بينما كانت المحادثات تجري في الرياض بين الولايات المتحدة وروسيا، اتجهت أنظار العالم إلى أوكرانيا بوصفها الملف الأكثر سخونة، إلا أن مسار تطبيع العلاقات بين واشنطن وموسكو يمر عبر قضايا أخرى في الشرق الأوسط يقف فيها البلدان على طرفي النقيض.
وكانت على طاولة المحادثات قضايا خلافية بين الولايات المتحدة وروسيا تتعلق بالشرق الأوسط، من بينها القضية الفلسطينية، والعلاقات مع إيران وسوريا ولبنان.
وأشار خبراء في الولايات المتحدة إلى أن وضع نهاية للحرب في أوكرانيا كما يراها دونالد ترمب لن تكون مرتبطة فقط بإنهاء الحرب في أوكرانيا، بل ستشمل أيضاً قضايا الشرق الأوسط.
وكتب مدير مركز القانون الدولي والمقارن في كلية الحقوق بجامعة واشبورن الأميركية، كريج مارتن، والبروفيسور مايكل جيه كيلي، في ورقة تحليلية مشتركة أن الحوار بين ترمب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين لتحديد نهاية الحرب الروسية الأوكرانية “لن يكون متعلقاً بأوكرانيا كما كان الرئيس فولوديمير زيلينسكي يرغب، بل سيكون حول بدء ولاية ترمب الثانية بداية قوية كما يراها هو”.
وأضافا: “يتحقق ذلك من خلال أربع مكاسب سريعة لعقيدة (أميركا أولًا) في بداية ولايته الثانية وهي: تسوية الحرب في أوكرانيا كما وعد، وتأمين النفط الرخيص لتعويض تكاليف التعريفات الجمركية، وضمان تمويل أجنبي لترقيات الأمن القومي، وتهدئة الصراع في الشرق الأوسط، وبكلفة شبه معدومة عليه”.
ويتفق برنت سادلر، الباحث الأول في مؤسسة “هيريتيج” المحافظة ومسؤول سابق بوزارة الدفاع الأميركية “البنتاجون” مع هذا الرأي، إذ قال في تصريحات لـ”الشرق”، إن “اجتماع السعودية من المرجح جداً أنه ناقش قضايا أكثر من مجرد الحرب في أوكرانيا، ومن المحتمل أن المناقشات شملت إضافة إلى قضايا الشرق الأوسط، إطلاق سراح الأميركيين المحتجزين في السجون الروسية”.
فما هي المطالب التي قد تضعها إدارة ترمب أمام روسيا فيما يخص الشرق الأوسط؟
الانسحاب من سوريا
تبرز سوريا كأهم القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة وروسيا في الشرق الأوسط، إذ تحافظ كل من موسكو وواشنطن على وجود عسكري في الأراضي السورية منذ سنوات.
ومنذ الإطاحة بالرئيس السوري السابق بشار الأسد في 8 ديسمبر الماضي، بدأت روسيا في سحب أصولها العسكرية من سوريا، ما أثار تساؤلات بشأن دورها المستقبلي في المنطقة. ومع ذلك، يسعى الكرملين إلى الحفاظ على الوصول إلى قاعدتيْ “طرطوس” البحرية و”حميميم” الجوية، وهما موقعان استراتيجيان شكّلا نقاط ارتكاز رئيسية للنفوذ العسكري الروسي في المنطقة.
وذكرت “بلومبرغ” في 17 فبراير الجاري، نقلاً عن مصادر مطلعة، أن روسيا تقترب من التوصل إلى اتفاق مع سوريا للحفاظ على وجود عسكري محدود في البلاد بعد سقوط الأسد.
وبحسب مصادر “بلومبرغ”، فإن موسكو قد تقدم مساعدات لدمشق في مكافحة تنظيم “داعش”، الذي لا يزال نشطاً في شرق سوريا، وذلك مقابل السماح لروسيا بالحفاظ على منشآتها العسكرية.
وفي ظل غياب استراتيجية واضحة لإدارة ترمب بشأن مستقبل سوريا، فإن الخبراء يختلفون بشأن الشروط التي قد تسعى إدارة ترمب لفرضها على روسيا، فيما يتعلق بسوريا.
