تكاد الرواية الجزائرية تُختزل بأسماء معدودة، وربما لا يعرف الكثيرون أن هناك أجيالاً من المبدعين المتميّزين، ومن بينهم الروائي والقاص محمد جعفر، الذي احتفى أخيراً بأحدث أعماله “مع النساء ضد الحب”.
أليس غريباً أن يسعى كاتب جزائري لنشر روايته في مصر، فهل ثمة تراجع في سوق النشر الجزائري؟
نعم يمكن الإعلان أن النشر في الجزائر لم يعد بخير، ويمكن للمتأمل في هذا الوضع أن يُقسّمه إلى شقين، فترة ما قبل كورونا وما بعدها، ولعل الجائحة وآثارها ما تزال ترهن إلى يوم سوق الكِتاب عندنا، والركود الذي مسّ القطاع، لم تستطع إلى اليوم دور النشر مجابهته، كما أن القوانين لا تزال بعيدة عن إحداث الطفرة المأمولة.
كذلك أعتقد أن النشر في مصر لا يستقطب الجزائريين فحسب، ولا أظن أن الأمر غريب، ويمكن اعتباره سلوكاً عاماً ورغبة تراود جميع الكُتّاب العرب، وخصوصاً مع دور نشر معروفة وذات باع طويل، ومع أرقام سحب ضخمة، ثم هناك القدرة على توزيع الكتاب والانتشار محلياً ودولياً، ناهيك عن مجموعة من المحفّزات الأخرى.
ككاتب جزائري، هل تعتقد أن الأدب المغاربي لم ينل حظه في الحضور والجوائز على المستوى العربي؟
نعم أعتقد ذلك إلى حد ما، فالأدب المغاربي الزاخر بالأسماء والإبداعات المشغول عليها بعناية، لم ينل حظه، وهو بعيد كل البعد عن التمثيل عربياً، ويمكن عقد مقارنة بسيطة للتأكد من ذلك، فالأسماء المغاربية الفائزة بالجوائز تكاد تكون شبه مغيّبة عن الحضور في مهرجانات الكتاب في البلاد العربية، قياساً بنظيراتها من المشرق العربي.
ولعل ذلك يعود لأسباب أخرى أيضاً لا علاقة لها بالإجحاف أو التجاهل، ويمكن قبل أن نتهم الآخر، أو نشير إليه، أن نتأكد من حضور هذه الأسماء في بلدانها الأصلية. وأظن حال الثقافة في المغرب العربي مهتزّة ومشوّشة ولا تحقق أي استقطاب محلي وعربي، لا جوائز كبيرة أنشأناها ولا مجتمع مدني ناشط ولا صحافة ذات تأثير، وكل هذا يرمي بثقله في المشكلة، ويضاعف من حدتها.
في روايتك “مزامير الحجر” خسر عبد القادر والده وحبيبته.. هل ما زال هناك ما يستحق أن يُروى عن “العشرية السوداء” التي عاشها الجزائريون؟
كل موضوع يظل مؤهلاً للكتابة عنه، شرط أن نقدم الجديد، ما يستفز القارئ ويثير فضوله، وأنا مع المزيد من الكتابة عن ثورة التحرير والعشرية السوداء وعن الحب وغيرها من الموضوعات التي قد تبدو للوهلة الأولى مستهلكة. ما يمنح المتعة واللذة ليس الموضوع المُتناول، بل الطريقة التي يتم تناوله فيها.
لا يبدو أن مدينتك الشمالية تضررت كثيراً من تلك الحقبة، فما الأثر الذي عانت منه المدينة وكاتبها؟
تكفي مشاعر الخوف التي كنا نعيشها كل ليلة وصور الأموات والضحايا الذين كنا نسمع عنهم حتى في تلك الأماكن البعيدة عنا لتثير في أنفسنا الهلع. ما حصل كان فعلاً رهيباً، ومن عاش تلك الوقائع لا يمكنه تجاوزها بسهولة، ثم ليس بالعجيب أن نسحب معنا ذكريات كل تلك الأهوال التي حصلت معنا.
يتكرر حضور مدينتك البحرية “مستغانم” في نصوصك. هل تؤمن أن على الكاتب أن يمتلك مدينته ويؤرخ لها كما فعل محفوظ مثلاً؟
لعلك لا تزال تذكر إعرابي عن تأثري بنجيب محفوظ وعالم رواياته، وقد يرجع الأمر إلى ذلك، لا يمكنني أن أحسم. وصحيح، فرغم شعوري بالنفي وسط “مستغانم”، المدينة التي أنتمي إليها، فإني لا أزال أكتب عنها وأحاول أن أجعل منها البؤرة التي تستند إليها أغلب أعمالي.
أظن أنني أعرفها بما يكفي لأكون شاهداً عليها وعلى ما يحصل فيها أيضاً، وأمام سؤالك هذا وجدتني أتذكر كيف سألني مرة أحد أساتذة كلية الآداب في ندوة أقيمت في المدينة حول أحد أعمالي، وبالمناسبة هي الندوة الوحيدة لي فيها هناك.
