أسهمت الديانة البوذية، ولاحقاً الهندوسية الهندية، في تشكيل تاريخ المملكة التايلندية، سياسياً وروحياً وفنياً، بل وحتى تأثيرات الثقافة الصينية التشكيلية، مثل استعمال السيراميك الصيني في زخرفة المعابد.
استفادت مملكة تايلندا من التجارب الوافدة إليها، وجعلها وطنية بامتياز، من تأثيرات الفن الأوروبي المعاصر، إلى الأقنعة، وصولاً إلى الأغاني والموسيقى الهندية، في ثقافة تايلندية هجينة.
الفن الجداري
يتميّز الطراز التايلندي التقليدي المعماري، باستخدام التذهيب والزخارف، وتماثيل ضخمة كناية عن الحراسة والرعاية، تجسّد شخصيات أسطورية من التراث التايلندي.
يزخر الفن الجداري كما النحت بالتذهيب غالباً، عن طريق تقنية لونية شديدة التعقيد، تتطلّب تثبيت اللون الأصفر، ويسمى “الذهب التايلندي”، والحفاظ عليه زاهياً مقاوماً لتأثيرات الأمطار الغزيرة والرطوبة في بلدان جنوب شرق آسيا، مثل تمثال “بوذا الذهبي” في بانكوك، وهو أكبر تمثال من الذهب الخالص (18قيراطاً بارتفاع 3 أمتار)، و”بوذا المستلقي” وهو من أكبر تماثيل بوذا في العالم، ويبلغ ارتفاعه 46 متراً.
يشير اللون الأصفر إلى القيمة الاقتصادية العليا للذهب، وإلى مفهوم الصفاء الروحي والنضج التراتبي، أسوة بالبذرة، ثم السنبلة إلى الحصاد، أي دمج قوّة اقتصادية مع زراعية.
يعتمد الفن الجداري على سرد الحكايات والسير والتعاليم بالتعبير التشكيلي، أي قصص وحكايات مرسومة، كما في الكنائس، وهذا هو ديدن الفن الجداري: من الفن السومري والآشوري، مروراً بالفن الجداري السوفيياتي والمكسيكي، أي فن عقائدي خدمة للأيديولوجيا العسكرية والدينية.
إن بناء المعابد التايلندية، هي تلبية لرغبات السلطة الدينية والملكية، كما هو الشأن مع أوامر الفاتيكان، بشأن رسم الكنائس. لكن نلحظ في الفن الجداري التايلندي، الإشادات الأخلاقية والحِكم والمواعظ الدينية، وليس باعتباره فناً تعبوياً للتحشيد.
يصوّر الفن الجداري في معبد “وات فرا كايو”، دواخل القصور الملكية، وهو من أقدس المعابد وطنياً، وتبرز الملاحم الدينية والسيرة والتعاليم البوذية وقصة رامايانا الهندوسية، فضلاً عن قصائد تايلندية في مديح بوذا، عبر أساليب فنية متنوّعة يدوياً، رسم الطبيعية والطلاسم والحيوانات الأسطورية.
الأب الروحي للفن الحديث
يُعدّ الفنان الإيطالي كورادو فيروتشي، رائد الفن التايلندي المُعاصر، ورمزاً وطنياً تايلندياً. فهو مؤسس مدرسة “سيلبا للفنون الجميلة”. جاء إلى تايلند عام 1923 بناءً على دعوة الحكومة، ليعمل كفنان ونحّات رسمي. تأثّر بالثقافة التايلندية وكرّس حياته لتطوير الفن والتعليم الفني في البلاد، ثم غيّر اسمه إلى سيلبا بهيراسري.
جمع ما بين القواعد الأوروبية للتكوين والتظليل واستخدام التفاصيل الدقيقة مع الروحانية التايلندية، إذ كان النحت الوطني المحلي، مسطّحاً ومزخرفاً، يعتمد على الرمزية والتكرار، فأدخل بهيراسري، قواعد النحت الواقعي الأوروبي الدقيقة للجسم البشري، وإبراز التعبيرات العاطفية الواقعية في الوجوه والأوضاع، ما خلق إحساساً تشكيلياً بالعمق والحجم في المنحوتات.
اللافت، هو عدم قيام الفنان بهيراسري بفرض الأسلوب الأوروبي، بل جعل الروح التايلندية قناة لذلك، مثلما في نصب “الديمقراطية” في بانكوك، تمثال “الملك راما الأول”، و”القصر الرئاسي” بأسلوب أوروبي- تايلندي مشترك، حيث استلهم العمارة المحلية والزخارف، وهنا سر نجاح عرّاب الفن التايلندي الحديث في التلاقح الثقافي.
لعب البروفسور بهيراسري دوراً بارزاً في نشر وتطوير وحفظ الفنون والثقافة التايلندية. تظل إنجازاته تركة عظيمة للأجيال، رغم مرور قرن على مجيء “أب الفن الحديث” إلى البلاد، واستمرت بفضله مسارات حداثوية متنوّعة معتمدة على إرثه الفني.
