برزت إشكاليات في حركة الشعر العراقي، تتعلق بتقسيم الشعراء وفق أطر زمنية ضيّقة، وتصنيفهم على أساس الأجيال والأعمار. وحاول البعض إضفاء طابع خاص على كل جيل من الشعراء، اتخذ في كثير من الأحيان شكل التجييل العقدي.
يأتي كتاب “الحقيقة والوهم.. في تجييل الشعر العراقي”، للناقدة والأكاديمية نادية هناوي، الصادر عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر (2023)، ليعيد النظر في ظاهرة تصنيف الشعراء، وفق موجات زمنية تُعرف بالتجييل.
ناقشت هناوي هذه الظاهرة مع “الشرق”، وأكدت ضرورة إعادة الاعتبار للإبداع الأدبي، بعيداً عن الإطار الزمني المفتعل، لصياغة فهم نقدي أعمق.
إذا أردنا أن نتوصل إلى فهم دقيق لمفهوم التجييل، فما هو؟
التجييل مفهوم زماني يصنّف المبدعين في مجموعات، ولكل مجموعة ملامحها المشتركة وسياقاتها وأنماطها.
اختلف البعض في تحديد عدد سنواته؛ فقيل هي عشرون عاماً أو خمسة وعشرون أو ثلاثون. واتخذ التجييل في أوروبا إبان النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعداً نقدياً، لا سيما بعد ظهور نظرية “سانت بيف” الاجتماعية، التي صنّفت الأجيال الأدبية وفق سنة الميلاد، مع التركيز على الصفات الشخصية أو الحياة الأسرية والفكرية، لكل فرد من الجيل الواحد.
أما تحقّق المفهوم على مستوى الشعر العالمي، فكان في ستينيات القرن العشرين، حين ارتبط التجييل بانتفاضات وثورات قادها الطلبة في أوروبا والولايات المتحدة والصين.
ما الفرق بين التجييل كمفهوم أدبي وبين كونه مجرد تقسيم زمني أو تاريخي؟
الفهم الشائع للتجييل أنه تحقيب تاريخي، لا يعطي اعتباراً لمسألة التفاوت في العطاء الإبداعي عند أدباء الجيل الواحد. وهذا الفهم غير واقعي، لأنه يقوم على فكرة أن المشتركات عامة وجماعية، ما يجعل التساوي بين الأدباء ضمن الجيل الواحد، حاصلاً في كل شيء وبشكل كمّي.
إذن ليس هناك تجارب مختمرة، كما لا تمايزات نوعية في خصائص الكتابة الإبداعية تنظيراً وممارسة.
أما الفهم الأدبي للتجييل، فيستند إلى فكرة وضع الأدباء في خانات وفق معايير زمانية مدروسة، وبحسب منظورات عملية، يتم في ضوئها تحديد الجيل الأدبي.
ومن المنظورات مثلاً المنظور الثقافي الذي يقوم على التقارب الفكري وتجانس الرؤى. وهناك المنظور النخبوي القائم على تمايز أفراد يحصلون على امتياز في توجه أو اهتمام معيّن.
هل أسهم النقّاد في ترسيخ فكرة التجييل على حساب قراءة الشعر كإبداع فردي؟
راهن بعض الأدباء والنقّاد على التجييل، من خلال ما نشروه من مقالات وبيانات، وما كتبوه فيما بعد من شهادات وحوارات، وما ألّفوه من كتب. وأعانتهم على ذلك الظروف الاستثنائية التي شهدها العراق خلال الربع الأخير من القرن العشرين.
والمفارقة تتمثّل في انسياق الدارسين، سواء من الأكاديميين وغير الأكاديميين، إلى موضوعة التجييل بطريقة اتباعية، تتوافق ورؤية أولئك الأدباء والنقّاد، سائرين من دون أي وازع منهجي بتبني منظور مفاهيمي بعينه، تتحدّد وفقه المقايسة الجيلية تحديداً علمياً.
ما الأسباب التي أدّت إلى انتشار ظاهرة التجييل في الأدب العراقي منذ ستينيات القرن العشرين، وكيف انعكس ذلك؟
صدمة التحوّل التي جاءت بها حركة الشعر الحرّ، هي التي دفعت بعض الشعراء، إلى البحث عن سبل يعلنون من خلالها القطيعة مع روّاد هذه الحركة، فكان التجييل العقدي هو ضالتهم التي من خلالها عبّروا عن ردة فعلهم، وطبيعة تعاملهم مع ذاك التحوّل الشعري الكبير.
