يقترن توثيق حياة الناس لدى الفوتوغرافي العراقي هادي النجار، بتوثيق أماكنهم بما فيها من تداخلات إنسانية وتحوّلات عمرانية، ما يجعل الصورة سرداً لواقع متغيّر لا تلتقطه العين العابرة.
بدأ اهتمامه بالتصوير الفوتوغرافي عام 1972، عندما أهدته والدته كاميرا مدمجة خلال دراسته الإعدادية، وتعمّق هذا الشغف بدراسته الأكاديمية للتصوير السينمائي في أكاديمية الفنون الجميلة. معه كان هذا الحوار.
لنبدأ من المشروعات الجديدة التي تعمل عليها وأبرزها “استعادة روح الموصل”.
انتهيت من تصوير مدينة الموصل القديمة، قمت خلالها بتوثيق حياة المدينة وعودة الروح إليها على مدى شهرين. كان عنوان المشروع “استعادة روح الموصل”، وثّقت فيه الحياة النابضة والتفاؤل في وجوه أبناء المدينة بمستقبل أفضل.
كما أعمل على مشروع حول “الشجرة في العراق”، ويسلط الضوء على الإهمال الكبير، رغم تاريخ العراق الطويل في الاهتمام بالأشجار منذ العصور السومرية والبابلية، حيث كانت هناك العديد من الرموز والجنائن المعلّقة في بابل.
كذلك، لدي مشروع آخر حول “الأرصفة في العراق” التي تواجه مشكلة كبيرة في التعديات عليها، ما جعل التنقّل سيراً في المدينة أمراً صعباً بل مستحيلاً.
“أزقة خارج المدى” هو عنوان الفيلم الذي يوثّق رحلتك مع التصوير، فهل قدّم لك منظوراً جديداً عن نفسك كمصوّر؟
إن عمل أفلام وثائقية عن تجارب فوتوغرافية عراقية، مهمة تعكس احتفاءً حقيقياً بالفنانين في حياتهم، وهذا يسعدني كثيراً، وهناك تجارب تستحق الاهتمام، من بينها فيلم وثائقي عن الفوتوغرافي لطيف العاني من خلال التلفزيون الفرنسي والبلجيكي، الذي استمر لعدة أعوام، وانتهى قبل وفاته، ولاقى صدى كبيراً خارج العراق.
كما أن فيلم “أزقة خارج المدى”، من إنتاج المصوّر الشاب أيمن العامري، يعدّ جهداً رائعاً، فهو يمتلك القدرة الفنية والتقنية لإنجاز أعمال أخرى لفنانين فوتوغرافيين عراقيين آخرين.
كيف توازن بين توثيق الواقع ورؤيتك الخاصة في الصورة؟
مجرد توجيه المصوّر عدسته نحو زاوية معيّنة من الواقع، يعني دخوله في منطقة التعبير الذاتي، فهو يختار ما يريد إظهاره للآخرين، ما يجعل الصورة انعكاساً لرؤيته الخاصة.
وتؤثر في ذلك عوامل عدّة، مثل اختيار الزاوية، والإضاءة، والتوقيت، وحتى التعديلات اللاحقة، ما يمنح المصوّر مساحة فنية للتعبير.
ورغم أن أدوات المصوّر أقل مرونة مقارنة ببقية الفنون، كالرسم والنحت والموسيقى، إلا أن إتقانه لها يجعلها طيّعة لخدمة رؤيته. وبحكم دراستي للسينما، أميل إلى السرد البصري في أعمالي، وأحرص أن أمنح المتلقي دوراً في تأويل الصورة والتفاعل معها وفقاً لثقافته وإحساسه، ما يجعله شريكاً في التجربة الفنية.
في خزانتك الكثير من صور بغداد وأحيائها، هل تسهم الفوتوغرافيا بالحفاظ على ذاكرة المكان؟
لدي مجموعة كبيرة من الصور لمناطق بغداد القديمة، وخصوصاً مركز المدينة، وأقوم بجولات دورية لرصد التغيّرات العمرانية والاجتماعية. وللأسف، المشهد لا يبعث على التفاؤل.
أؤمن بأن للفوتوغرافيا دور مهم في تسليط الضوء على المجتمع وهمومه، إذ يستطيع الخبراء مقارنة الصور وقراءة تطوّر المجتمع من خلالها.
الذاكرة البصرية مهمة لكل الشعوب، وكثير من التطوّر البشري يدين لاختراع آلة التصوير، التي غيّرت وجه العالم بشكل كبير. ومنذ دخولها العراق، أتاحت لنا معرفة شكل الشوارع والناس في تلك الفترات.
وفي هذا المجال، برزت تجربة لطيف العاني، الذي وثّق العراق من شماله إلى جنوبه خلال الستينيات، ونالت أعماله اهتماماً دولياً، إذ تعكس مقارنة واضحة بين الماضي والحاضر في العمران والأزياء والشوارع. وعلى الجانب الآخر، ركّز المصور ناظم رمزي على حياة البسطاء والكسبة والفلاحين.
