قبل أكثر من 20 عاماً، أعلنت إدارة الغذاء والدواء الأميركية FDA موافقتها على عقار جديد مَثل ثورة في وقتها. العقار المعروف باسم “زيكونوتايد” Ziconotide، والذي يُباع إلى الآن تحت الاسم التجاري بريالت Prialt، كان أول دواء ببتيدي يعتمد على سم حيواني لعلاج الألم المزمن، إذ تم استخلاص المادة الفعالة للدواء من سم حلزون المحيط الهادئ، الذي يصطاد الأسماك.
ينتمي ذلك الدواء لعائلة دوائية تُعرف باسم المسكنات غير الأفيونية، وتعتمد آلية عمله على استهداف قنوات الكالسيوم من النوع N، التي تلعب دوراً حاسماً في نقل إشارات الألم من الخلايا العصبية الحسية إلى الحبل الشوكي ثم إلى الدماغ ليعمل على منع إطلاق النواقل العصبية عند المشابك العصبية، ما يمنع الإحساس بالألم.
كان ذلك الدواء أقوى بألف مرة من المورفين، ما جعله خياراً فعالاً لعلاج الألم المزمن الشديد الذي يقاوم العلاجات الأخرى.
لكن على الرغم من فعاليته، إلا أن طريقة إعطائه شكلت تحدياً كبيراً، إذ يحتاج لتوصيله عبر مضخة تُزرع في الحبل الشوكي للمريض، مما حد من انتشار استخدامه.
كما يمكن أن يسبب الدواء آثاراً جانبية شديدة، بما في ذلك الاضطرابات العصبية النفسية، والارتباك، والغثيان، والدوخة، وذلك لأنه يعمل على قنوات الكالسيوم التي تتحكم في وظائف عصبية متعددة.
ومنذ عام 2004، العام الذي أطلق فيه هذا الدواء، حاول العلماء ابتكار دواء غير أفيوني فعّال، لينجحوا أخيراً في ذلك المسعى.
وقبل أيام، وافقت إدارة الغذاء والدواء على عقار جديد لتسكين الألم يُدعى “سوزيتريجين” Suzetrigine، ليصبح بذلك أول دواء مسكن للألم يُعتمد منذ أكثر من 20 عاماً بآلية جديدة تماماً.
وسيُباع دواء “سوزيتريجين” الجديد، الذي طوّرته شركة Vertex Pharmaceuticals ومقرها بوسطن بولاية ماساتشوستس، تحت الاسم التجاري “جورنافكس” (JOURNAVX).
ويُعتبر هذا الدواء خطوة واعدة نحو تقليل الاعتماد على المواد الأفيونية، التي ساهمت في أزمة الإدمان والوفيات الناجمة عن الجرعات الزائدة في الولايات المتحدة والعالم.
يعمل “سوزيتريجين”، على تثبيط قنوات الصوديوم في الخلايا العصبية المسؤولة عن الإحساس بالألم. ويتميز هذا الدواء بأنه يوفر مستوى تسكين مشابهاً للمواد الأفيونية، لكنه لا يسبب الإدمان أو التخدير أو خطر الجرعة الزائدة.
أزمة المواد الأفيونية
تشهد الولايات المتحدة أزمة صحية خطيرة مرتبطة بإدمان الأفيونيات، حيث يُقدّر أن 9.5 مليون أميركي تبلغ أعمارهم 12 عاماً أو أكثر قد أساءوا استخدام الأفيونيات في عام 2020، بينما يعاني 2.7 مليون شخص من اضطراب استخدام الأفيونيات إذ تلقى 278 ألف شخص فقط العلاج في العام الماضي.
بدأت أزمة الأفيونيات في التسعينيات مع زيادة وصف الأدوية الأفيونية مثل الأوكسيكودون والهيدروكودون لعلاج الألم المزمن. ومع مرور الوقت، أدى الإفراط في الوصفات الطبية وسهولة الوصول إلى هذه الأدوية إلى انتشار الإدمان، ما تسبب في ارتفاع حاد في الوفيات الناجمة عن الجرعات الزائدة.
تفاقمت هذه الأزمة بسبب جائحة كورونا، حيث أدت العزلة الاجتماعية وزيادة الضغوط النفسية إلى ارتفاع معدلات إساءة استخدام الأفيونيات الموصوفة طبياً، واستخدام الأفيونيات غير المشروعة. كما ساهم تلوث المنشطات النفسية بالفنتانيل أو الهيروين في زيادة الوفيات الناجمة عن الجرعات الزائدة.
وأظهرت دراسات أن الأفراد الذين يعانون من اضطراب استخدام الأفيونيات أكثر عرضة للإصابة بالعدوى الفيروسية بشكل عام، كما أنهم أكثر عرضة لانقطاع العلاج وزيادة الضغوط النفسية، ما يؤدي إلى تفاقم مشكلة الإدمان.