وقال برنت سادلر لـ”الشرق”، إنه “من المحتمل أن تشترط واشنطن انسحاباً كاملاً من سوريا”، مضيفاً أن ذلك سيكون “الخيار الوحيد المقبول من طرف إدارة ترمب، بينما قد تكون مناقشة مكافحة تنظيم داعش مجالًا محتملاً للتعاون، لكنه يظل أمراً غير مرجح”.
من جهته، يرى جاستن توماس راسل، مدير مركز نيويورك للشؤون الاستراتيجية، أن روسيا ستحاول خلال المفاوضات مع الولايات المتحدة إعادة ترسيخ وجودها في سوريا بأي ثمن، مرجحاً أن تعرض على ترمب تولي مهمة محاربة “داعش”، بما يسمح له بسحب القوات الأميركية من روسيا.
وقال راسل لـ”الشرق”: “السؤال الرئيسي: هل سيقبل ترمب بعودة موسكو إلى سوريا؟ إذا استطاع بوتين إقناع ترمب بأن الوجود الروسي في سوريا يمكن أن يكون عامل استقرار، وليس تهديداً للمصالح الأميركية، فقد نشهد استمرار الوجود الروسي هناك، لكن إذا رأى ترمب أن الوجود الروسي في سوريا يعزز النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وإفريقيا، فقد يضغط لإخراج موسكو أو تقليص وجودها”.
القاعدة العسكرية الروسية في السودان
وأعلنت روسيا والسودان في وقت سابق من فبراير الجاري، التوصل إلى “تفاهم كامل” في ملف إنشاء قاعدة عسكرية بحرية روسية في مدينة بورتسودان على البحر الأحمر، بعد جولات عدة من المفاوضات استمرت لسنوات.
وقال برنت سادلر، إن إدارة ترمب قد تدفع بشرط الانسحاب الكامل لروسيا من سوريا من أجل إفشال مخطط روسيا مع السودان لإنشاء قاعدة بحرية على البحر الأحمر، نظراً لأن روسيا تستخدم قواعدها في سوريا لإرسال الأسلحة والوقود والقوات إلى عملياتها العسكرية المنتشرة في مختلف أنحاء إفريقيا.
وأضاف سادلر: “لا أعتقد أن الوجود الروسي في سوريا من مصلحة الولايات المتحدة. اتفاق روسيا للحصول على منفذ بحري في السودان ليس له أهمية كبيرة دون وجود عسكري قوي كما كان الحال في قاعدة طرطوس في سوريا”.
وتابع: “الولايات المتحدة ستقاوم أي عودة للوجود الروسي في المنطقة، ولن تقبل التفاوض بشأنها، لكن قد يكون هناك مجال ضيق للتفاوض بشأن استثناءات للتجارة بين روسيا وإيران من العقوبات، لكنه أمر غير مرجح”.
العلاقات مع إيران
منذ بداية حرب أوكرانيا، عززت روسيا شراكتها مع إيران بشكل كبير، إذ أصبحت طهران مورداً رئيسياً للأسلحة لموسكو، بما في ذلك الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة والذخائر الأخرى.
ووفق مسؤولين أوكرانيين، فإن روسيا استخدمت أكثر من 8 آلاف مسيرة إيرانية التصميم منذ بداية الحرب، ما دفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات على طهران.
وقبل أيام من تنصيب ترمب في يناير الماضي، وقّع الرئيس الروسي ونظيره الإيراني مسعود بيزشكيان اتفاقية شراكة استراتيجية جديدة، لتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية.
ورجحت تقارير أن تطالب روسيا خلال محادثاتها مع الولايات المتحدة برفع العقوبات عن إيران كجزء من اتفاق سلام في أوكرانيا، حيث يمكن أن تساهم زيادة صادرات النفط الإيراني في استقرار أسعار الطاقة، مما سيعود بالفائدة على التعافي الاقتصادي الروسي بعد الحرب.
ورغم أن الإطاحة بالأسد من الرئاسة في سوريا، أضعفت بشكل كبير نفوذ روسيا وإيران على حد سواء في الشرق الأوسط، إلا أن ذلك لم يوقف اهتمام روسيا وإيران بالحفاظ على وجودهما بالمنطقة.
