أنهى انتصار فصائل المعارضة السورية المسلحة حكم الرئيس السوري السابق بشار الأسد، موجهاً بذلك ضربة قاسية للطموحات الإقليمية لكل من إيران وروسيا في البلاد، ومع ذلك، فإن الفصيل المسلح الذي يسيطر الآن على دمشق يثير قلقاً كبيراً بسبب ارتباطه بعلاقات تاريخية مع تنظيمات مثل “القاعدة”.
وتراقب واشنطن بحذر الوضع المتطور في سوريا، حيث تهيمن، الآن، “هيئة تحرير الشام” وزعيمها أحمد الشرع، الملقب بـ “أبو محمد الجولاني”، وكلاهما مدرجان رسمياً في قائمة الإرهاب للمنظمات والأفراد بالولايات المتحدة.
وعلى الرغم من محاولات الجولاني، خاصة بعد تقدمه في سوريا مؤخراً، إعادة رسم صورة إصلاحية له ولـ”الهيئة”، تواصل الولايات المتحدة تصنيفهما “إرهابيين”، وفي عام 2017، عرضت واشنطن مكافأة قدرها 10 ملايين دولار مقابل معلومات عن الجولاني، الذي يُعتبر “إرهابياً خطيراً بشكل خاص”، حسب تصنيفها.
وبينما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أن الولايات المتحدة ستعمل مع المعارضة في سوريا على اغتنام الفرصة التي أتيحت بعد الإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد، يبرز تساؤل حول استعداد واشنطن لإزالة “هيئة تحرير الشام” والجولاني من قوائم الإرهاب.
وكان المبعوث الأممي لسوريا جير بيدرسون قال، في تصريحات لمجلة “المجلة”، إن مهمة الأمم المتحدة هي التحدث إلى جميع الأطراف، بما في ذلك “هيئة تحرير الشام”، ما يعني أن ذلك ليس من المحظورات بالنسبة للأمم المتحدة، على حد قوله.
وأضاف: “سنستمر في ذلك، وأعتقد أننا الآن في وضع حيث توجد حكومة انتقالية.. لدينا 3 أشهر ونتطلع إلى العمل مع الأطراف السورية لتحضير ترتيبات انتقالية تلبي المتطلبات التي ناقشناها، فنحن أكثر من راغبين في التواصل والمناقشة مع جميع الأطراف السورية في هذا الوضع”.
وشدد بيدرسون على أن حكومة تصريف الأعمال يجب أن تجلب الاستقرار للبلاد، قائلاً: “أعتقد أن هذا هو موقف وأمل ملايين السوريين في أن يكون هناك هيكل حكم شامل في سوريا منذ اليوم الأول.. آمل حقاً أن نرى هذا أيضاً خلال فترة الأشهر الثلاثة هذه، فقد لاحظت الحديث عن الاستعداد لدستور جديد وأنواع اخرى من ترتيبات الانتقال بعد 3 أشهر، لذا ما نركز عليه هو أن تجلب هذه الأشهر الاستقرار وتجلب الشمولية لتشمل كافة السوريين دون انقسامات وصراعات جديدة خلال هذه الفترة”.
واعتبر خبراء ومحللين تحدثوا مع “الشرق” أنه في حال إزالة “الشرع” و”هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب لن تكون سابقة، لكنها تتطلب عدداً من المعايير والشروط، لافتين إلى أنه لا يزال هناك جدل محتدم في واشنطن حول كيفية التعامل مع “هيئة تحرير الشام” في المرحلة المقبلة، وسط تساؤلات حول طبيعة دورها المستقبلي وتأثيرها على التوازن الإقليمي.
إزالة “هيئة تحرير الشام” من قائمة الإرهاب
وارتبط اسم الجولاني بتنظيم “القاعدة” في عام 2003، حين انضم إلى صفوف المقاومة ضد القوات الأميركية الموجودة في العراق.