في بداية جائحة كورونا، كشفت اختبارات المخدرات عن زيادة في معدلات اكتشاف الفنتانيل غير الموصوف بنسبة تزيد عن 35٪، والهيروين بنسبة تزيد عن 44% والأفيونيات بنسبة تزيد عن 10%.
ومنذ ذلك الحين، أظهرت دراسات متعددة زيادة في الوفيات المرتبطة بالأفيونيات وزيادة في زيارات أقسام الطوارئ. وفقاً لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC، ارتفع عدد الوفيات الناجمة عن جرعات الأفيونيات الزائدة إلى 81 ألفاً و857 حالة في الـ12 شهراً المنتهية في فبراير 2022، مقارنة بـ72 ألفاً و930 حالة خلال الفترة نفسها من العام السابق.
وفي ظل أزمة الأفيونيات التي تعصف بالعالم، أصبحت المسكنات غير الأفيونية خياراً بالغ الأهمية لإدارة الألم دون التعرض لخطر الإدمان.
تحدي كبير
تشمل هذه الأدوية مجموعة متنوعة من المركبات التي تعمل بآليات مختلفة لتخفيف الألم، ما يوفر بدائل آمنة وفعالة. من بين هذه الأدوية مضادات الالتهاب غير الستيرويدية مثل الإيبوبروفين والنابروكسين، التي تعمل على تقليل الالتهاب وتخفيف الألم. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم أدوية مثل سيليكوكسيب، التي توفر تخفيفاً للألم مع تقليل الآثار الجانبية على المعدة مقارنة بمضادات الالتهاب التقليدية.
كما تشمل المسكنات غير الأفيونية الأدوية المضادة للنوبات مثل جابابنتين وبريجابالين، التي تُستخدم لعلاج الألم العصبي المزمن. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم مضادات الاكتئاب مثل دولوكستين للمساعدة في تخفيف الألم المزمن، خاصة في حالات الألم المرتبط بالاكتئاب، والمسكنات الموضعية مثل ليدوكائين، التي توفر تخفيفاً موضعياً للألم دون التسبب في تأثيرات جهازية.
تتميز المسكنات غير الأفيونية بعدة فوائد تجعلها بديلاً مناسباً للأفيونيات، من ضمنها انخفاض خطر الإدمان، حيث لا تسبب هذه الأدوية الإدمان مقارنة بالأفيونيات، ما يجعلها خياراً آمناً للاستخدام على المدى الطويل، علاوة على تقليل الآثار الجانبية، فالأفيونيات تسبب آثاراً جانبية خطيرة مثل الاكتئاب التنفسي والإمساك المزمن، بينما تكون الآثار الجانبية للمسكنات غير الأفيونية أقل حدة.
كما تتمتع المسكنات غير الأفيونية بتنوع الخيارات، حيث تتنوع آليات عمل هذه الأدوية، ما يسمح للأطباء باختيار العلاج الأنسب لكل حالة، علاوة على تكلفتها الأقل، حيث تكون المسكنات غير الأفيونية عادةً أقل تكلفة من الأدوية الأفيونية، ما يجعلها في متناول عدد أكبر من المرضى.
على الرغم من هذه الفوائد، تواجه المسكنات غير الأفيونية بعض التحديات مثل فعاليتها المحدودة في حالات الألم الشديد، الذي يتطلّب عادةً استخدام الأفيونيات، كما أن لبعضها مجموعة من الآثار الجانبية، مثل نزيف المعدة في حالة مضادات الالتهاب غير الستيرويدية، أو الدوخة في حالة الأدوية المضادة للنوبات.
لذا، تعمل الجهود البحثية حالياً على تطوير جيل جديد من المسكنات غير الأفيونية، التي تستهدف آليات جديدة لتخفيف الألم عبر استكشاف أدوية تعمل على قنوات الصوديوم أو الكالسيوم في الخلايا العصبية، ما قد يوفر تخفيفاً فعالاً للألم دون التسبب في الإدمان.
قنوات الصوديوم
تُعتبر قنوات الصوديوم واحدة من المكونات الأساسية في الجهاز العصبي، حيث تلعب دوراً محورياً في نقل الإشارات الكهربائية بين الخلايا العصبية.
وهذه القنوات بروتينات موجودة في أغشية الخلايا العصبية تتحكم في تدفق أيونات الصوديوم داخل وخارج الخلية، ما يسمح بنقل الإشارات العصبية بسرعة وكفاءة، وعندما يتعلّق الأمر بالألم، تلعب قنوات الصوديوم دوراً رئيسياً في توليد ونقل إشارات الألم من الأطراف إلى الجهاز العصبي المركزي.
فعند حدوث إصابة أو التهاب، تتعرّض الخلايا العصبية الحسية لتنبيهات كيميائية أو ميكانيكية تؤدي إلى فتح قنوات الصوديوم. هذا الفتح يسمح بتدفق أيونات الصوديوم إلى داخل الخلية، ما يؤدي إلى إزالة الاستقطاب وتوليد جهد الفعل. تنتقل هذه الإشارة عبر الأعصاب إلى الحبل الشوكي، ثم إلى الدماغ، حيث يجري تفسيرها على أنها ألم.