وبحسب فيليب كراولي، المساعد السابق لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، فإن إدارة ترمب ستنظر إلى التواجد الروسي في الشرق الأوسط من خلال عدستي “إيران وداعش”. وأضاف أن “انهيار نظام الأسد أدى إلى تفكك محور المقاومة الإيراني، وبدون سوريا سيجد النظام الإيراني صعوبة في إعادة بناء قوة حزب الله”.
وقال كراولي لـ”الشرق”، إنه “في حال إجراء محادثات مستقبلية بشأن القواعد العسكرية الروسية في سوريا، ستسعى الولايات المتحدة إلى ضمانات بعدم استخدام موسكو وجودها هناك لدعم طهران”، لافتاً إلى أنه من غير المرجح أن يمارس البيت الأبيض في عهد ترمب، ضغوطاً على موسكو لتقليل وجودها العسكري في سوريا.
ويختلف برنت سادلر مع هذه النقطة، مشيراً إلى الولايات المتحدة لن تقبل ببقاء روسي في سوريا، لأن ذلك لن يكون في مصلحتها، كما لن يكون في مصلحة حليفتها إسرائيل.
وقال سادلر إنه من مصلحة إسرائيل ألا تبقى روسيا “جارها الشمالي”، إذ في السابق كانت إسرائيل تأخذ بعناية العنصر الروسي في الاعتبار عند صياغة سياساتها المتعلقة بالجبهة الشمالية، وبالانسحاب الروسي الكامل ستصبح غير ملزمة بمراعاة العامل الروس، ما سيمنحها حرية أكبر في مواجهة أنشطة إيران ومحاولات تسليح جماعة “حزب الله” اللبنانية.
وأضاف: “حتى في نوفمبر من العام الماضي، عندما تم اقتراح إشراك روسيا في ترتيب على الحدود السورية-اللبنانية، لمنع إعادة تسليح حزب الله مقابل رفع العقوبات عن الشركات الروسية، كان هناك شك كبير حول إمكانية تنفيذ هذا المخطط بنجاح. الروس أنفسهم اعترفوا بعدم قدرتهم على ضمان تلبية مطالب إسرائيل”.
ولفت إلى أنه “من منظور إسرائيل وحلفائها في إدارة ترمب، لا تزال هناك قضايا تستدعي الحفاظ على الحوار مع الكرملين، خصوصاً فيما يتعلق بإيران، إذ تسعى إسرائيل إلى وضوح استراتيجي وتأثير على التعاون بين إيران وروسيا، كما أنها تريد إيصال رسائل مهمة إلى طهران عبر موسكو”.
حرب غزة
وربطت صحيفة “وول ستريت جورنال” بين مقترح ترمب لإنهاء الحرب الإسرائيلية في غزة وخطته لإنهاء الصراع في أوكرانيا، معتبرةً أن الرئيس ترمب يعيد كتابة القواعد التقليدية لحل النزاعات العالمية المستعصية، بإجراء محادثات لإنهاء الحرب في أوكرانيا مع تقديم تنازلات لروسيا، وتقديم مقترح يسحق الآمال في قيام دولة فلسطينية عبر خطته لإعادة توطين سكان غزة بالكامل.
وقالت الصحيفة، إنه “بالنسبة لترمب، تبدو غزة وأوكرانيا متشابهتين، إذ يموت الآلاف من دون داعٍ، والمدن تتحول إلى أنقاض. وتتشابه حلول ترمب لغزة وأوكرانيا من بعض النواحي، فهي نابعة من إيمانه بقدراته الفائقة على الإقناع، ورغبته المُعلنة في أن يُنظر إليه باعتباره صانع سلام بارع في إبرام الصفقات، وميوله لفرض قرارات على الدول الأضعف، بما في ذلك الحلفاء”.
وانتقدت روسيا مقترح دونالد ترمب لتهجير سكان غزة وبناء “ريفييرا الشرق الأوسط” في القطاع، معتبرة أن المقترح نتاج “ثقافة الإلغاء”، بما في ذلك إلغاء القانون الدولي، في ما يتعلق بالوضع في الشرق الأوسط.
وشدد الكرملين، على أنه “لا يمكن التوصل إلى تسوية في الشرق الأوسط إلا على أساس حل الدولتين”، واصفاً حل الدولتين بأنه “الحل الوحيد الممكن”.
