عندما اجتمع السياسيون، الذين سيتنافسون في الانتخابات الألمانية المقبلة يوم 23 فبراير، في ستديو برنامج “كلارتكست” على قناة “ZDF”، للرد على أسئلة المواطنين بإجابات واضحة ومباشرة، بدا المرشحون لمنصب المستشار وكأنهم يعيشون في زمن آخر، أو عالم موازٍ للعالم الذي يعيش فيه الألمان العاديون، والذي وصفته صحيفة “تسايت” الألمانية بأنه “مختلف وغاضب”.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب صدم أوروبا بـ”خطة سلام” لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وأُثير جدلٌ حول زلة لسان من المستشار الألماني أولاف شولتز وصف فيها سياسياً من أصول إفريقية ينتمي إلى الحزب الديمقراطي المسيحي CDU، بأنه “مهرج البلاط”، ثم أعقب ذلك حادث دهس عندما هاجم لاجئ أفغاني بسيارته مظاهرة تابعة لنقابة “فيردي” العمالية بمدينة ميونيخ عاصمة ولاية بافاريا جنوبي ألمانيا، أصيب فيه 30 شخصاً، ولا تزال حالة بعضهم حرجة، ما أعاد مجدداً خطة فريدريش ميرز، زعيم CDU، الجريئة واليمينية بشأن الهجرة إلى طاولة البحث.
ورفض هذه الخطة في وقت سابق من فبراير، بعد أن تمكن ميرز من تمريرها كتوصية في مرحلة أولية، بمقامرة عالية المخاطر، بالاعتماد على أصوات “حزب البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف الذي يدعو إلى عمليات ترحيل جماعية للمهاجرين.
ويبدو أن التأثير اليميني الشعبوي على المشهد السياسي يتزايد ليس في ألمانيا وحدها، بل في عموم أوروبا أيضاً.
لكن كيف تمرّد هؤلاء على العُرف السياسي السائد؟
التمردات جميعها تبدأ في الخفاء. تتراكم ببطء دون أن تُسمع أو تُرى، وقد تستغرق أجيالاً، قبل أن تنفجر وكأنها ظهرت من العدم. وغالباً، تتكشف الأنماط التي أشعلت الفتيل، وأفضت إلى الفوضى بعد فوات الأوان.
ولا يزال بالإمكان تذكر أنه حتى وقت قريب، لم يكن هناك حزب يميني شعبوي يقترب من نسبة 10% من أصوات الناخبين في أوروبا، ففي فرنسا مثلاً، حصلت قوى اليمين المتطرف عام 1981 في الانتخابات البرلمانية على 0.36% من الأصوات. وفي بريطانيا، حصل الحزب القومي عام 1983 على 0.06% فقط. أما في السويد، فلم تشهد البلاد في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ترشح أي حزب يميني على المستوى الوطني. وفي ألمانيا، حصل الحزب القومي الديمقراطي في انتخابات البرلمان لعامي 1980 و1983 على 0.2% فقط من الأصوات فقط.
لكن تلك أيام مضت، فالأحزاب اليمينية الشعبوية حصدت في الانتخابات الأخيرة 54% من أصوات الناخبين في المجر، وأكثر من 40% في إيطاليا، و37% في فرنسا، و14% في بريطانيا. واكتسبت قاعدة جماهيرية واسعة في بعض من أغنى بلدان العالم، مثل فنلندا وسويسرا وهولندا والنرويج، كما يحضر اليمين الشعبوي ككتل برلمانية في التشيك وإستونيا ورومانيا وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا ولاتفيا واليونان وقبرص. وفاز بانتخابات الرئاسة في الأرجنتين والبرازيل والولايات المتحدة.
ويرى الكاتب والباحث البريطاني هانس كوندناني، الذي نشر عدداً من الكتب عن الشأن الألماني، لمجلة “نيويوركر” الأميركية، أن حالة العداء المتصاعد للحكومات الوسطية الحالية، هي “ردة فعل على فشلها في تقديم حلول لمشكلات المواطنين. فمع تزايد نفوذ اليمين المتطرف قوةً، تندفع الأحزاب الوسطية إلى توحيد صفوفها والتحالف ضدّ التطرّف، من دون أن تقدّم برنامجاً ذا فائدة حقيقية للناس، ومن ثم يستمر اليمين المتطرّف في الصعود”، وفق قول كوندناني.