وبعد 3 سنوات اعتُقل الجولاني على يد القوات الأميركية واحتُجز لمدة 5 سنوات، وبعد إطلاق سراحه، أسس الجولاني فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا، والذي عُرف فيما بعد باسم “جبهة النصرة”، إذ سرعان ما نمت وازداد نفوذها في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، خاصة في محافظة إدلب شمال سوريا.
وعمل الجولاني مع أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم “القاعدة” في العراق، الذي أسس لاحقاً ما يُعرف بتنظيم “داعش”، لكن الجولاني رفض الانضمام إلى التنظيم الجديد، معلناً استمرار ولائه لـ”القاعدة”.
وفي عام 2016، أعلن الجولاني قطع علاقاته مع “القاعدة”، وأعاد تسمية “جبهة النُصرة” بـ”هيئة تحرير الشام”، وهي جماعة مسلحة تحكم إدلب منذ سنوات ولديها جناح سياسي مدني يسمى “حكومة الإنقاذ السورية”.
ورغم الانفصال العلني عن “القاعدة” وتغيير الاسم، استمرت واشنطن والأمم المتحدة ودول أخرى في تصنيف “هيئة تحرير الشام” كمنظمة إرهابية، ما أدى إلى تقليص قدرتها على الوصول إلى المساعدات الدولية والتواصل مع المجتمع الدولي.
لكن نائب وزير الدفاع السابق لشؤون الشرق الأوسط وضابط وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية المتقاعد، مايك مولوري، لفت إلى أن واشنطن تبحث احتمالية إزالة “هيئة تحرير الشام” والجولاني من قائمة الإرهاب الأميركية، مستندة في ذلك إلى وجود حالات سابقة اتخذت فيها الولايات المتحدة قرارات مماثلة تجاه جماعات أو أفراد.
وقال مولري، في حديث لـ”الشرق”، إن القرار “لن يعتمد على التصريحات أو الخطابات التي تصدر عن هذه الجماعة، بل سيُحكم عليها بناءً على أفعالها وتحركاتها الفعلية على الأرض”.
وأضاف أنه سيكون هناك “تقييم مستمر لممارساتها للتأكد من مدى التزامها بالمعايير والشروط التي قد تؤهلها للإزالة من القائمة”، مشيراً إلى أن لدى الولايات المتحدة مصلحة كبيرة في سوريا “ووجود قواتنا وشراكتنا مع قوات سوريا الديمقراطية يشكلان نفوذنا في المستقبل”.
وكان الجولاني استخدم اسمه الحقيقي، أحمد الشرع، في البيانات الرسمية الصادرة قبل سقوط النظام السوري بيوم واحد.
وفي مقابلة مع شبكة CNN بعد سقوط النظام، قال الجولاني: “لا يحق لأحد محو مجموعة أخرى من الأقليات العرقية والدينية في سوريا، فهذه الطوائف تعايشت في هذه المنطقة منذ مئات السنين، ولا يحق لأحد القضاء عليها”.
واقترح الجولاني أن يقوم بحل منظمته من أجل بناء حكومة جديدة تمثل جميع أجزاء المجتمع السوري وتكون قائمة بشكل أساسي على المؤسسات، في خطوة وُصفت بمثابة تحول جذري عن خطابه وآراءه المتشددة في الماضي.
مراجعة كل 5 سنوات
في عام 2021، وفي سابقة غير تقليدية، طالبت “هيئة تحرير الشام” الولايات المتحدة بشطبها من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية.
ووصف الجولاني، حينها، التصنيف بأنه “غير عادل” وأنه ذو طابع سياسي، قائلاً في مقابلة على شبكة BBS في عام 2021: “خلال رحلتنا التي استمرت 10 سنوات في الثورة السورية، لم نشكل أي تهديد للمجتمع الغربي أو الأوروبي، لا تهديد أمني، ولا تهديد اقتصادي، ولا شيء. لهذا السبب تم تسييس هذا التصنيف. ندعو الدول التي اتخذت هذه التدابير إلى مراجعة سياساتها تجاه هذه الثورة”.
