يبدو أن هاجس الورقة البيضاء الذي يؤرق الأدباء، لم يعد مشكلة لدى الكاتب الحالي، فما عليه سوى أن ينقر أي كلمة تخطر له على أحد مواقع الذكاء الاصطناعي مثل ChatGPT وغيره، فتمنحه في الحال عشرات الاقتراحات، ويشرع حالاً في الكتابة. كما يمكن للكاتب أن يطلب اقتراحاً آخر لتطوير كتابته، فيتحقق له ذلك.
ذلك ما قامت به الروائية اليابانية كودان ري، البالغة من العمر 33 عاماً، التي اعترفت بأنها كتبت روايتها “طوكيو تو دوجو تو” أو “برج الرحمة في طوكيو”، بمساعدة الذكاء الاصطناعي “جزئياً”، أو بنسبة 5% من مجمل الرواية، التي نالت جائزة “أكوتاغاوا”، أرفع جائزة أدبية في اليابان.
وقالت الكاتبة في هذا الصدد: “استخدمتُ في كتابة الرواية المستقبلية، استخداماً مكثّفاً للذكاء الاصطناعي، وأنوي في المستقبل، استخدامه للنصوص بأفضل ما يمكنني لكتابة الروايات، مع إظهار إبداعي الخاص”.
ليست الكاتبة اليابانية وحدها من لجأ إلى هذه التقنية، بل فعل الأمر نفسه شين يانغ، الأستاذ الفخري في كلية الصحافة في جامعة “تسينغهوا” في بكين، أثناء تأليف روايته التي تنتمي إلى الخيال العلمي بعنوان “أرض الذكريات”، ونالت جائزة في مسابقة أدبية، “إذ كتبها يانغ بالكامل معتمداً على الذكاء الاصطناعي”، بحسب “لوجورنال دو مونريال” الكندية.
وتوجد مئات الكتب المعروضة للبيع على منصّة أمازون، كتبها أو شارك في كتابتها “تشات جي بي تي”، كما يُعرض للبيع حالياً أكثر من 200 كتاب يحمل توقيع المؤلف “شات جي بي تي” على الموقع نفسه.
الأصل نهب وقرصنة
يزعزع هذا الأمر مجال الكتابة الإبداعية، كما يخلخل الثقة بخصوصية الإبداع البشري، الذي يميّز الكاتب الإنسان عن باقي الكائنات، ويعبّر عن إمكاناته الفكرية والعاطفية والخيالية، وهي من القضايا الكبرى التي أصبحت تقضّ مضجع عالم الأدب والفن، فالأرقام والمعطيات، تؤكد على حقائق جديدة ومخيفة بالنسبة لهم.
لكن ما يثير الدهشة هو أن كل ما تكتبه الآلة، مستوحى في الأصل من تجميع هائل لمئات الآلاف من الكتب، في شتى الأجناس الإبداعية والفكرية التي أنجزها الإنسان.
كما تمتصّ هذه التقنية، كل ما هو متوفّر على الإنترنت، سواء كانت مشاعاً أو محمياً بحقوق الناشر والمؤلف. وهذا الأمر يوفّر قاعدة بيانات لانهائية، فيما يشبه عملية نهب وقرصنة، تستحيل المحاسبة معها، على الرغم من قيام كبريات الصحف العالمية بسن قوانين وإجراءات تحدّ من هذا الأمر.
استنساخ لا نهائي
هذه النوعية من الكتابة لا تولد من فراغ، بل هي استمرار لعملية استنساخ، يمكن اعتبارها قراءة لا نهائية، تدمج ما تقرأه وتعيد بثّه فيما بعد، في عملية توليد ميكانيكي للنصوص، كما لو أن الذكاء الاصطناعي يتماهى مع عقل بشري بحجم الكون.
لكن ذلك يتحقق مع فارق أساسي، يؤكد عليه الباحثون والمهتمون، يتجلى في كون الإبداع البشري، يعتمد على الأحاسيس والبنية الشعورية، التي لا تتوفر عليها الآلة، مهما بلغت من تطوّر. وهي ما يسمى بالأسلوب والطابع الشخصي لكل كتابة بشرية.
الكاتب سلمان رشدي أدلى في ندوة على هامش معرض فرانكفورت للكتاب عام 2023 بتصريح لـ”فرانس إنفو” قال فيه: “طلب البعض من منصّة ذكاء اصطناعي كتابة 300 كلمة بأسلوب سلمان رشدي، فكانت النتيجة سيئة للغاية”.