كيف حدث هذا التحول لليمين بهذه السرعة والامتداد؟
لتفسير هذا الانعطاف الكبير نحو اليمين، يجب الرجوع بالزمن إلى الوراء، وتتبع السياسات التي أفضت إلى هذه النتيجة.
تبدأ القصة مع فيلي برانت، أشهر مستشار ألماني بعد الحرب العالمية الثانية، والحائز على “جائزة نوبل للسلام”، عندما وقف في 28 أكتوبر عام 1969، أمام النسر الفيدرالي العملاق في مبنى البرلمان القديم بمدينة “بون”، وقرأ على مدار ساعة كاملة 35 صفحة، تُشكّل بيان حكومته، بوصفه أول مستشار من الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) منذ عام 1930.
ولا يزال يعلق في أذهان الألمان واحدة من أبرز جمل ذلك الخطاب، عندما قال برانت “نريد أن نتجرأ أن نكون أكثر ديمقراطية”. لكن برانت تحدث في خطابه الطويل عن أمور أخرى أيضاً، فقدم خططاً ضريبية، ووعد بدعم قطاع الزراعة، وتحدث عن دعم الرياضة وأبحاث الفضاء وإصلاح قانون العقوبات، إلى جانب بناء جامعات في جميع أنحاء البلاد بأسرع ما يمكن.
وقال أيضاً: “الهدف هو تنشئة مواطنٍ ناقد قادر على إصدار الأحكام، مواطن مهيأ للتعرف على ظروف وجوده الاجتماعي، والتصرف بناءً عليه من خلال عملية تعلم دائمة”.
وفي الأعوام التالية، تصاعد عدد طلاب الجامعات في ألمانيا، وبعد أن كان 380 ألفاً في العام الدراسي 1969، تضاعف بعد 5 سنوات عدة مرات، ووصل عام 1990 إلى أكثر من 1.5 مليون طالب. واليوم يبلغ عدد الطلاب نحو 2.8 مليون. كما أن أكثر من ثلث القوى العاملة في ألمانيا تحمل شهادة جامعية، أو تخرجت من جامعة تطبيقية أو أكاديمية مهنية.
الجامعيون يميلون إلى اليسار.. والأقل تعليماً إلى اليمين
جرت عملية مماثلة في البلدان الغربية جميعها، حيث توسعت الجامعات القديمة، وتأسست أخرى جديدة، وتزايد أعداد الطلاب في شتى أرجاء القارة. واستفاد خريجو هذه الجامعات من دراستهم لتحسين معيشتهم، والصعود على سلم التراتب الاجتماعي.
وتشير البيانات الرسمية في ألمانيا إلى أن كل سنة دراسية إضافية ترفع الدخل بنحو 18%. وطبقاً لبيانات مكتب الإحصاء الفيدرالي، فإن متوسط دخل الحاصلين على درجة الدكتوراه يبلغ نحو 8 آلاف و687 يورو شهرياً قبل اقتطاع الضريبة، بينما يصل متوسط دخل الحاصلين على شهادة دبلوم أو ماجستير إلى 6 آلاف و188 يورو، أما من يملكون شهادة مهنية من معهد التدريب المهني، فيتقاضون نحو 3 آلاف و521 يورو فقط. ولا يختلف الوضع كثيراً في البلدان الأوروبية الأخرى.
وهكذا، بدأت الفجوة التعليمية وصدام الطبقات، واتسعت الهوّة تدريجياً بين حملة الشهادات الجامعية، والذين لم يتخرجوا من الجامعات. وقام الباحث الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي، مع زميلَين له، بتحليل نتائج الانتخابات في 21 دولة ديمقراطية غربية بين عامي 1948 و2020، منها ألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وفنلندا وأستراليا. ووجدت الدراسة أن الهوّة ذاتها التي أخذت تتسع منذ الثمانينيات في هذه الدول، بين حَمَلة الشهادات الجامعية الذين كانوا سابقاً يصوتون بغالبية كبيرة للأحزاب المحافظة، صاروا يميلون بقوة نحو اليسار، في حين اتجه الذين لم يدخلوا الجامعة قط نحو اليمين أكثر فأكثر.
وبات اليمين الشعبوي الوجهة السياسية لكل مَنْ لم يواكب “الموجة الأكاديمية” الكبرى، أو ما أطلق عليهم “المُهمّشون”.