وبينما تشير أستاذ ومديرة برنامج الماجستير في الصراع العالمي والأمن الإنساني في جامعة نيوهامشير، ميليندا نيجرون جونزاليس، إلى قيام الولايات المتحدة بمراجعة قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية كل 5 سنوات، وإزالتها بشكل دوري مجموعات وأفراد من قائمة الإرهاب، ترى جونزاليس أن إزالة “هيئة تحرير الشام” أو قيادتها من القائمة ستكون له تداعيات كبيرة، بما في ذلك تغيير ديناميكيات المساعدات الدولية والمفاوضات السياسية والتحالفات في النزاع السوري.
وقالت جونزاليس لـ”الشرق” إن مثل هذه الخطوة “قد تشير إلى تحول في كيفية تعامل الولايات المتحدة مع فصائل المعارضة السورية، لكنها ستثير أيضاً انتقادات بالنظر إلى ماضي هيئة تحرير الشام المثير للجدل وأنشطتها الحالية”، مؤكدة أنه لا مؤشرات حالياً على أن هذا التغيير في السياسة سيحدث قريباً.
ومع ذلك، ترجح جونزاليس، المتخصصة في ملفات الاستجابة الدولية للأزمة في سوريا والشرق الأوسط والإرهاب، أنه من الناحية النظرية، يمكن للولايات المتحدة أن تستخدم إمكانية إزالة “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب الأجنبية (FTOs) كأداة استراتيجية لتشجيع سلوكيات معينة، مثل الإصلاحات في الحكم، من خلال ربط إزالة التصنيف بتحقيق بعض المطالب أو التغييرات وإمكانية الاعتراف الرسمي كجهة حاكمة أو طرف شرعي في المفاوضات السياسية أو المساعدات الإنسانية.
ويتفق الأستاذ المساعد للشؤون الدولية والسياسات العامة في معهد السياسة الدولية في سياتل، ستيوارت جوتليب، مع جونزاليس في أن من “غير المنطقي أو غير العادل إزالة هيئة تحرير الشام من قائمة الإرهاب قبل فهم نواياها بشكل واضح في ما يتعلق بالحكم والسياسة”.
وقال جوتليب لـ”الشرق” إن “هيئة تحرير الشام إذا كانت قد بدأت في المشاركة بالحكم في المناطق التي تسيطر عليها، فمن المهم معرفة كيف ستدير هذه المناطق، وما هي سياساتها المتعلقة باستخدام القوة العسكرية والسلطة”.
وذكر جوتليب أنه نادراً ما تزيل الولايات المتحدة مجموعات من على قوائم الإرهاب، مثل “جيش الشعب الجديد” في الفلبين الذي يعود إلى عقود من الزمن.
طابع سياسي ومعايير صارمة
ويرى خبراء أن قرارات تصنيف المنظمات الإرهابية تستند إلى اعتبارات “موضوعية”، ومع ذلك، فإن إزالة مجموعة من قائمة الإرهاب غالباً ما يثير جدلاً واسعاً ويُعتبر قراراً ذو طابع سياسي، خاصة إذا كانت المجموعة لا تزال نشطة.
وهو ما حدث بالضبط مع جماعة “الحوثي”، إذ قال جوبليت إن “الضرورة السياسية جعلت إدارة بايدن تقوم بإزالة جماعة أنصار الله الحوثي في عام 2021، لمحاولة التقرب من إيران وكسب ودها، ثم أعادوا إدراجهم بعد 7 أكتوبر 2023 لأنهم كانوا يهاجمون إسرائيل والشحن الدولي”.
وتطول الاعتبارات السياسية، أيضاً، في بعض الأحيان الجماعات غير النشطة، فمنذ أحداث 11 سبتمبر، وتوقيع الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش الأمر التنفيذي (13224)، الذي يقضي بوضع “المنظمات الإرهابية وقادتها وأولئك الذين يقدمون الدعم للإرهابيين أو أعمال الإرهاب” على لائحة الإرهاب العالمي، تمت إزالة خمس جماعات فقط من قائمة الإرهاب.