وفي حالات الألم المزمن أو العصبي، يمكن أن تصبح قنوات الصوديوم مفرطة النشاط، ما يؤدي إلى زيادة غير طبيعية في إشارات الألم. ففي حالة الألم العصبي على سبيل المثال ربما تظل قنوات الصوديوم مفتوحة لفترة أطول أو تفتح بشكل متكرر، ما يسبب إشارات ألم مستمرة حتى في غياب أي إصابة فعلية.
بسبب الدور المركزي لقنوات الصوديوم في نقل إشارات الألم، أصبحت هذه القنوات هدفاً رئيسياً لتطوير أدوية جديدة لتسكين الألم. فعبر تطوير مركبات تعمل على تثبيط قنوات الصوديوم المحددة المسؤولة عن الألم، دون التأثير على القنوات الأخرى الضرورية للوظائف العصبية الطبيعية، يُمكن ابتكار مُسكن غير أفيوني فعال.
علامة فارقة
يُعتبر الدواء الحاصل مؤخراً على موافقة إدارة الدواء والغذاء الأميركية “سوزيتريجين”، مثالاً على كيفية استهداف قنوات صوديوم محددة في الجسم لتطوير أدوية أكثر أماناً وفعالية، فمن خلال تثبيط قنوات الصوديوم المعروفة باسم Nav1.8 في الجهاز العصبي الطرفي، يقدم هذا الدواء بديلاً واعداً للمسكنات الأفيونية، مع تقليل خطر الإدمان والآثار الجانبية الخطيرة.
تُعتبر قنوات الصوديوم Nav1.8 جزءاً أساسياً من الجهاز العصبي الطرفي، حيث توجد بشكل رئيسي في الخلايا العصبية الحسية المسؤولة عن نقل إشارات الألم.
وعندما تتعرّض الأنسجة للتلف أو الالتهاب، يجري تنشيط هذه القنوات، ما يؤدي إلى زيادة تدفق أيونات الصوديوم إلى داخل الخلايا العصبية. هذا التدفق يولد إشارات كهربائية تنتقل عبر الأعصاب إلى الحبل الشوكي، ثم إلى الدماغ، حيث تُفسر على أنها ألم. يعمل سوزيتريجين عن طريق الارتباط بشكل انتقائي بهذه القنوات ومنعها من الفتح، ما يوقف تدفق أيونات الصوديوم ويقلل من توليد إشارات الألم.
إحدى المزايا الرئيسية لدواء “سوزيتريجين” انتقائيته العالية. على عكس المسكنات الأفيونية، التي تعمل على مستقبلات الأفيون في الدماغ وتسبب الإدمان، يعمل سوزيتريجين فقط على قنوات Nav1.8 في الجهاز العصبي الطرفي. هذا يعني أن الدواء لا يؤثر على قنوات الصوديوم الأخرى في الدماغ أو الحبل الشوكي، ما يقلل من الآثار الجانبية الخطيرة المرتبطة بالأفيونيات، مثل الاكتئاب التنفسي والتخدير، ما يقلل بشكل كبير من خطر الإدمان، وهو ما يجعل سوزيتريجين خياراً آمناً للاستخدام على المدى الطويل.
واختبر “سوزيتريجين” في عدة تجارب سريرية لعلاج الألم الحاد بعد الجراحات، مثل جراحات إزالة الوكعة وشد البطن. وقد أظهرت النتائج أن المرضى الذين تلقوا الدواء أبلغوا عن انخفاض كبير في الألم مقارنة بالدواء الوهمي.
وحالياً، يجري استكشاف استخدام الدواء في علاج الألم المزمن، مثل الألم العصبي التالي للهربس والاعتلال العصبي السكري.
وفي بيانها، أكدت إدارة الغذاء والدواء الأميركية، أن التجارب السريرية أظهرت فعالية كبيرة للدواء في تخفيف الألم بعد العمليات الجراحية، ووصفته بأنه “علامة فارقة في مجال إدارة الألم الحاد”.
من جانبه، قال المدير التنفيذي للشركة المنتجة للدواء، إن هذه الموافقة تمثل “لحظة تاريخية” لنحو 80 مليون شخص في الولايات المتحدة، يصف لهم الأطباء أدوية لعلاج الألم الحاد سنوياً.
لكن، وعلى الرغم من فوائده، يواجه سوزيتريجين بعض التحديات. فربما لا يكون الدواء فعالاً في علاج الألم الشديد جداً، الذي يتطلب أحياناً استخدام الأفيونيات.
ثانياً، لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من الدراسات لفهم أفضل لآلية عمل الدواء وتأثيراته على المدى الطويل. كما أن تكلفة الدواء مرتفعة (نحو 15.5 دولار للكبسولة الواحدة)، مقارنة بالمسكنات التقليدية، ما قد يحد من وصوله إلى بعض المرضى.