الفن التايلندي المعاصر
يعرض المتحف الوطني للفن الحديث في بانكوك (Moca) التجارب المعاصرة لفنانين تايلنديين، من أمثال تشالود نيمسامر، تافورن كوسولماني، بانيا فياتشاي، سوبهاسيري تانومفاي، والفنان الشهير جداً د.تشيلمشاي كوسيتبيبات، مُصمّم معبد “وات رونغ خون” (1997)، المعروف أيضاً باسم “المعبد الأبيض”، المتميز بتصميمه الفريد والحديث، مع هيكل أبيض ناصع (يذكّر بتاج محل في الهند)، مزيّناً بقطع زجاجية تعكس الضوء، ما يرمز إلى نقاء بوذا.
صرّح كوسيتبيبات بأن المعبد هو رؤية شخصية فردية له، “حلم فنان قد يستمر بناؤه إلى 60-90 سنة”. تمثّل أعمال هؤلاء الفنانين، الفن التايلندي الحديث، وهي أعمال مشهدية بانورامية بمقاسات متنوّعة كبيرة، غالباً ما تكون اللوحات أفقية، تعتني بالتفاصيل الدقيقة، وهكذا، يكون مسند اللوحة عامراً بها.
تعتمد الأعمال تقنية السرد التشكيلي المبني على التعاليم والقصص البوذية، أو إشادة بالحقيقة والفضائل وغيرها. يسمح الشكل العمودي كما الأفقي الكبير، على جعل الأشكال والشخوص والتأثيرات، على شكل حكاية متسلسلة، وهذا هو ما يميّز هذا النوع الحديث من الفن الوطني ، بينما انحسر هذا النوع الفني من أوروبا.
أما في العالم العربي فيندر حضوره. يكون التلوين بالزيت طاغياً على جل اللوحات، والمعروف عن الزيت، قوّة حضوره وفاعليته في اللوحة، وتقنية استعماله تختلف عن الأكريليك، كذلك تثبيته، الذي يتطلّب مزجه بزيت الكتّان.
هناك أيضاً الألوان الشمسية الحارّة، موزّعة على مساند اللوحات بشكل يخرق التوزيع الهارموني للألوان، إذ يوجد الأحمر بجانب الأزرق الغامق، والأصفر في تداخل مع البنفسجي والأخضر وهكذا. أما منظور اللوحة فهو كلاسيكي. وعليه، يتقيّد الفنان المعني، بتوزيع السرد الحكائي التشكيلي، بل يساعد الالتزام بالمنظور التقليدي، على جعل اللوحة متجانسة على الرغم من وجود الخرق اللوني والتفاصيل الدقيقة جداً.
الأقنعة
يزخر الفن التايلندي بإبداع الأقنعة المتنوّعة، التي يشترك في ثقافتها مع الصين وفيتنام ولاوس، ميانمار وأندونيسيا، تأثيراً بالثقافة الهندية والملاحم مثل رامايانا والمهابهارتا.
استخدام الأقنعة كوسيلة لرواية القصص، هو شكل من أشكال الفن الذي أبدعه خيال البشر منذ 5000 عام، إذ ارتبطت ثقافة أقنعة الوجه بالمعتقدات الروحية والديانة التاوية، أي تحويل المعتقدات إلى شكل مادي فني.
هناك أنواع لا تحصى من الأقنعة بأشكال مختلفة جميلة تشكيلياً وتعبيرياً، مثل “قناع الإيمان”. أصبحت ثقافة الأقنعة لاحقاً، نموذجاً سحرياً خيالياً ذا قيمة، تمّ نقله إلى شعوب في التبت، منغوليا، اليابان، كوريا. تجب الإشارة إلى أن الفنان بيكاسو، اشتغل مستلهماً ثقافة الأقنعة، فكان ذلك حدثاً تشكيلياً في أوروبا يومذاك، احتفالاً بثقافة الشعوب الروحية.
فن الدمى من الجنوب
يُعدّ فنّ الدمى من جنوب تايلندا، جزءاً مهماً من التراث الثقافي التايلندي، حيث يعيش المكوّن الإسلامي، ذو التأثيرات الماليزية. تشكّل الدمى فن خيال الظلّ، مسرحاً تقليدياً يسطّر أنواعاً من الحكايات الشعبية، أبطالها مهرّجون أو شخصيات شعبية هزلية. لا يخلو هذا الفن من تقنية التذهيب واستعمال السيراميك والزجاج بألوان زاهية جداً.
نرى غالباً الحكايات والسرد التشكيلي عند دراسة الفن التايلندي التقليدي والمعاصر، وصولاً إلى الرسم الرقمي أو فن الديجتال.
اللافت أن المشاهد يرى غالباً صورة داخل الأعمال الفنية، أكانت رسماً تشكيلياً، أم صناعة أقنعة، أم دمى. وهذا ما يميّز الفن التايلندي الحديث عن الفن الأوروبي، وكذلك عن التشكيل العربي، إذ يتطلب تنفيذ اللوحة جهداً مركباً مضاعفاً وبحثاً تاريخياً.