكان من المراكز الحضرية والمدن الكبرى، في 17 أبريل 1975.
كان هذا جزءاً من سياسة نظام “الخمير الحمر”، لتحويل البلاد إلى مجتمع زراعي شيوعي مكتفي ذاتياً، ما أدى إلى كارثة إنسانية تمثّلت بوفاة ملايين الأشخاص بسبب الجوع، العمل القسري، والإعدامات الجماعية (2 مليون ضحية بحسب نشرة المتحف).
ذاكرة العالم
أدرجت منظمة الأمم المتحدة “اليونسكو” أرشيف المتحف في برنامجها “سجل ذاكرة العالم”، ما يشير إلى الاعتراف الدولي بأهميته كجزء من التراث الوثائقي العالمي، تخليداً لذكرى الفظائع التي وقعت خلال حُكم نظام “الخمير الحمر”.
استطاعت الحكومة الكمبودية بفضل المساعدات الدولية المالية والتقنية، جمع الصور والوثائق ووسائل التعذيب والإبادة، وإقامة متحف وتقديمه باعتباره شاهداً تاريخياً على أكبر وأفظع أنظمة الإبادة الجماعية في العصر الحديث، (لا يضاهيه سوى الإبادة الجماعية المُنظّمة في العراق، حيث ملايين ضحايا القتل والتعذيب والحروب، وسجون صيدنايا وتدمر في سوريا).
ولكن، بالرغم من الدعم، لا يزال المتحف يعاني من الضعف التقني في وسائل العرض الحديث، علاوة على شحّ المعلومات الأرشيفية، في ما يتعلق بقصص الضحايا وحياتهم الشخصية ومذكراتهم.
تشير لافتة في المتحف إلى أنه “حتى هذا اليوم، لا يَعرف المتحف بدقّة، كم عدد الغرف التي تمّ التقاط هذه الصورة فيها، البحث لا يزال جارياً”، أي هناك تفاصيل لا تزال غير معروفة بالكامل عن جرائم تلك الحقبة المظلمة من تاريخ كمبوديا.
يسأل الزائر غالباً، أين جهود الدولة في البحث والتوثيق، بعد مضي أربعين عاماً على سقوط نظام “الخمير الحمر”، كذلك أين جهود الدولة العراقية الراهنة في توثيق أفظع إبادة إنسانية، والجهود العربية عامة في توثيق جرائم الإبادة في فلسطين وسوريا وليبيا وغيرها.
يضمّ المتحف آلاف الصور، وقسماً خاصاً لعرض الجماجم، ولكن هذا لا يعتبر كافياً مقارنة بالأهوال والفظائع المرتكبة، فضلاً عن بساطة العرض التقني والجمالي، إذ ليس هناك شاشات للتوثيق إلا نادراً، أو تكوينات حديثة ومعاصرة، تلافياً لنمطية العرض، ووجوب تقديم المعلومات على شكل صور بصرية، ستبقى في ذهن الزائر طويلاً، كما هي صورة النصب الرائع في ساحة المتحف وكتب عليه: “كي لا ننسى جرائم الإبادة لنظام بول بوت”.
تزخر العاصمة فنوم بن بالنُصب التذكارية الجميلة في الساحات العامّة، وهي عبارة عن متحف فني ثابت، يصادفه الزائر في كل مكان، مثل نصب “الاستقلال “و”الدستور”، نصب “الصداقة الكمبودية الفيتنامية”، والنصب البوذية بتفاصيلها الدقيقة المُذهّبة.
ملاعب الأطفال ساحات للإعدام
حوّل نظام الخمير الحمر، ملاعب المدرسة إلى ساحات للإعدام. ووصف أحد الطلاب مدرسته قائلاً: “كنا نلعب كرة الطائرة، ونتسلّق الحبال هنا، وكان هناك صالة رياضية. أتذكّر هذا المكان القديم جيداً”.
يضيف: “خلال فترة ما يسمّى “كمبوديا الديمقراطية”، استخدم “الخمير الحمر” موقع المدرسة كمركز احتجاز، وحوّلوا أعمدة الرياضة إلى أدوات تعذيب.
الفنان الكمبودي فان ناث، الذي كان محتجزاً في “S-21” أدلى بشهادته، عن سبب رسم لوحته أمام محكمة “الخمير الحمر” قائلاً: “رسمت لوحتي بناءً على ما رأيته بوضوح”، وعليه، تمّت إدانة هذا الفنان ودفن حياً في جرّة فخارية في ساحة المدرسة.
قواعد الاستجواب
تشير لوحة توثيقية كُتبت باليد، إلى النظام الصارم في ترهيب السجناء، بداية من أخذ صورة لهم، إذ يُعلّق رقم على صدره، فيصبح مجرد رقم. وتنص قوانين المعتقل على التالي: “يجب عليك الإجابة على أسئلتي وفقاً لما أطلبه، لا تتهرّب منها، لا تحاول إخفاء الحقائق بتقديم الأعذار عن هذا أو ذاك. يُمنع معارضتي تماماً”.