يزخر العراق بأعمال فوتوغرافية مهمة لم تلقى الاهتمام، كما ضاعت أرشيفات العديد من المصوّرين، بسبب غياب متحف أو مؤسسة تحفظ هذا الإرث. وغالباً، بعد وفاة المصوّر، يجد الورثة صعوبة في التعامل مع أرشيفه، فيُتلف دون إدراك لقيمته، ما يستدعي جهوداً حقيقية للحفاظ على هذا الكنز البصري.
تركز في صورك على المُهمّش من الأماكن والمنسي من حياة الناس، وكأنك تبرز حاجة الإنسان إلى استقرار لا يحظى به.
للفوتوغراف رسالة خاصة، كونه أصدق وأدق وسيلة لنقل الواقع، على الأقل قبل الثورة الرقمية ودخولها عالم التصوير.
ولدت وترعرعت في محافظة كربلاء، في أحد أقدم أحيائها، وسط عائلة كادحة، حيث كان والدي يعمل نجاراً في سوق باب السلالمة، وهو سوق شعبي يعرض فيه الفلاحون منتجاتهم صباحاً، بينما تتحول الدكاكين بعد الظهر لبيع مختلف البضائع.
رافقت والدي إلى ورشته منذ كنت في الخامسة، إلى جانب دراستي، هذه البيئة جعلتني قريباً من مختلف شرائح المجتمع، فشهدت معاناة الكسبة والباعة وسعيهم وراء لقمة العيش. لهذا، وجّهت عدستي نحو الأمكنة المنسية وأصحاب المهن البسيطة، لأنني أؤمن أنهم الأكثر استحقاقاً للاهتمام والتوثيق.
ما التحديات التي واجهتها أثناء تصوير الأشخاص في هذه البيئات؟
تصوير الناس وحياة الشارع من أصعب أنواع الفوتوغراف، لما يتطلبه من مهارة في التعامل مع الأشخاص والتقاط الصور بعفوية دون إثارة انتباههم، ما يعزز موثوقية الصورة. في الوقت نفسه، يجب على المصوّر احترام خصوصية الأفراد في عدم الظهور أو التصوير.
أحرص على بناء علاقة ودية مع الذين أصوّرهم، سواء قبل التصوير أو بعده، ما يساعدني على العمل بأريحية حتى في المناطق الحساسة. ومن خلال خبرتي الطويلة في التعامل مع الناس، طوّرت أسلوباً يتيح لي التصوير دون إثارة حفيظتهم.
إذا أردنا أن نقيّم المشهد الفوتوغرافي في العراق، هل نجده حاضراً أم مجرد ممارسات ثانوية؟
عانى الفوتوغراف في العراق من التهميش، نتيجة ضعف الوعي بأهميته من قِبل المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، إلى جانب قلة الدعم لهذا الفن. ظل التصوير على هامش النشاطات الرسمية، ولا يتم الالتفات إليه إلا عند الحاجة.
عندما رغبت في إقامة معرضي الأوّل عام 1995 في إحدى القاعات الفنية المهمة ببغداد، قوبل طلبي بالرفض، بحجة أن الفوتوغراف أقل شأناً من الفنون التشكيلية، رغم أنه لا يقل تعبيراً عنها.
وحتى اليوم، لا يحظى التصوير بالدعم الكافي. صحيح أنه ما بعد عام 2003 أتاح حرية أكبر للمصوّرين لعرض أعمالهم، بفضل مواقع التواصل، لكنهم ما زالوا يواجهون مضايقات أثناء التصوير بسبب الجهل بالحدود بين المسموح والممنوع.
الفوتوغراف أصبح أكثر حضوراً في المشهد الثقافي والفني والاجتماعي، لكنه بحاجة إلى مؤسسات أكاديمية وفنية تُثقف المصوّرين بأهمية الصورة وتوثيقها. للأسف، الكثير من العاملين في هذا المجال هم مجرد حاملي كاميرات، لا يمتلكون رؤية فنية وثقافية.
شغلت منصب رئيس جمعية المصوّرين العراقيين لفترة طويلة. ما الدور الذي تلعبه الجمعية؟
تأسست الجمعية عام 1972، وكانت من الجمعيات المهمة في العراق. بعد عام 2003، واجهت خطر الإغلاق بسبب التغيرات القانونية، ما تطلب جهوداً لتكييف وضعها القانوني، وتم الاعتراف بها كمنظمة مجتمع مدني في 2014.
توليت رئاسة الجمعية لمدة 12 عاماً (من 2012 حتى 2024)، وخلال هذه الفترة، عملنا على تطوير الفوتوغرافيا في العراق عبر تنظيم معارض نوعية، خصوصاً المعرض السنوي الذي يستقطب معظم المصوّرين، إلى جانب إقامة ندوات ثقافية ومعرفية، ومنها الندوات الأسبوعية خلال جائحة كورونا، التي استضافت مصوّرين وفنانين ومثقفين من العراق والعالم العربي.
كما عززت الجمعية حضورها في الأنشطة الرسمية عبر عرض صور تناسب المناسبات الوطنية، والمشاركة الفاعلة في تنظيم الأحداث والمعارض الفوتوغرافية.