في مراحل لاحقة، سيتلقى هؤلاء ضربة أخرى، أقوى وأشد هذه المرة. ففي 12 أغسطس عام 1981، كشفت شركة IBM عن جهاز الكمبيوتر الشخصي (PC) الأول من نوعه، وحل تدريجياً محل وظائف تتعلق بالسكرتارية والمحاسبة والمساعدات المكتبية. وبدأت الصناعات تعتمد شيئاً فشيئاً على أتمتة الوظائف الروتينية بروبوتات قامت بمهام ملايين العمال الذين كانوا سابقاً يُجمّعون السيارات، ويصبّون الفولاذ ويقطعون المعادن. واختفت تدريجياً في المكاتب والمصانع على حد سواء، الوظائف القائمة على اتّباع روتين محدد وقواعد ثابتة، وكان من السهل استبدالها بالآلات.
مع ذلك، لم يؤدِّ هذا الانتقال إلى بؤس جماعي وفوري، إذ اتجه قسم من الموظفين إلى تطوير مهاراتهم، وانتقلوا إلى أعمال أفضل أجراً، أما الآخرون فاضطروا إلى الكفاح في سوق عمل بات أكثر شراسة وسرعة وتطلباً، وانحدروا إلى وظائف قطاع الخدمات التي لا تتطلب مؤهلات جامعية، كالخدمة في المطاعم، وتوصيل الوجبات، والتنظيف، والبستنة. وبحسب دراسة أجرتها جامعة أكسفورد، فإن الاستقطاب في سوق العمل، أدى إلى تقلّص الطبقة الوسطى وانتقال كتلة منها إلى الأعلى، وكتل أخرى إلى الأسفل، فازداد عدد الأغنياء، لكن زاد أكثر عدد الذين اضطروا إلى الانتقال لوظائف مؤقتة وغير مستقرة.
وما بدا وكأنه “تقدم” عند الطرف الأعلى من الطبقة الوسطى، شعر به الآخرون في أسفل الطبقة على أنه “تدهور”، فالذين حصدوا مكاسب التطورات الاقتصادية الكبرى في تلك السنوات الماضية، كانوا غالباً حملة الشهادات الجامعية، أما الذين تضرروا هم الأشخاص الذي لا يحملون شهادات.
وبينما ربح الأكاديميون معركة التكنولوجيا والعولمة، انحدر الآخرون إلى وضع غير مستقر. وتزايدت اللامساواة في البلدان الغنية المنضوية تحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، التي تنتمي إليها ألمانيا، بنحو 10% بين عامي 1980 و2018، وهي زيادة واضحة، ولكن لم تصل درجة الكارثة. مع ذلك كان أثرها ملموساً على جزء من السكان، وزعزع الاستقرار في حياتهم، واهتزت الثقة بالنفس لدى الأشخاص الذي لم يدخلوا الجامعة.
خلال تلك الفترة وثّق الباحثان الاجتماعيان نوام جيدرون وبيتر هال هذه التحولات في دراسة دولية واسعة، طرحت أسئلة على أشخاص من أكثر من 30 دولة على مدار سنوات عدة، حول نظرتهم إلى مكانتهم الاجتماعية على سلم من 1 إلى 10. وتبين أنه مع مرور السنوات، بات الذين لم يدخلوا الجامعة يصنفون مكانتهم الاجتماعية على درجات أدنى فأدنى. وشملت الدراسة دولاً مثل ألمانيا والنرويج وبريطانيا وبولندا والولايات المتحدة.
كما أصبح الأكاديميون يعيشون في ظل أمان مادي، وتراجع قلقهم من الظروف المعيشية، فاتسعت نظرتهم الحياتية لتشمل قضايا البيئة والمناخ وحماية الأقليات واللاجئين، وانفصلت المواقف السياسية للأكاديميين عن بقية المجتمع الذي انكمش على نفسه مع تصاعد مخاوفه من الانحدار على السلم الطبقي. وبدأ أفراد الطبقة الوسطى الدنيا يتوجهون نحو اليمين، رغم أنهم لم يكونوا يرزحون في الفقر المدقع، فوظائفهم تتسم بأجر لا يُعد سيئاً، لكن لديهم مخاوف من فقدانها، بحسب دراسة نشرتها جامعة زيورخ السويسرية عام 2021.