كذلك “لا تبكِ، أو تصرخ، عند الجَلد أو الصعق الكهربائي، لا تفعل شيئاً، اجلس بهدوء وانتظر أوامري. لا تتظاهر بالجهل، لأنك شخص يحاول عرقلة الثورة، إذا لم تكن هناك أوامر، التزم الصمت، وعندما أطلب منكَ فعل شيء، يجب عليك القيام به فوراً دون احتجاج”.
معرض صور الضحايا
توجد صور كثيرة جداً للضحايا، نساء، أطفال، شيوخ، كأن الحياة غادرتهم من دون مبالاة؛ تحوّلت بعض الصور إلى جماجم في واجهة عرض زجاجية.
حقاً، نشكر الحياة لأننا أحياء. لا يستطيع الزائر سوى أن يفتح عينيه، لكي يرى ويوثّق، ليحافظ على حقوق الآخر في الحياة الكريمة، يقول الشاعر التشيلي، بابلوا نيرودا: “لتلمس جفوني كلّ هذه … حتى تعرفها، حتى تتجرّح، وليحتفظ دمي بنكهة الظل الذي، لا يستطيع السماح بالنسيان”.
ذلك، ما تقوله صور آلاف الضحايا أيضاً، من بينها صورة امرأة شابة تحتضن طفلها نائماً بين يديها، ورقم السجن مُعلّقاً على صدرها. أي قوّة وبسالة بريئة في نظرتها، وأي نوم عميق لطفلها، مستقبل كمبوديا؛ العدالة آتية لا ريب، ولكنها ويا للأسف تأتي ناقصة دائماً.
تنبغي الإشارة، إلى وجود “ساحة القتل” في العاصمة فنوم بن، في مكان بعيد عن المتحف، وهي مكان للتصفية ويضمّ المقابر الجماعية.
سجل الزيارات
لم يكتف الزوّار بالمشاهدة، بل دوّنوا تعاطفهم وتضامنهم، كما يقول فرويد “التعاطف هو أعظم وأقدم صفة بشرية”. لم تتمكّن العدالة من محاكمة المجرم بول بوت، إذ التجأ إلى الأرياف، وقُتل بظروف غامضة، بعد انشقاق حركته.
أسهم متحف الإبادة الجماعية في توفير الوثائق للمحاكم، بما في ذلك الاعترافات، والسِير الذاتية الموجزة، وقوائم السجناء 18,063، في قضية محاكمة دوتش، الرئيس السابق لسجن S-21.
في 3 فبراير 2012، حكمت المحكمة العليا الكمبودية الخاصة (ECCC) على دوتش بالسجن مدى الحياة بتهم جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب.
تجب الإشارة إلى أن الوضع السياسي في كمبوديا كان معقدّاً جداً، وتحالف فيه الأعضاء التقليديون في ما بينهم، الصين مع أميركاً مثلاً، إذ دأبت مجموعات “الخمير الحمر” والمليشيات المدعومة من قِبل الصين والولايات المتحدة، بالقتال ضد الحكومة الفيتنامية والكمبودية الجديدة.
استمرت هذه الحروب حتى أواخر الثمانينات. هكذا، تصارعت أربعة أنظمة شيوعية في ما بينها، وكان الإنسان هو الضحية؛ فلم تعترف أميركا وبعض الدول الغربية بحكومة “جبهة التحرير الوطني الكمبودي”، واعتبرت موالية لفيتنام والاتحاد السوفييتي يومذاك.
بعد الإطاحة بالخمير الحمر عام 1979، تمّت استعادة الملكية في كمبوديا، وعاد الملك نورودوم سيهانوك إلى العرش بعد فترة من الانقطاع، ليصبح ملكاً مرّة أخرى.
ساعدت اتفاقية باريس للسلام 1991، في إنهاء سنوات من الحرب الأهلية والصراع الطويل، بمشاركة المجتمع الدولي والأمم المتحدة، التي نظّمت انتخابات حرّة عام 1993، بقيادة الأمير نورودوم سيهاموني.
كمبوديا الجديدة
الجدير ذكره، أن كمبوديا لم تحقّق نهضتها المأمولة، مقارنة بفيتنام مثلاً، الخارجة هي الأخرى من حرب مدمّرة، اشتهرت في التاريخ المعاصر، فها هم أطفال كمبوديا، الذين تم استغلالهم من قِبل نظام بول بوت الفاشي، في أسوأ حالات الفقر والعمل القسري في المزارع والمصانع، وتشتهر كمبوديا بعمالة الأطفال، على الرغم من تحريم قوانينها لذلك.
في المقابل، تخضع البلاد تحت تأثير الاستثمارات الصينية الهائلة، ضمن مشروع “الحزام والطريق”، ما يثير مخاوف المواطن الكمبودي، من العجز من سداد الديون في المستقبل.