يعرف الكاتب والشاعر الأردني جلال برجس كيف يصوغ قضايا الإنسان العربي بقلمه؛ وهو ينطلق في رواياته بالفكرة من عمّان، ليرصد ما يعانيه الإنسان العربي من فقر وظلم اجتماعي وسياسي.
في أحدث رواياته “معزوفة اليوم السابع”، صدرت طبعتها الأولى عن (دار الشروق) المصرية، بالتزامن مع انعقاد الدورة 56 لمعرض القاهرة للكتاب، يقدّم “برجس” رؤية رمزية فلسفية للمصير الإنساني، ومدى الاضطراب الذي أصاب الحياة في ظل فساد البشر وتراجع القيم.
“الشرق” التقت الكاتب جلال برجس، الحاصل على الجائزة العالمية للرواية العربية (2021)، وجائزة “كتارا” للرواية العربية (2015)، للحديث عن أحدث رواياته “معزوفة اليوم السابع”، التي ظهر فيها الخلاص الإنساني بشكل غير متوقع.
كيف ألهمك الشاب الغجري الذي يكنس الشارع وهو يستمع للموسيقى في صياغة رواية تنتمي لأدب الديستوبيا؟
ينتمي بطل الرواية، باختو، إلى مخيم غجري تكوّن نتيجة مراحل طويلة من الإقصاء وإبعاد الغجر عن المدينة، وهذا المخيم يفتقر لاحتياجات البشر الأساسية، فهو من دون ماء ولا كهرباء، وحينما ذهب باختو إلى المدينة كان يحمل وعياً جمعياً لكل من وقع عليهم الإقصاء والتهجير والاغتيال، وهؤلاء يمثلون الفئة الواسعة في العالم التي غُلبت وتعرضت للظلم.
باختو نموذج للحياة رغم أن الموت يحيط به من كل صوب، وليس مسموحاً له دخول المدينة إلا ليكنس قمامتها، وعلى الرغم من ذلك، قبل الشاب الذي تعلّم القراءة على يد أستاذ في المخيم، بهذا الدور، وأصبح يحصل على الكتب من القمامة، في دلالة على تراجع مكانة الكتاب في العالم لصالح القيمة التجارية.
ذهب باختو إلى المدينة غير مستسلم، وفي كامل أناقته، وكأنه يعلن رفضه للإقصاء قائلاً: “أنا أكنس قمامتكم بأناقتي، وأنصت للموسيقى التي ننتمي إليها جميعاً، وأعبّر عن كينونتي الإنسانية بالرقص انحيازاً لأصل إلى هذه المدينة، التي بدأت برجل وامرأة”، كنت بهذا المشهد أريد أن أوجع القارئ، وأجعله يتوقف قليلاً عن القراءة ويفكّر فيما وراء المكتوب.
أنت مهتم بأزمات الإنسان العربي لكنك في “معزوفة اليوم السابع” تناولت قضايا الإنسان المعاصر لماذا؟
أزمات الإنسان العربي ليست منفصلة عن العالم، ولها جذور عند الآخر كمسبب وكنتيجة، وحينما أشرت إلى الجنوب كمدينة الجدّ الأوّل ومدينة الغجر، كان تعبيراً عن العلاقة بين الشمال المُستَعمِر الثري الزاخر بالأمطار، الذي يدعي التنوير والثقافة، بالجنوب المستعمَر الفقير الجاف الغارق في التطرّف الذي صنعه الشمال.
إن انطلاقي من هذا السياق العربي إلى السياق الإنساني الأعم، هو محاولة للوصول إلى أصل الأزمة، ولهذا أيضاً كان مجتمع الرواية عالمي، سواء في أسماء الشخصيات أو تركيبتهم العرقية؛ فهناك الأبيض والأسمر والأصفر، ومن الضروري الإشارة إلى أن الكثير في هذه الرواية يخضع لإدراك القارئ وحريته في تأويل المكتوب.
تمنح المهمّشين أدوار البطولة في رواياتك، وتفكّر بالغجر وهم يحكمون العالم.
نعم أبطالي من المهمّشين وأنا منهم، وفي يوم ما سينتصروا للحياة وستنتصر الحياة لهم، والغجري مُغرق في الموسيقى، وهو كائن غير مستقرّ، فهم “أبناء الريح”، ويحب الألوان وبارع في القفز على الأوجاع، والانتصار للفرح رغم صعوبة حياته، وهو شخص تمّ إقصاؤه من المؤسسة الرسمية ومن المؤسسة الأهلية، وفي “معزوفة اليوم السابع” كان التساؤل كيف سيكون العالم إذا حكمه الغجر في يوم من الأيام؟
ألم يكن مغرياً لك أن تكتب رواية عن مجتمع الغجر فحسب؟
قد يكون مشروعاً مستقبلياً، لكن “معزوفة اليوم السابع” كانت مبنية على عدد من العناصر، منها السؤال حول ماذا لو احتل الغجر العالم الذي لديه الأمم المتحدة، والمفترض أنه يمتلك استراتيجيات وحقوقاً للإنسان.
استُنفذت كل الحلول في العالم وفشلت في إقامة عالم متوازن، ولا أقصد بذلك رؤية أفلاطونية للمدينة الفاضلة، التي لا أومن بوجودها، لكن أتحدث عن مدينة فيها مستوى متوازن مما نريده في الحياة.
وأمام هذا الفشل، ومن هذا المنطلق، احتلّ الغجر مدينة الجدّ الأوّل، وبدأ “شندور” في إنتاجها وفق رؤية جديدة مستخدماً غجريته؛ فأقام حفلاً في مكان تجمع القمامة، وهي نقطة هامة للتفكير فيها؛ فهذا المكان كان مركزاً لتجمع القمامة، وفي لحظة تحوّل هذا الشخص المستسلم إلى صاحب قرار أزال الحدود بين الهامش والمركز.