وانتشرت “عدوى” هذه المخاوف بآليات لا يزال الباحثون يحاولون فك طلاسمها، ففي دراسة أجرتها جامعة “كونستانس” الألمانية، وشملت 11 بلداً أوروبياً، أظهر الباحثان طارق أبو شادي وتوماس كورر أن مجرد وجود شخص واحد في الأسرة بوظيفة غير آمنة يكفي كي ينحو كل أفراد الأسرة (حتى أصحاب الوظائف الآمنة) لتأييد الأحزاب اليمينية بصورة أكبر.
وبحسب دراسة جامعة زيورخ، كان ثمة فئة بعينها أكثر عرضة لدعاية الأحزاب اليمينية الشعبوية، أولئك الذين يعدُّون أنفسهم في مكانة اجتماعية أرفع بكثير مما يسمح به دخلهم الفعلي. ويبدو أن أشخاصاً يصعب عليهم الجمع بين واقعهم وطموحهم، يعانون عقدة المقارنة مع الآخرين.
“قبول أو رفض فارق الدخل”
في أوائل ستينيات القرن الماضي، أراد عالم الاجتماع الإنجليزي والتر جاري رانسيمان دراسة الكيفية التي يتعامل بها الناس مع التفاوت الاجتماعي. لاحظ رانسيمان أن ردود فعل الناس على فارق الدخل يصعب التنبؤ بها، فأحياناً يتقبلون تفاوتاً كبيراً من دون أي اعتراض على ذلك، وأحياناً يثورون لوجود تفاوت بسيط. وأراد أن يكتشف السر.
كتب رانسيمان كتاباً بعنوان “الحرمان النسبي والعدالة الاجتماعية”، أجرى خلاله مقابلات في أنحاء بريطانيا يسأل الناس عن دخلهم، وما إذا كانت لديهم سيارة أو تلفاز أو غسالة، ومدى رضاهم عن ظروفهم المعيشية، ومن هم الأشخاص الذين يتخيلون أن يصبحوا مثلهم عندما يفكرون في كسب المزيد من المال.
اكتشف رانسيمان أن معظم الناس لا تُقارن نفسها إلا بدائرة ضيقة جداً، ولا ترى التفاوت في المجتمع ككل، بل في شريحة محدودة منه، وما تقع عليه أعينها في محيطها المباشر الذي يحدد مدى رضاها أو سخطها، حيث وجد أن العمال في المصانع والمناجم ممن يحصلون على أجور جيدة كانوا أكثر رضاً مقارنة بموظفي المكاتب الذين يتقاضون الدخل نفسه، لأن أولئك العمال يُعدون أصحاب الأجر الأعلى ضمن بيئتهم، فيرون أنفسهم “في القمة” مقارنة ببقية زملائهم، أما موظفو المكاتب فمحاطون بمديرين وأصدقاء أعلى دخلاً، فيرون أنهم أقل شأناً، ويشعرون بالغبن وعدم الرضا.
ولولا الثورة التقنية، لما تزايد بهذه السرعة أعداد الناس الذين يشعرون بعدم الرضا عن ظروفهم المعيشية، فأولاً، جعلت شبكات التواصل الاجتماعي حياة الناس أكثر عرضة للمقارنة والمفاضلة. واتسعت الدائرة التي تُجري فيها الناس المقارنات مع حال الغير،؛ كما أن حالة الرخاء التي يعيشها أولئك الأشخاص الذي استفادوا من التحولات الرقمية، أصبحت فاقعة للغاية، وفي موضع مقارنة عند الذين يشعرون أنهم خسروا كثيراً.
وثانياً، استخدمت الأحزاب اليمينية المنصات الاجتماعية للوصول إلى جمهور واسع، ما أتاح لملايين البشر أن يطلعوا على الرسائل التي يبثونها بطريقة مباشرة وسريعة.
ورغم أنه يصعب قياس ذلك بدقة، إذ نادراً ما تتيح الشبكات الاجتماعية بيانات شاملة، لكن الباحثين لجأوا إلى مراقبة الفترة التي تشكّلت فيها البنية التحتية للعالم الرقمي، أي لحظة تزامن فيها العالم الجديد القائم على الإنترنت، مع العالم القديم الذي كان ما يزال سائداً.