والجماعات الخمس هي: “الجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية” (GIA) في أكتوبر 2010، والجماعة “الإسلامية المغربية المقاتلة” (MICG) في مايو 2013، والجماعة “الإسلامية الليبية المقاتلة” (LIFG) في ديسمبر 2015، و”الجماعة الإسلامية” المصرية (GI) و”مجلس شورى المجاهدين في أكناف بيت المقدس” (MSM-BM) في مايو 2022.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه مولري، الذي يعمل محلل الأمن القومي والدفاع في ABC News، أن سقوط النظام السوري على يد “هيئة تحرير الشام” هزيمة استراتيجية كبرى لروسيا وإيران، “حيث سهّل كلاهما القمع الوحشي للشعب السوري، وفي حالة إيران ساعدت بشكل مباشر المنظمات الإرهابية التي تهاجم إسرائيل”، أكد مولري على وجود معايير محددة لإزالة الهيئة من قوائم الإرهاب.
وقال مولري إن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أعلن أن الولايات المتحدة ستعترف بحكومة سوريا، إذا فعلت 4 أشياء، “حماية حقوق الأقلية، وتسهيل تدفق المساعدات الإنسانية، ومنع استخدام سوريا من قبل الإرهابيين أو الدول لشن هجمات ضد جيرانها، والموافقة على العثور على جميع الأسلحة الكيميائية والبيولوجية وتدميرها”، واصفاً إياها بأنها “معايير جيدة”.
ويمنح الأمر التنفيذي (13224) لوزير الخارجية، بالتشاور مع وزير الخزانة والنائب العام، تعيين أفراد أو كيانات أجنبية يحدد أنها ارتكبت، أو تشكل خطراً كبيراً لارتكاب، أعمال إرهابية تهدد أمن المواطنين الأميركيين أو الأمن القومي أو السياسة الخارجية أو اقتصاد الولايات المتحدة.
وبمجرد صدور “التصنيف”، يحظر مكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، التابع لوزارة الخزانة الأميركية، جميع الممتلكات المتعلقة بالشخص أو الكيان في الولايات المتحدة، ويعمل على وصمها دولياً ومنع تقديم التبرعات لها.
وعلى الرغم من أن القانون يُتيح لوزير الخارجية إلغاء التصنيف في أي وقت، أو عند التوصل إلى أن الظروف التي كانت أساس التصنيف قد تغيرت، أو أن الأمن القومي للولايات المتحدة يبرر الإلغاء، فإن جونزاليس أشارت إلى أن واشنطن تضع معايير صارمة لإزالة أي مجموعة أو فرد من قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية (FTO) وأنها تخضع لإطار قانوني منظم.
ووفقاً لجونزاليس، فإن أهم تلك المعايير تتمثل بضرورة أن تُثبت المجموعة أو الفرد التوقف عن الانخراط في الأنشطة الإرهابية، مع عدم وجود أدلة موثوقة على مثل هذه الأعمال في السنوات الأخيرة.
على سبيل المثال، تم شطب منظمة “إيتا” في إسبانيا عام 2022، بعد حلها في 2018، كما أن التنصل الواضح من الإرهاب والأنشطة العنيفة يُعد عاملاً مهماً في اتخاذ القرار.
وأضافت جونزاليس أنه “يجب أن يتماشى القرار مع أهداف الأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، فإذا لم تعد تسمية مجموعة معينة مفيدة للاستراتيجية الأمنية الأميركية، أو أن شطبها يخدم المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة، فقد يتم اتخاذ قرار الشطب”.
وأكدت جونزاليس أن قرار شطب مجموعة من قائمة الإرهاب، بشكل عام، يُعد عملية معقدة تتضمن مزيجاً من المعايير القانونية والمصالح الاستراتيجية، قائلة إنه “من الصعب التنبؤ بما قد يحدث في المستقبل، لكن في هذه المرحلة، لا تفي هيئة تحرير الشام HTS بهذه المعايير قط”.