جذب المغرب إليه الرحّالة والمستشرقين والفنانين والمصوّرين، وها هو الفنان التشكيلي الفرنسي ماتيس في طنجة بين 1912-1913، يكتشف سحر الضوء في تجربة فنية مثيرة، أسهمت بتطوير فنه، وعمقّت فهمه للضوء فيزيائياً ثم فنياً، في تجربة فريدة لفنان أوروبي، كما في لوحته “النافذة المفتوحة في طنجة”.
تقع دار الصورة في وسط منطقة المثلث الذهبي التاريخي لمدينة مراكش، وهي مؤسسة خاصة، أنشأها الفرنسي باتريك مناش، والمغربي حميد ميرغيني، وتمّ افتتاحها عام 2009 لتوثيق تاريخ المغرب بين (1870-1960).
تضمّ دار الصورة أقدم الوثائق البصرية المهمّة، حول التراث الاجتماعي والجمالي بأنواعه، من خلال عدسة مصوّرين مشهورين؛ هواة، ومحترفين ومجهولين، وضعوا اللبنة الأولى لهذا الفن في المغرب، الذي كان مجهولاً حينها، كما شجّعوا المغاربة على الاهتمام به لاحقاً، ونشأ جيل من المصوّرين المغاربة، ذو إنجازات خاصة.
توثيق بصري للحياة اليومية
تحوي دار الصورة في مراكش على 4500 صورة، تغطي جوانب الحياة المغربية اليومية، مثل الأسواق، والطقوس الدينية، والعمارة التقليدية، والأرياف والأزياء وجبال الأطلس الكبير.
يظهر في الصور المجتمع المغربي بتنوّعه العرقي والثقافي؛ أرشيف للذاكرة الجماعية والثقافية والجغرافيا المغربية، وتبدو مدينة مراكش، فاس، طنجة، والدار البيضاء، من حاراتها الضيّقة وأسواقها التقليدية إلى العمارة الحديثة.
تشكّل هذه اللوحات فرصة لفهم كيف تغيّرت هذه المدن عبر الزمن، وكيف تغيّر المجتمع المغربي وطقوسه وعاداته، في مسار خط زمني لتطوّر نسيجه الحضري والثقافي. زمن تستعيده الصورة ولا يتكرّر إلّا عن طريقها.
عمارة الصور
دار الصورة هي عمارة مراكشية تقليدية مؤلفة من 3 طبقات، كانت رياضاً قديماً، يعكس البساطة والجمال التقليدي المغربي. يرتكز الفناء الداخلي على أعمدة مزخرفة، من القرن التاسع عشر، يشتمل على كاميرات قديمة محفوظة بعناية.
يسمح الفناء المفتوح، للضوء الطبيعي أن يغمر المكان، كما يوفّر مقهى السطح، إمكانية مشاهدة المدينة وحاراتها القديمة، في مشهد بانورامي مفتوح بصرياً، ما يجعل الماضي مفتوحاً على الحاضر، وتمّ تأهيل المكان ليعبّر عن الرحابة والسعة، أسوة بالعين والصورة معاً.
الصورة ليست أرشيف الماضي
لم تعد الصورة اليوم، هي أرشيف الماضي فحسب، إذ لديها إمكانية الخروج والاندماج بالحاضر، فهي هوية ثقافية أوّلاً، تسمح بالحوار والاتصال بالآخر، وهكذا، تستضيف دار الصورة في مراكش، معارض مؤقتة لمصوّرين مغاربة وأجانب، ومنصات للنقاش حول دور التصوير في المجتمع المعاصر، نافذة لفهم المغرب، البلد الغني بتاريخه وتنوّعه. يمكن للزائر أن يرى كيف تشكّلت الهوية المغربية، وكيف انعكست في تفاصيل الحياة اليومية.
كما أسهمت في معارض كثيرة، منها معرض “سبعة رجال مراكش”، عن الشخصيات الدينية المرتبطة بمراكش، التي تسمّى أيضاً “مدينة سبع رجال” ، وأخرى عن الأهمية الروحية والمعمارية للمدينة الحمراء.
كما يقدّم المتحف صوراً غير منشورة عن الأماكن الروحية المقدّسة. يأتي ذلك عبر الصور التي هي جامدة ظاهرياً، لكنها ناطقة بالزمن، تحمله في قصص تتجاوز الزمان والمكان. إنّها دعوة لإعادة قراءة الماضي، حيث تُظهر كل صورة ، أكثر مِمّا تخفي، وبقدر ما تُظهر فهي تُخفي الزمن وراءها، في علاقة المَخفي هو السطح والعلن ذاته.
“الفوتوغرافيا تُجمّد اللحظة، لكنها تُبرز غيابها في الوقت ذاته.” يقول المصوّر بول ستراند، الذي زار المغرب في ثلاثينيات القرن الماضي.
أوّل مصوّر أوروبي في المغرب
زار المصوّر الاسكتلندي جورج واشنطن ويلسون، المغرب عام 1860، وقام بتصوير الأسواق الشعبية والمعالِم التاريخية والطبيعة، وجوانب من الحياة الاجتماعية في مدينتيّ الصويرة وطنجة.