توسّع شبكات الإنترنت وارتفاع رصيد الأحزاب الشعبوية
درس الاقتصادي الروسي سيرجي جوريف من “كلية لندن لإدارة الأعمال” عملية اتساع شبكات الهاتف المحمول (G3) في أوروبا بين 2008 و2017. واستفاد مع زميلَين له من حقيقة أن توسيع الشبكة لم يكن بالوتيرة نفسها في المناطق كلها. في بعض المناطق كانت الوتيرة أسرع، فتتبعوا التغير السياسي المتوازي مع انتشار الإنترنت المحمول السريع، وقد وجدوا أنه حيثما توفرت شبكات الجيل الثالث الأسرع، ارتفعت أصوات اليمين الشعبوي بنحو 6.9% في المتوسط، وهو ارتفاع كبير.
وفي دراسة أخرى، وجد المختص بالعلوم السياسة ماكس شوب من جامعة هامبورغ مع زميله الإيطالي دافيدي موريسي أن الأصوات المؤيدة للأحزاب الشعبوية ارتفعت في ألمانيا وإيطاليا مباشرة بعد توسيع شبكة نطاق الإنترنت العريض. وتُقدّر الدراسة أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) حقّق في المناطق ذات الإنترنت السريع نسبة أصوات أعلى بواقع الربع، مقارنة بالمناطق ذات سرعات الإنترنت البطيئة.
“فزّاعة” المهاجرين تٌغذي اليمين
الآن، وقد تشكّلت الصورة التي ينتشر بها اليمين المتطرف، فإنهم يحتاجون إلى “عدو” يصبّون عليه جام غضبهم. وليس ثمة فريسة أسهل من نحو 280 مليون لاجئ عالمياً. فالساسة اليمينيون المتطرفون يركزون خطابهم على هؤلاء المهاجرين الذين يغادرون بلدانهم سنوياً سعياً وراء حياة أفضل، وهم يشكلون صورة “العدو” بامتياز، نظراً لسهولة توجيه “الغضب” نحوهم، وسهولة إقناع شريحة واسعة من الناخبين للإدلاء بأصواتهم لترحيل هؤلاء المختلفين ثقافياً، إلّا أن الواقع، ولحسن الحظ، أكثر تعقيداً من ذلك.
ولفهم ذلك، نأخذ ألمانيا مثالاً. فخلال أشهر معدودة عام 2015، وصل إلى ألمانيا أكثر من نصف مليون سوري. ورغم القلق في بداية الأمر، إلا أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خرجت يوم 31 أغسطس وقالت: ” Wir schaffen das”، (نستطيع أن نقوم بذلك). وانتشر ما سُمّي حينها بـ”ثقافة الترحيب” (Willkommenskultur)، واستُقبل السوريون بترحيب شعبي واسع، وخرج الألمان يصفقون لهم عند وصولهم إلى محطات القطارات.
ثم انقلب الوضع، وتعرّضت بعض مراكز اللجوء إلى حرائق متعمدة، ودعت قيادية في “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) إلى إطلاق النار على اللاجئين عند الحدود، وبدأ الحزب يحقق نجاحات متصاعدة في استطلاعات الرأي والانتخابات.
لكن خلال تلك الأثناء، كان يجري شيء مختلف، درسه الباحث الاجتماعي ماركو جيسلمان من جامعة زيورخ مع زميلين له، واستفاد من التوزيع غير المتكافئ للسوريين في أنحاء ألمانيا، ففي بعض المناطق بلغت نسبة اللاجئين أكثر من 10% من السكان، بينما كانت النسبة أقل بكثير في مناطق أخرى.
الأقل احتكاكاً بالمهاجرين أكثر نقمةً عليهم
بدأ جيسلمان بإجراء استطلاعات للرأي منذ عام 2016، ووجد أن أكثر من 85% من المشاركين أبدو قلقهم من الهجرة، وقفزت نسبة تأييد الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى 7 أضعاف تقريباً خلال 5 سنوات تالية، لكن هذا الاتجاه بدأ يتغير في مناطق استضافت أعداداً كبيرة من اللاجئين، والتي سارت بعكس الاتجاه العام، ذلك أن توجهها نحو اليمين أقل بكثير.
والسبب هو كثرة الاحتكاك المباشر مع اللاجئين في الحياة اليومية، في التسوق والمدارس ورياض الأطفال، حيث كلما ازداد التواصل، تضاءل تصديق الناس لما يدّعيه اليمين المتطرف، فالألمان الذين لم يحتكوا مع اللاجئين إلا عن بعد، كانوا يميلون أكثر نحو اليمين المتطرف. وهكذا، على المدى الطويل، بدأ يتقلّص نفوذ اليمين في المجتمعات متعددة الثقافات التي يحتك فيها الأفراد بعضهم بعضاً، وذلك وفقاً لدراسة جيسلمان التي نشرها عام 2024.