وكان لممارسة بعض الشعراء الكتابة النقدية، دور فاعل في تضخيم صورة الشعر في الستينيات، اعتماداً على العقدية معياراً، ووجّهوا جل اهتمامهم نحو الشعراء وليس الشعر.
اليوم تسير هذه الظاهرة بشكل تصاعدي مستمر، حتى تبلورت عنها تعابير مختلفة، يستعملها الدارسون وبعض الكتبة، وكأنها مفاهيم مفروغ منها، مثل جيل ما بعد الستينيات، وجيل ما بعد الريادة، وجيل ما بعد الروّاد، وجيل ما بعد التسعينيات، وأجيال ما بعد السبعينيات…
وثمّة من يتعامل مع التجييل بشكل كتلوي، يركز على فئات بعينها باستعمال تعابير الموجة الستينية، أو الظاهرة السبعينية، أو الروح الحية، أو الموجة الصاخبة، أو النزعة الحداثية، أو التمرحل التحديثي أو الانفرادات.
كيف أثّر التجييل العقدي على حركة الشعر في العراق، وهل يعدّ محاولة لتجزئة الحركة الشعرية أم أنه إطار لفهم تطوّر الشعر؟
لم يتمكن بعض الشعراء، سواء ممن جايلوا روّاد حركة الشعر الحرّ أو الذين جاؤوا بعدهم، من تقبّل هذا التحوّل الكبير، فتفاوتت ردود أفعالهم بين الرفض والمغالبة.
كما سعى بعض الأدباء والنقّاد إلى المناكدة في هذا السياق، لكن تأثيرهم على حركة الشعر العراقي كان محدوداً، إذ انحصر أغلب ما كتبوه في استعراضات تاريخية للمسيرة الفنية، من دون تقديم نقد موضوعي يقيّم أحقية هذه التجمّعات في إحداث التجديد.
ومعلوم أن التحوّلات الشعرية تتخذ أشكالاً متعددة، ومع الاستمرار والممارسة تتحوّل إلى تقاليد راسخة. وبما أن ترسيخ التقاليد يستغرق زمناً طويلاً، فإنه لا يحتاج إلى شاعر يدافع عنها، بل إلى مؤرّخ أدبي يوثّق مساراتها المختلفة.
مع تزايد استخدام الشعراء لوسائل التواصل، هل أسهمت هذه المنصّات في تفكيك مفهوم التجييل أو عززته وأعادت صياغته؟
لا تعويل على المتداول من الأحكام والآراء في منصّات وسائل التواصل بالعموم، لأنها – باختلاف أنواعها وطرق التفاعل معها – تبقى في حدود التعاطي الآني والعابر للأشياء، بعيداً عن التحليل العلمي والتقييم المنطقي.
ومن ثم هي ليست مقياساً يمكن الركون إليه عند البحث في ظاهرة التجييل العقدي. ومن الحق القول، إن العلاقة بين السابق واللاحق من الشعراء، هي علاقة امتداد وتواصل، وهكذا ينبغي أن تكون، وليس العكس، أي علاقة شدّ وجذب وقطيعة وصراع.
كيف يمكن النظر إلى الإبداع كعملية مستمرة عابرة للأجيال، تتجاوز مفاهيم العمر والزمن؟
لا يشترط في التجييل أن يكون مشتملاً على تحوّل فني معين، كما ليس لكل جيل أن يشهد تصاديات وصراعات، بل هو أمر مخصوص بظروف ومقوّمات تعطي التجييل قوّة، منها مثلاً أن تتوفر موهبة عالية يكون لها أثرها في الشعر.
وبسبب هذا، اعتبر البعض أن روّاد قصيدة الشعر الحرّ جيلاً لوحدهم، كما أن قوّة القصيدة الجواهرية جعلت من شاعرها عابراً للأجيال، والجواهري اليوم صوت القصيدة العمودية في العراق والوطن العربي. ولم يجرؤ أحد على مزاحمته في هذا المجد الشعري.
أما افتعال الصراعات والتشهير بالعيوب والمنافرة بالأيديولوجيا والمنابزة بالأعمار، فلن تستطيع أن تصنع مجداً.