أضاف: “أي شخص قرأ 300 كلمة من كلماتي، سيدرك على الفور أنه لا يمكن أن أكون أنا من كتبها. لذلك في الوقت الحالي، لست قلقاً بشأن ذلك”.
ويؤيّد الكاتب الكندي دانيال غروسلو، مؤلف كتاب “القلم الرقمي، استخدام الذكاء الاصطناعي من أجل صناعة نصوص ناجحة”، محدودية الذكاء الاصطناعي في الإنتاج الأدبي وكتابة الروايات، ويقول: هو سيساعد المؤلفين الذين لديهم القدرة على الكتابة بالفعل، لكن من الخطأ الاعتقاد بأنه قادر على تأليف كتاب كامل”.
يضيف: “لن يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحل أبداً محلّ الإنسان، لأنه لا يمتلك مشاعره. عندما يتعلق الأمر بالعثور على المشاعر في الشخصيات أو وصف الأمكنة، سيقترب من ذلك، لكنه لن يكون أبداً مثل المؤلف.” (لوجورنال دو شامبلي، 21 أبريل 2024).
“موت المؤلف”
يبدو هذا الكلام مطمئنا للكُتّاب بالفعل، إذا ما اعتبرنا أن الإبداع يرتكز على أساس صلب، ليس من طبيعة الروبوتات. يتعلق الأمر بالتجربة الشخصية المرتبطة بصلة وثيقة بالكتابة، حيث يندرج اللاوعي الإنساني والعواطف والتواصل الحميمي مع القرّاء. إنها ببساطة جوانب يصعب على الذكاء الاصطناعي أن يفعلها.
وبالرغم من ذلك، تبقى المخاوف من أن يختفي الكاتب لحساب الآلة قائماً، ولا أحد يعرف إلى أي حد ستصل إليه القدرات العلمية في هذا المجال.
ولو حدث أن وصل العلم إلى تحقيق الأمر، فستتحقق نبوءة الكاتب رولان بارت، الذي أعلن “موت المؤلف” في نصّه الشهير الذي نشره سنة 1967، ودعا فيه إلى نقد أدبي لا يحلل النص الإبداعي انطلاقاً من حياة وأهواء كاتبه النفسية، بل من النصّ ذاته. وإذا أردنا إدراج بعض السخرية هنا، فالنصّ الذي يكتبه الإنسان الآلي منذور لهدف كهذا بالكامل.
ترويض الوحش
بناء على هذه المعطيات، فإن موت المؤلف غير وارد على الاطلاق، وكذلك اختفاؤه، لأن المتوقع بالفعل، هو ظهور مؤلف يدمج آلية الذكاء الاصطناعي في اشتغاله الأدبي، ويجعلها حليفته في الكتابة والابداع. إنه نوع من إعادة ترتيب جذرية لمشهد الإبداع التخييلي، في بوتقة تعاون مشترك ومفيد، فرضه عصرنا الحالي.
وكما تقول برناردين إيفاريستو، الفائزة بجائزة “بوكر” عام 2019، لصحيفة “الغارديان: “إنه وحش مثير للإعجاب، لكنه وحش يجب ترويضه، ولا يمكننا تجاهله”.
يظهر جليا أن التأقلم مع الذكاء الاصطناعي التوليدي ضروري للكاتب، إذا ما قرر أن يستنجد به أحيانا. وهو ما لا يعني التخلي عن مهاراته الشخصية المكتسبة بالتجربة، أو هويته الإبداعية الفردية التي نسجها طيلة مساره.
فانتشار منصّات الكتابة الذكية، وتوظيفها كإضافة إيجابية، ستسهم في حفاظه على التنافسية مع زملائه الكُتّاب، شرط أن يبقى هو المحرّك الرئيسي للعمل الإبداعي، مع الحرص على أن لا تصبح النصوص خالية من الروح، وذلك عبر التمرين المستمر لفهم كيفية استخدامه بأفضل الطرق.
خلاصة الأمر، أن كل الطرق تؤدي إلى الكتابة عندما تتعدّد وسائل الإلهام. وهذا الذكاء الجامد شكلاً، الثري في محتواه كمكتبة افتراضية، هو واقع لا يمكن التغاضي عنه في عصرنا.