ولمواجهة هذا التطبيع المحتمل، لجأ اليمين المتطرف إلى تكتيك آخر، ففي عام 2016، قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، أجرى الباحثان رافائيل دي تيلا وخوليو روتمبرغ من كلية “إدارة الأعمال” بجامعة هارفارد، تجربة طريفة، إذ قدموا نصاً قصيراً لنحو 4 آلاف ناخب حول أهمية وجود ساسة أكفاء. في تلك الفترة، كان معظم أنصار المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأميركية حينها، دونالد ترمب، يقرّون بأن منافسته الديمقراطية، هيلاري كلينتون، أكثر كفاءة. وبعد قراءة النص، مال غالبية المشاركين أكثر للتصويت لصالح كلينتون، باستثناء البيض الذين لم يحصلوا على شهادة جامعية، حيث زاد تمسكهم بترمب.
وفسَّر الباحثان نتائج بحثهما في دراسة نشرت عام 2018، وأوضحا خلالها أن هذه الفئة من الناخبين تشعر بأنها خُذلت بشدة من “النظام السياسي”، لدرجة أنها تُفضّل عمداً المرشح الأقل كفاءة، لأنها تسعى إلى تخريب النظام ذاته، حيث وجدت الدراسة أن “التدمير ليس نتيجة عرضية، بل هو الهدف بحد ذاته”. ولا يُخفي اليمين المتطرف ميله للانسحاب من الاتفاقيات والتحالفات التي يرى أنها لا تتوافق مع رؤيته، وترحيل المهاجرين، بمعزل عن حاجة سوق العمل للأيدي العاملة منهم.
وقد يبدو ذلك صعباً على الاستيعاب للوهلة الأولى، فما الذي سيدفع طبقة متوسطة في الغرب تعيش حياة جيدة نوعاً ما، إلى الرغبة في التدمير والتخريب؟
لتفسير ذلك، لجأ العلماء إلى “لعبة الإنذار الأخير” (Ultimatum Game)، ومفادها أن أحد اللاعبَيْن يحصل على مبلغ من المال، مثلاً 100 دولار، ويُطلَب منه تقسيمه مع لاعب آخر كما يشاء، سواء بالنصف أو نسبة أقل بكثير. ولا يُسمح لهما بالتحدث. المشكلة أن اللاعب الثاني يستطيع رفض العرض، وفي حال رفضه، لن يحصل أي منهما على المال.
من الناحية المنطقية البحتة، يُفترض أن يقبل الشخص الثاني أي مبلغ يُعرض عليه، حتى لو كان ضئيلاً، لأن ذلك أفضل من لا شيء، لكن التجارب تُظهر أن غالبية الناس لا يتصرفون بهذه البراغماتية الباردة، فهم يرفضون العروض المجحفة، ويفضلون معاقبة اللاعب الأول بحرمانه من المبلغ، حتى لو حُرموا هم أيضاً منه.
في تجارب معينة، انتابت معظم الناس مشاعر غضب لمجرد أن العرض لم يكن مناصفة (أقل من 30%)، ويرفضونه تماماً، حتى لو كان المبلغ كبيراً.
على عكس الكائنات الأخرى، يبدو البشر عرضة للمشاعر السلبية حتى الإضرار بأنفسهم، طالما أنها تلحق الضرر بمن يرونه “ظالماً” أو متكبراً.
واستخدم الفيلسوف وعالم الأحياء باتريك فوربر من جامعة تافتس في الولايات المتحدة “لعبة الإنذار الأخير”، بهدف فهم “دوافع السلوك الهدّام”، حيث وجد أن هذه النزعة تظهر غالباً في صراع المكانة الاجتماعية، فحينما يشتد التنافس على تراتب الهرم الاجتماعي، يحاول “المهمّشون” إلحاق الأذى بالآخرين لاستعادة التراتبية، ولسان حالهم يقول: “إن صار الجميع أفقر نسبياً، فإن مكانتي الاجتماعية النسبية ستصبح أفضل”. وهي لعبة الجميع فيها خاسرون”.