ماذا نصنّف طاهر المعتز بالله، المهندس المصري المولود عام 1990، ويحمل شهادة عليا في إدارة الأعمال من “هارفرد”، وهو كان من أوائل الذين كتبوا لبرنامج “الدحيح”، بعدما انتقل صاحبه، أحمد الغندور بعرض “وان مان شو” على يوتيوب، إلى برنامج بانتاج محترف، وفريق عمل راح يكبر مع تصاعد شعبية الدحيح عربياً، بما لا يقاس مع أقرب منافسيه العرب.
الغندور، صديق المعتز بالله، يمكن تصنيفه بأنه “صانع محتوى”، يقدّم زبدة الجهد الجماعي للبرنامج، من البحث إلى الكتابة، إلى شخصية “الدحيح” الفريدة من نوعها، والمصنوعة خصيصاً للبرنامج. يتفوّق الغندور في تقديمها بصفته الشاب الذي نعرفه في المدرسة والجامعة والحي، مدمن قراءة يتطوّع دائماً لأن يخبرك بما لديه من معلومات، بمرح لا يخلو من التشاوف اللطيف، وبخفّة دم فطرية.
كتابة جديدة
المعتز بالله، قبل سلسلة كتب الدحيحة الصوتية على تطبيق “ستوري تيل”، كان يمكن تصنيفه بأنه كاتب، لهذا النوع الجديد من الكتابة، لمحتوى مرئي للسوشال ميديا بالتحديد، حيث أن الشخص الذي يحكي مع مشاهده لا يحاضر في جامعة، لكنه أيضاً ليس في دردشة مع من يشاهده في المقهى.
هو أقرب إلى حوار من جهة واحدة، لشخص يريد أن يخبرك عن “الماسونية” مثلاً، من دون أن يضجرك، ومن دون السقوط أيضاً في فخ الاستسهال، أو خطيئة إرضاء قناعاتك الثابتة بنظريات المؤامرة.
لذا، سيتعمّق في البحث الذي يكاد يكون استقصائياً، ويقدّم معلومات مبنية على مصادر ومراجع واستنتاجات، مبنية على وجهة نظر، لا تدّعي الموضوعية، لكنها تبني على تراكم الثقة بين الطرفين. المُشاهد و”الدحيح” الذي يقف في كواليسه إنتاج كامل من كُتّاب ومنتجين ومخرج، أو بالأحرى “دحيحة”، كما اسم مجموعة الواتساب التي تضمّ الغندور ورفاقه.
“ستوريتل” السويدي
طاهر كاتب إذاً، حتى وهو يطلق الكتب الأولى من سلسلة “الدحيحة”. ويقول عن هذه التجربة لـ”الشرق”، إنها بدأت بتطبيق “ستوريتل” السويدي، “الذي استحوذ على تطبيقات كتب مسموعة عربية، لأنه مهتم بسوق المتحدثين بهذه اللغة، وعرضت على الغندور التعاون معه للاستفادة من شعبيته العالية في تقديم التطبيق إلى المستهلك العربي”.
المشروع الذي قدّمه الصديقان لـ”ستوريتل”، هو تماماً كالوصفات التي تدمج مطبخَين عالميّين ببعضهما بعضاً، (fusion). إنها خلطة من الكتاب الصوتي بمعناه التقليدي، مكتوب لجمهور السوشال ميديا.
بمعنى آخر، الكتب المسموعة منذ عقود بعيدة، تعتمد على إعادة إلقاء كتب مطبوعة، والمؤثرات المستخدمة حديثاً لأصوات الشخصيات، الموسيقى وغيرها لا تنفي أن الأصل في الكتاب الصوتي، هو قراءة النصّ الذي وضعه المؤلف وفي باله قارئ، وليس مستمعاً.
المعتز بالله، وضع كتابه الأول من السلسلة بعنوان “الدحيح”، وعن صديقه الغندور، وبإلقائه نفسه، وفي باله من البداية أنه يكتب لمستمع، لا لقارئ ولا لمشاهد.
سيل من الحكي
ما الفرق بينه وبين البودكاست إذاً، أو حتى بماذا يختلف عن البرنامج؟ الوسيط الإعلامي هنا هو المختلف. نحن أمام حلقة تمتدّ من أربع ساعات إلى أكثر من 13 ساعة، في حالة كتاب “القيصر” عن فلاديمير بوتين. هذه فترات تُعتبر مستحيلة على مشاهد اليوتيوب، كما على مستمعي البودكاست، إلا إذا قسّمت بدورها إلى أجزاء.