لماذا كانت شخصية باختو مختلفة عن شخصية الغجري، وهل من الطبيعي أن ينشأ إنسان في هذه البيئة ولا تضع بصمتها عليه؟
هذا العالم الغجري خرج منه شخص بهذه المواصفات، كأنه المخلّص وهو أمر استثنائي، وفي الرواية قدّمت مخالفة لأمر متعلق بالغجر أيضاً، فهم مثلاً يؤمنون أن الشر يكمن في الكتب، لكن باختو خالف هذا المعتقد لأنه لا يريد أن ينفصل عن المدينة أو يبتعد عنها؛ لهذا قبِل بالعمل في كنس الشوارع، وكان يفعل ذلك وهو بكامل أناقته وتعلّم وهذّب نفسه، وحينما عثر على المخطوط وأوكلت إليه مهمة صعبة وثقيلة، كان قادراً على القيام بها وإنقاذ المدينة.
كيف تصف علاقة الحب بين توليب وباختو في ظل اختلاف العالَمين؟
الحب بمعناه الإنساني الأشمل لا ينمو إلا في منطقة الاختلاف؛ فالمختلفون يشكّلون قطبي المغناطيس الذي ينتج عن تنافرهما شيئاً، وكلاهما بالفعل مختلف.
باختو ابن مخيم الغجر، وأزمته الإقصاء وهو غير مستسلم، على عكس توليب ابنة المدينة المستسلمة لأزمة الاغتيال والقتل، وجمعتهما منطقة الاختلاف، وأدت لنتيجة إيجابية، وهو قيام باختو بمهمته، فتحرّرت توليب من حالة السكون التي تعيشها، وقامت بدورها في سياق الرواية.
لماذا لم يصب اعتلال الحواس الغجر بينما أصاب أهل المدينة كلهم؟
المدينة في كل أنحاء العالم تلوّثت؛ وعلى الرغم من الشبق الهندسي الذي نراه فيها، وما يقال حول حقوق الإنسان وغيره من الطروحات الشكلية، لكن المدينة ملوّثة، وحتى المهمّشين داخل المدينة تلوّثوا ولم يقولوا كلمتهم بخصوص ما يحدث. نعم، هم ضحايا لكنهم لم يخرجوا عن صمتهم ليقولوا كفى، لكن الغجر عاشوا خارج هذا السياق فلم يتلوّثوا.
ما هي رمزية الموسيقى في هذا العمل ولماذا اخترتها للتعبير عنه؟
الإنسان حينما وُجد على هذه الأرض لم يتكلم وإنما أنصت الى الأصوات حوله، فصار كائناً موسيقياً قبل أن يكون كائناً لغوياً. وتشير الدراسات الأنثروبولوجية، إلى أن التواصل الأوّل للإنسان كان باستخدام الأصوات؛ لذلك كانت الموسيقى رغبة في العودة بالإنسان إلى أصله ووجود سياق يجمعه بأخيه الإنسان رغم التنوّع والاختلاف.
توجد على غلاف الكتاب العناصر الثلاثة التي قامت عليها الرواية، وهي المخطوط وهو التاريخ البشري لما حدث ويحدث وما سوف يحدث، والطائر وهو الطريق، والناي وهو الموسيقى والبقعة الشاسعة التي يلتقي فيها الجميع.
لماذا قدّمت الوباء كمرض نفسي ظهر في ظل وجود نسخة شبحية لكل شخص وعدم قدرته على رؤية ملامحه؟
هذه الرواية بنيت على 3 طبقات زمنية، الأولى قديمة، تليها المرحلة الحالية، ثم طبقة زمنية لم تحدث بعد.
طرحت تساؤلاً بسيطاً بما أن الإنسان يعيش في هذه الظروف، حول ما سيحدث في المستقبل الذي سيكون أكثر إيلاماً، ليس بالضرورة فقدان الانعكاس، لكننا قد نصل لمرحلة الانتحار.
قفزت إلى المستقبل بناء على الوضع الحالي. وفي الرواية حينما يقف عمدة المدينة ولا يرى انعكاس صورته، أوّل ما يخطر في ذهنه أنه مات، والحقيقة أنه مات منذ زمن حينما أصبح عمدة المدينة، واقترف كل الآثام لأجل الانتماءات المادية، أنت موجود على هذه الأرض فماذا فعلت سوى القتل والتدمير.
لماذا بدأت كل فصل بجزء من مخطوطة الجدّ؟
كان من الممكن أن أبدأ كل فصل بأقوال كُتّاب عالميين، لكني وضعت بالفعل جزءاً من مخطوطة الجدّ حول وجوده في هذه المنطقة في البداية، لأنني رأيت أنه من المهم ربط القارئ طوال العمل بالمخطوطة وانعكاسها على الأحداث، وهذه الأقوال هي الوصايا التي قدّمها الجدّ الأوّل، وحينما نتأملها- بعيداً عن المباشرة- سنجد أنها تصبّ في عمق الأزمات الإنسانية.
الرواية ترصد حالة اختلال الموازين عالمياً فلماذا أبقيت على نهايتها مفتوحة؟
كان بإمكاني تقديم رواية مشرقة، ولكن لن أخدع نفسي أو القارئ، وحينما أرى بقعاً مشرقة في العالم سأتحدث عنها، كما أن الرواية لا تقدّم حلولاً، لكنها تثير الأسئلة.