أعلن علماء الأعصاب في معهد “بيكاور” للتعلم والذاكرة، التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، عن نهج جديد لعلاج متلازمة الكروموسوم الهش، وهي أكثر الاضطرابات الوراثية شيوعاً التي تسبب مرض التوحد.
متلازمة الكروموسوم الهش اضطراب وراثي ناتج عن خلل في جين مسؤول عن إنتاج بروتين ضروري لوظائف الدماغ، مما يؤدي إلى تأخر النمو، وصعوبات في التعلم، ومشكلات في التواصل والسلوك، وأحياناً نوبات صرع، أو فرط في النشاط، وتعد هذه أكثر الأسباب الوراثية شيوعاً للإعاقة الذهنية والتوحد، وتؤثر بشكل أكبر على الذكور مقارنة بالإناث؛ بسبب طبيعة انتقالها عبر الكروموسوم الجنسي.
وأظهرت الدراسة، المنشورة في دورية “سيل ريبورتس” (Cell Reports) أن تعزيز نوع معين من الإشارات العصبية يمكن أن يقلل من أعراض هذا الاضطراب في نماذج الفئران.
متلازمة الكروموسوم الهش
يركز البحث على مستقبلات تعرف باسم NMDA، ودورها في تنظيم تخليق البروتين في الخلايا العصبية، وهو عامل رئيسي في تعديل الروابط العصبية، أو ما يُعرف بـ”اللدونة المشبكية”.
وكشفت الدراسة أن زيادة نشاط نوع معين من هذه المستقبلات في الحُصين -منطقة في الدماغ مسؤولة عن التعلم والذاكرة – يمكن أن يقلل من الإنتاج المفرط للبروتينات، وهو أحد السمات المميزة لمتلازمة الكروموسوم الهش.
ويقول الباحثون إن النتائج امتداد لأبحاث سابقة استمرت لعقود، ففي عام 2011 أوضح علماء المعهد أن متلازمة الكروموسوم الهش، والتصلب الحدبي يمثلان حالتين متعاكستين من تنظيم تخليق البروتين في الدماغ، إذ يُنتج الأول بروتينات بكميات زائدة، بينما يُنتج الثاني كميات ضئيلة جداً.
وعندما تم تهجين الفئران الحاملة لهذين الاضطرابين، ظهر نسلها بصحة طبيعية، مما يشير إلى أن الطفرات ألغت بعضها البعض.
وفي عام 2020، كشف نفس الفريق عن آلية جديدة لمستقبلات NMDA، إذ وجدوا أن لها وضعين وظيفيين مختلفين؛ الأول يعتمد على تدفق أيونات الكالسيوم لتحفيز اللدونة المشبكية، بينما يعتمد الثاني على إشارات غير أيونية تؤثر على تخليق البروتين، وتؤدي إلى انكماش التشعبات العصبية.
ومستقبلات NMDA نوع من المستقبلات الكيميائية الموجودة على سطح الخلايا العصبية، والتي تلعب دوراً أساسيا في عملية الاتصال بين الخلايا العصبية في الدماغ، خاصة في عمليات التعلم والذاكرة.
تعتمد هذه المستقبلات على مادة الجلوتامات، وهي إحدى النواقل العصبية الأساسية في الجهاز العصبي، وتتحكم في دخول أيونات الكالسيوم إلى داخل الخلية العصبية، مما يساعد في تقوية الروابط العصبية وتعديلها وفقاً للتجربة والتعلم.
الصرع والتوحد
وتتميز هذه المستقبلات بحساسيتها العالية للجهد الكهربائي، أي أنها لا تنشط إلا عند حدوث تفاعل معين يجمع بين وجود الناقل العصبي وتحفيزٍ كهربائي كافٍ، مما يجعلها ضرورية لتخزين المعلومات في الدماغ وتكوين الذكريات.
كما تلعب دوراً مهماً في عمليات التكيف العصبي، إذ تؤثر في استجابة الدماغ للتجارب المختلفة، سواء الطبيعية أو المرضية.
وبحسب الدراسة؛ فإن زيادة نشاط هذه المستقبلات أو اضطراب وظيفتها يمكن أن يؤدي إلى مشكلات صحية مثل أمراض التنكس العصبي، أو اضطرابات مثل الصرع والتوحد، مما يجعلها هدفاً رئيسياً في الأبحاث الطبية لعلاج العديد من الأمراض العصبية.
ولفهم دور هذه المستقبلات بشكل دقيق، ركَّز الباحثون على جزأين محددين منها، وأظهرت التجارب أن إزالة أي من هذين الجزأين يمنع حدوث تغيرات معينة في الروابط بين الخلايا العصبية، لكن إزالة أحدهما فقط أثّرت على حجم التفرعات الصغيرة التي تخرج من الخلايا العصبية، وأكدت التجارب أن هذا التأثير يعتمد على جزء معين داخل هذا المكوّن.
وبناءً على هذه النتائج، أجرى الباحثون تجربة على فئران تم تعديلها وراثياً، إذ يتم تبديل هذا الجزء بين الجزأين المختلفين، وأظهرت النتائج أن التأثير العلاجي اختفى عندما تم تغيير هذا الجزء، مما أكد أنه يلعب دوراً أساسياً في تنظيم شكل التفرعات العصبية، وإنتاج البروتينات داخل الخلية.
فوائد التعديل الجيني
عند تطبيق هذه الطريقة على فئران مصابة باضطراب وراثي نادر، وجد الباحثون أن التعديل الجيني لأحد مكونات المستقبلات العصبية ساعد في تنظيم إنتاج البروتينات بشكل طبيعي، وتحسين قدرة الروابط العصبية على التكيف، وتقليل النشاط العصبي غير المنتظم.
وعند تجربة دواء جديد يعزز إشارات هذا المكوّن، تبيّن أنه يساعد في إعادة ضبط إنتاج البروتينات، كما قلل من النوبات الناتجة عن الأصوات العالية، وهو أحد أعراض هذا الاضطراب.
رغم أن مستقبل هذا الدواء في الاستخدام الطبي لا يزال غير واضح، يشير الباحثون إلى أن هناك أدوية أخرى قيد التطوير تستهدف هذا المكوّن العصبي بشكل محدد، وإذا أثبتت فعاليتها، فقد تمثل نقلة نوعية في علاج هذا الاضطراب، وربما حالات أخرى ترتبط بخلل في إنتاج البروتينات داخل الدماغ، مثل مرض نادر يصيب الجهاز العصبي.
يمثل هذا الاكتشاف خطوة مهمة نحو تطوير علاجات جديدة، تعتمد على فهم أعمق لآليات الدماغ الدقيقة، مما يعزز الأمل في تحسين حياة المصابين باضطرابات وراثية عصبية معقدة.