كان سؤاله كالتالي: ماذا تعتقد أنك قدّمت للمدينة؟ مع نبرة سخرية واضحة لم تخف على الحضور، في محاولة تشكيك بفعل المقاومة الذي أبديه، خصوصاً وأن مدننا في الجزائر تكاد تتشابه، وهي مدن تعيسة فعلاً، أو هي كذلك على الأقل بالنسبة للمثقفين، وتشعرهم بالوحدة والنفور، وتدفعهم إلى الانكفاء، وربما هذا أيضاً ما حاولت تصديره في روايتي الأخيرة.
في أحدث رواياتك “مع النساء ضد الحب”، كأن العنوان يطرح مفارقة شيقة “مع وضد” في آن؟
أظن أني وقعت على العنوان الذي كنت أريده تماماً، ومع ذلك، كنت وضعت للرواية عنواناً آخر لم أتحمس له، وأنا أهم بكتابة المسودة الأولى، وإن وجدتني خاضعاً له بحكم أنه من الصعوبة أحياناً العثور على ما يناسب.
ثم وأنا أباشر مراجعة النص بصيغته النهائية، خطر لي هذا العنوان فجأة، مع النساء ضد الحب”. شعرت بأني أعيش لحظة فارقة، تشبه السحر بأنه العنوان الذي يليق بالعمل، ويعبّر عن روحه، كما إنه محفّز للقارئ.
من يطالع الرواية يكتشف أنك تعمدت أن يحمل البطل اسمك، ويعيش في مدينتك وبكتابة تشبه “اليوميات” مع ذلك تنفي أنها “سيرة ذاتية”.
نعم البطل يحمل اسمي، والأحداث تجري في مدينتي، وبعضها خبرته، ومع ذلك أصرّ على أنني حاولت أن أشتغل بعيداً عن فكرة أن أقدّم سيرتي. اعتمادي على هذه الجزئيات كان لغرض فني محض.
انحرفت بعيداً جداً عن سيرتي في سبيل رؤية خاصة أردتها، وتصوّرات وأفكار حاولت طرقها، وما آمله أن يستمتع القارئ، فهذا الغرض من فعل الكتابة.
هل نعتبر النص “تأملات” في علاقتك بالمرأة؟
يمكن اعتباره كذلك فعلاً، لكنه أيضاً يحمل نظرة خاصة، إنها نظرة بطل الرواية وتُمثّله أساساً. أما رؤيتي أنا ككاتب للمرأة، فلا يجب أن يحصرها مؤلَف بعينه.
ولتوخي الموضوعية، يجب أن نستند في ذلك إلى مجموعة كتاباتي ككل، وفي هذا الباب لا بد أن أشير على الأقل إلى عملين محورهما المرأة، وهما مجموعتي القصصية الأولى “طقوس امرأة لا تنام”، ثم روايتي “هذيان نواقيس القيامة”.
أعتقد أنه من دونهما، ومن دون إصداراتي الأخرى، ستبقى الأحكام منقوصة ومتعسّفة، وقد تجانب الصواب.
تنشغل في بالتعليق والإشارة إلى أحداث راهنة مثل الجائحة، هل يجب على الكاتب أن لا يتأخر عن لحظته الراهنة؟
لكل عمل خصوصيته، أما أعمالي فلا تكاد تتشابه لا من حيث التشكيل الفني ولا التيمات. كذلك ما قد يسترعي الانتباه هو ذلك القفز السريع من طرف الكُتّاب الآخرين على ما حصل لنا مع الجائحة.
لقد سلبت منا أحباباً وأصدقاء، ورمت بثقلها على الحياة العامة، فأفسدتها وغيّرت تفاصيل يومنا، فكيف نتجاهل ما حصل هكذا فجأة. من هنا جاءت الكتابة عن الوباء كالتزام، وهذا النوع من الكتابات يتضمن جملة من التحديات؛ لأنها تدفعك إلى تجاوز ما هو نمطي، ولأن الكتابة السهلة لا تعنيني، ولا بد أن أجد الشغف فيما أقوم به.
خلال عشر سنوات تنقلت ما بين القصة القصيرة والشعر والرواية، ألا تؤمن بالإخلاص لشكل أدبي معيّن؟
أنا مخلص لفعل الكتابة، وأظن أن ذلك يكفي، كما أتمنى فعلاً لو أستقر على لون واحد، أما ما يحصل معي من انتقال فهو رهن انفعالات وأفكار تنتابني، بعضها يأتي كاملاً، فيستوفي شروط الرواية، وبعضها يحضر في شكل “فلاشات” ولا يمكنه أن يتجاوز حدود قصة قصيرة.
أحب أن أؤكد على نقطة بعينها، وهي أن أي أفكار أو خواطر تتشابه أو لا تتضمن تجديداً معيّناً أنبذها على الفور. ما يسترعي اهتمامي دائماً أن أقدّم ما هو مختلف، حتى ولو لم يرض عنه كل القرّاء.
وصلت مجموعتك “ابتكار الألم” إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى في الكويت، هل تعتقد أن نيل جائزة أصبح ضرورياً لتسويق الكاتب؟
إلى حد بعيد نعم، وهذا واقع الحال. ويبدو أن تأثير بعض الجوائز بات رهيباً. فلست ضد الجوائز، وأدعمها، وأتمنى لو ننشئ في عالمنا العربي المزيد منها، ما دامت تحفّز على القراءة والاطلاع.