لكن من يلجأ إلى تطبيق كتب صوتية، يعلم أن الوحدة الزمنية فيه تُحسب بالساعات وليس بالثواني كما في عوالم السوشال ميديا. لذا، فالرهبة الأساسية ليست من عامل الوقت، بل من إبقاء المستمع مهتماً، أو بالأحرى مستمتعاً بهذا السيل الذي لا ينقطع من “الحكي”، وهو بالتحديد ما يقدّمه المعتز بالله.
وكي تحكى حكاية بنجاح، يلزمها أن يكون الحكّاء نفسه ماهراً، أن يعرف كيف يلقي وأين يُدخل الدراما إلى صوته، وبأي نغمة يرمي “الإيفيه” المصري المقدّس.
هذا في الشكل، أما في المضمون، فيقول المعتز بالله “إن السير الذاتية التي اعتمدها للسلسلة، فيها الحبكة الأوّلية للقصّة التي يكون بطلها فرداً مستحقاً لأن تروى قصّته، مثل الأميرة ديانا، أو محمد صلاح، أو ألبرت آينشتاين”.
يضيف: “وأن تحكي سيرة هذا الشخص، فستكون جزءاً من زمن وظروف سياسية واجتماعية، وفي سياق أحداث وتغيّرات مجتمعية تبادلت التأثر والتأثير ببطل الحكاية”.
“القيصر” أو بوتين
كتاب “القيصر” عن بوتين، وهو أطول كتب السلسلة حتى الآن، تنقّل في الزمن بخفّة بين حاضر روسيا، وماضيها القيصري ثم الشيوعي، إلى انهيار الاتحاد السوفياتي، ليعرض سيرة ذاتية ليس لبوتين نفسه، بل لروسيا كلها والتقلبات السياسية والاقتصادية التي أنتجته كشخص ثم كسياسي.
هذا الكتاب الذي لم يترك تفصيلاً مطلوباً لم يضعه في تركيب بازل فلاديمير بوتين، يُلقى كله بالعامية المصرية، من دون أن يفقد سياقه للحظة، حتى مع عشرات الإيفيهات المضحكة والتلميحات الذكية، التي يقدّمها الحكّاء بصفتها عفوية وبنت لحظتها، إلا أنها محسوبة ومكتوبة، وفي خضم سيناريو كامل في الكتابة، يقوم على عناصر التشويق في توقيت تقديم المعلومات، والانتقال من موضوع إلى آخر، ومن زمن إلى آخر، ثم العودة إليه.
شباب الشاشة
هذا الشكل الحديث للمُنتج، مبني على بحث معمّق ومعروض وفق آليات تصوّر جديدة لمتلقٍ شاب، ملول، اهتمامه مرتبط مباشرة بسبابته التي تتحرك صعوداً ونزولاً على شاشة تلفونه.
آليات اقتراح أفكار للنقاش، تتعلق بجوانب الحياة كلها من العلوم البحتة إلى الفلسفة إلى السياسة إلى الأدب، وإلى الانفتاح على التعامل مع المعلومة أو الرأي، كائناً ما كانا، بصفتهما باباً لأفق شخصي أوسع للمتلقي، للتشكيك والسؤال وطلب المعرفة، وليس اتهاماً جاهزاً ومعلباً بأن هؤلاء “الدحيحة”، والغندور والمعتز بالله أشهرهما، لديهما أجندة خفية يعملان عليها ضمن مؤامرة “لدس السم في العسل”، كما يذهب القول الذي لا تخلو خانة التعليقات منه في كل فيديوهات الدحيح.
سمّ الإلحاد حين يكون الموضوع علمياً، وسمّ الماسونية حين يكون الموضوع عن “نظرية المؤامرة”. أما العسل، فهو ما يُمدح “الدحيحة” عليه، أي “المعرفة المسلية” التي يبرع هؤلاء فيها ويثبتون تفوّقهم فيها يوماً بعد يوم.
لا يعود مهمّاً والحال هذه، تصنيف المعتز بالله ذاته، أو تصنيف ما إذا كان منتجه كتاباً، طبع العديد من الحلقات ورقياً ونشر إلكترونياً. ليس في مكانه أيضاً السؤال عما إذا كان يصحّ أن يكون كتاب بالعامية.
السلسلة هي إنتاج مدمج من وسائط عدّة، مبنية على أرض صلبة مشتركة، الجهد في البحث، وحرفة الكتابة. حتى أن وصف الكتاب الصوتي قد لا يفي المعنى، بل يمكن نعته بكتاب فرط صوتي، في محاولة إيفيه، لا شك أن سببها العدوى من كثرة السمّ اللطيف الذي يدسّه المعتز بالله في عسل كتبه.