ويرى فيليب كراولي أنه من الصعب في هذه المرحلة من المحادثات بين روسيا والولايات المتحدة تحديد تأثيرها على الوضع في غزة، “خاصة وأنه لا يوجد وضوح حول سياسة ترمب الفعلية بشأن هذا الملف”.
واعتبر كراولي أن “أفكار ترمب حول رحيل طوعي للفلسطينيين، لإفساح المجال لمشروع سياحي إقليمي في غزة غير واقعي. ومن الواضح أن وزير الخارجية ماركو روبيو بدأ يكتشف من خلال جولاته في أوروبا والشرق الأوسط أن مقترح ترمب لا يحظى بأي دعم خارج واشنطن تل أبيب”.
ولفت المساعد السابق لوزير الخارجية الأميركي، إلى أنه “من المتوقع أن تدعم روسيا الموقف الإقليمي القائل بأن أي حل للأزمة في غزة يجب أن يفتح الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية، كما ستسعى موسكو إلى استغلال هذه القضية لإضعاف مصداقية الولايات المتحدة في المنطقة”.
من جانبه، يرى راسل أن بوتين يواجه تحديات داخلية تتعلق بمساعيه لإعادة عشرات الآلاف من اليهود الروس الذي هاجروا لإسرائيل، إلى روسيا، قد تمنعه “من عداء إسرائيل”، لكن في الوقت ذاته أشار إلى أن ترمب قد لا ينجح في الحصول على دعم روسيا في مقترح أو دفعها للتخلي عن دعم حل الدولتين.
تحديات روسية- إسرائيلية
وبدأت العلاقات الروسية مع إسرائيل تواجه تحديات منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022. ورغم الضغوط القوية من الغرب وتصاعد المشاعر المؤيدة لأوكرانيا داخل إسرائيل، اختارت تل أبيب عدم الانضمام إلى العقوبات الأميركية أو الأوروبية المفروضة على موسكو، ورفضت إرسال أسلحة فتاكة مصنّعة في إسرائيل إلى أوكرانيا.
وقد أرجع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذا القرار ليس لمراعاة المصالح الروسية، بل لمخاوف من أن تصل هذه الأسلحة إلى إيران، حيث قد يتم تحليلها وإعادة استخدامها ضد إسرائيل في المستقبل.
وبعد 7 أكتوبر العام 2023، سارع الكرملين إلى إدانة هجوم “حماس”، وأكد على “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، لكنه لاحقاً تبنى موقفاً نقدياً شديداً تجاه العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، والضفة الغربية، وجنوب لبنان.
وفي المراحل الأولى من العملية البرية التي شنتها قوات الجيش الإسرائيلي، شبّه بوتين خطط إسرائيل في غزة بحصار لينينجراد من قبل النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، محذراً من استخدام القوة العسكرية المفرطة أو غير التمييزية كخرق صريح للقانون الدولي.
وطالبت روسيا في مناسبات عدة بوقف إطلاق نار فوري وانسحاب القوات الإسرائيلية من غزة، كما دعمت مشاريع قرارات في مجلس الأمن الدولي تدعو إلى ذلك، لكن معظم هذه القرارات قوبلت بالفيتو الأميركي.
وفي المقابل، رفضت موسكو القرارات الأميركية المقترحة بشأن غزة، متهمة واشنطن بـ”عدم ممارسة ضغط كافٍ على إسرائيل لإجبارها على قبول وقف إطلاق نار دائم”.
ومع ذلك، لم تكن روسيا مستعدة أبداً لقطع علاقاتها مع إسرائيل أو حتى لتخفيض مستوى تمثيلها الدبلوماسي في تل أبيب، ورغم التراجع الكبير في التجارة بين البلدين خلال السنوات الأخيرة، لا تزال إسرائيل شريكاً تجارياً واستثمارياً بارزاً بالنسبة لموسكو.
كما يعيش في إسرائيل نحو 1.3 مليون شخص من أصول روسية وسوفيتية سابقة، يشكلون 15% من سكان البلاد، وعقب زيارة وفد رفيع المستوى من “حماس” إلى موسكو في نهاية أكتوبر 2023، أكدت وزارة الخارجية الروسية في بيان خاص أن العلاقات الثنائية مع إسرائيل ستستمر في التطور في مختلف المجالات.