تعدّ صوره من أقدم الآثار البصرية الفوتوجرافية حول المغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر. وهكذا بدأ التعريف بالمغرب أوروبياً، ولم تكن الصورة معروفة ومتداولة مغربياً، بل لم تكن مشهورة عالمياً حتى، ثم جاء بعده مصوّرون من أمثال فريدريك ستافر، وإيميل بورديير، وساهما بتوثيق المغرب.
يقول المُصوّر هنري كارتييه بريسون: “التصوير، هو لحظة لا يمكن أن تتكرّر.” يبدو هذا جلياً في دار الصورة، حيث تُمسك كل صورة لحظة فريدة من الزمن، وتحفظها بعناية، فتخرج إلى العلن عبر المُشاهد من خلال فيزيائية العين، التي ترى وتتذكّر، ولا شيء يمكن أن يكون مفقوداً أو زائلاً. ينطق هذا الشعور بصرياً لتصبح الصور شهادات حيّة على أفعال الزمن، أي المحو، التذكّر، ثم الاستعادة، فلا شيء يفنى أو يزول.
الصورة سوسيولوجياً
ليست الصورة وسيلة التعبير الفني فحسب، بل هي من وسائل التواصل الاجتماعي، لإظهار البنية الاجتماعية والقيم الثقافية للمجتمع الذي أنتجت فيه. تُفهم الصورة في علم الاجتماع، كوسيلة لفهم الديناميات الاجتماعية والسياسية والثقافية، كما أنها أداة للسلطة والتأثير على الجمهور، وخصوصاً بعد انتشار آليات ووسائل التصوير مثل الهاتف النقّال.
يرى بيير بورديو في كتابه “فن شعبي: دراسة حول الاستخدامات الاجتماعية للتصوير الفوتوغرافي”، أن الصورة “ليست مجرد انعكاس للواقع، بل هي أداة اجتماعية تحمل معاني ودلالات تُفهم ضمن سياقاتها”.
ويذهب رولان بارت في الاتجاه ذاته في كتابه “الغرفة المضيئة”، فيرى أن الصورة ليست انعكاساً بصرياً للواقع فقط، بل وثيقة تحمل في طياتها قيماً ومعاني اجتماعية مرتبطة بالسياق الذي التُقطت فيه، تجسّد علاقات القوّة والتفاعلات الاجتماعية، سواء كانت صورة شخصية أو صورة توثّق حدثاً عاماً. “الصورة الفوتوجرافية تُثبت وجود الشيء الذي كان، لكنها لا تخبرنا دائماً عن معناه”.
لطالما كانت الصورة وسيلة لاكتشاف العالم، ولكن في المغرب، لعبت دوراً أعمق. فكانت الكاميرا عند المصوّرين الأوائل أداة لفهم مجتمع غني بالتنوّع الثقافي والجغرافي، وهذا ما نراه بشكل بصري جميل في غرفة “أوتوكروم”، أي تقنية التصوير الملّون كما اكتشفها الأخوان لوميير في العام 1907.
الصورة والاستشراق
تناول الاستشراق جوانب عدّة من الشرق، ولم يترك مكاناً إلا وأعطى رأياً فيه مكوّناً صورة نصيّة (كتب ودراسات) أو فنية (فوتوغراف- لوحة)، غالباً ما كانت نمطية بحسب الكاتب والباحث إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”.
لم تكن الصور التي أنتجها المستشرقون عن الشرق، انطباعات بريئة فحسب، بل كانت مُحملّة بتحيّزات وأهداف سياسية وثقافية، استخدمت كأدوات للهيمنة والتأثير.
هناك فروقات ما بين الصورة عن الشرق العربي، والواقع الحقيقي. التمثّلات الغربية غالباً ما تكون مشوّهة ومغلوطة بحسب إدوارد سعيد.
وهكذا كان الشرق في عين الغرب دائماً بوصفه فولكلوراً وسحراً فحسب؛ كل تفسير أو تأويل ليس خالياً من البراءة. يُركّز رولان بارت مثلاً على العلاقة الاجتماعية بين المُصوّر والمُصوَّر، في ثنائية تكشف عن أبعاد اجتماعية عميقة.
عن دار الصورة في مراكش
“دار التصوير الفوتوغرافي في مراكش، هي جسر بين الماضي والحاضر، لا يقتصر دورها في الحفاظ على التراث البصري المغربي فحسب، بل تعمل أيضاً على توعية الجمهور بأهمية حماية هذا الإرث البصري. تحفّز مبادرات الدار على المناقشات الأكاديمية والفنية حول الثقافة المغربية، وإبراز النسيج الثقافي الاجتماعي الفريد للمغرب، عن طريق عرض تطوّر التصوير الفوتوغرافي في. كما تقدّم دعوة تعليمية وفنية للجمهور للتعمّق في تاريخ المنطقة المتعدّد الأوجه مغربياً وإفريقياً”.