لم أكن ضمن الفريق الصحافي الذي دخل إلى المكتب البيضاوي لحظة دخول العدسات لنقل صورة اجتماع الرئيس الأميركي دونالد ترمب مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وإنما ضمن مجموعة أخرى كانت تنتظر في غرفة جايمس برايدي المخصصة للمؤتمرات الصحافية اليومية للبيت الأبيض.
كان الجميع يستعد لاختتام أسبوع طويل في البيت الأبيض، تخلله أيضاً لقاءان مع كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، وتصويت أميركي ضد قرار أوكراني في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأول اجتماع للحكومة الأميركية سكت خلاله الوزراء، وتحدث إيلون ماسك.
وكان يفترض أن ينتهي ذلك النهار بقصة صحافية عن توقيع اتفاق بين واشنطن وكييف بشأن المعادن النادرة في أوكرانيا، قد تتضمن أيضاً تفاصيل أكثر عما قد تم التوصل إليه بشأن مسألة الضمانات الأمنية لأوكرانيا وإمكانية إنهاء الحرب، وما قد يكشفه المؤتمر الصحافي الذي كان مقرراً لترمب وزيلينسكي بعدها.
لكن ظهيرة اليوم الأخير من فبراير، حملت للعالم ما لم يكن في الحسبان: محطة مفصلية في تاريخ الحلف الغربي الذي شكلته الحرب العالمية الثانية.
مشاجرة زيلينسكي
بدأ ذلك قرابة الثانية عشرة ظهراً. تسربت أخبار عن شجار كلامي إلى مسامع من هم في غرفة جايمس برايدي. اتجه كثيرون إلى الظن بأنه قد يكون سجالاً بين الصحافيين وترمب أو زيلينسكي وهو ما يجعله اعتيادياً، أو على الأقل مسبوقاً، لكنها ثوان حتى اتضح كل شيء: المكتب البيضاوي شهد صراخاً بين نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس وزيلينسكي، ثم بين ترمب وزيلينسكي.
وتجاوزنا الإحساس بالمكان والزمان، بدا الجميع هائماً على وجهه. نقفز من كرسي إلى آخر لنتجمهر أمام فيديو جديد لما حصل، إلى أن خرج زملاؤنا، وبدأ سرد الرواية. توقف العالم أمام عشر دقائق تاريخية. تسمرت الوجوه أمام شاشات صغيرة وكبيرة في البيت الأبيض وفي كل مكان على الأرض.
عاودنا مشاهدة الفيديو مرات ومرات، ونحن ندخل ونخرج إلى البيت الأبيض، ونسأل الموظفين والمسؤولين: ماذا الآن؟.
انتشر الخبر بتفاصيله حول العالم: طرد الرئيس الأوكراني، تناول ترمب وموظفوه الغداء الذي كان مقرراً مع الجانب الأوكراني، خلت مقاعد المؤتمر الصحافي من شاغليها، وسار العالم على إيقاع جديد.
قال ترمب في ختام ما قاله أمام زيلينسكي: هذا (عن المشهد الذي حصل) سيكون عظيماً للتلفزيون. وقد كان.
وبحسب الخبراء، كان أيضاً كذلك بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن لا يمكن لأحد أن يعرف بعد ما الذي سيكونه لأميركا، لأوكرانيا وللغرب برمته.
ثمة إجماع بين المراقبين أن ما حصل إهانة هي الأكبر لرئيس دولة يفترض أنها حليفة للولايات المتحدة.
وثمة من يلقي باللائمة على الرئيس الأوكراني الذي لم يأت مستعداً للتعامل مع الشخصيات الجديدة التي شغلت مكان جو بايدن وكامالا هاريس.
وثمة من يتبنى ما قاله البيت الأبيض: زيلينسكي قلل من احترام الرئيس ونائبه.
وثمة من يقول: إنه فخ نصب للرجل.. كل ذلك تفاصيل وضجة.
ترمب في الغرفة
في الغرفة مكان الحدث، جلس زيلينسكي قبالة ترمب الذي لا يستسيغه منذ الولاية الأولى.
وفي الغرفة مكان الحدث، جلس زيلينسكي قبالة فانس الذي قال لستيف بانون في مقابلة عندما كان مرشحاً لمنصب مجلس الشيوخ في أوهايو عام 2022: “سأكون صادقاً معك، لا يهمني حقاً ما الذي سيحصل لأوكرانيا”.
وفي الغرفة مكان الحدث، جلس زيلينسكي مع مسؤولين أميركيين ليسوا من المؤسسة التقليدية، يؤمنون بأن علاقات الولايات المتحدة يجب أن تكون مبنية فقط على المصلحة المتبادلة، وأنه لا رحلات مجانية لأحد، ولا أعباء تقيد أميركا من الانصراف لأولوياتها داخلياً، وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وفي الغرفة مكان الحدث، لقاءان سابقان في نفس الأسبوع أقل عصفاً، وليس أقل تحدياً مع زعيمين أوروبيين حفظنا بعدهما عبارة تاريخية لترمب تختصر المشهد، الضجيج، ما قبلهما وما بعدهما. ففيما كان يقف إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الغرفة الشرقية للبيت الأبيض، قرأ ترمب من الورقة ولم يستطرد الآتي: إدارتي تقيم قطيعة حاسمة مع قيم السياسة الخارجية للإدارة السابقة وبصراحة مع الماضي.
فمنذ العام 2016، لم يخض ترمب حملة انتخابية، ولم يدل بخطاب واحد يتحدث فيه عن قيم الغرب التي اعتاد رؤساء سابقون على ضفتي الأطلسي ترديدها.
وإذ أن ولايته الأولى كانت مكبلة بعدم معرفته التامة بالطريقة التي تدار بها واشنطن وبفريق يؤمن بالقيم الغربية والاستراتيجية في العلاقة مع الغرب، إلا أنه جاء هذه المرة متحرراً من تلك القيود، مصمماً على القيام بما يريده، ومحاطاً بفريق يتشارك معه إيمانه بالتخلي تماماً عن فكرة الرحلات المجانية لأي كان، والتحرر من عبء حماية دول يراها ويرونها أقل من الولايات المتحدة، ويتفرغ ويتفرغون لما يراه ويرونه أكثر أهمية لأميركا.
وجاء هذه المرة ليكون ذلك الشخص: ليكون ترمب. جسد ذلك في لقائه بزيلينسكي في ختام الأسبوع، وجسد ذلك في بداية الأسبوع بخطوات عملية تزامنت مع الذكرى الثالثة للحرب في أوكرانيا: ففيما كان يستعد لمؤتمره الصحافي إلى جانب ماكرون كانت بعثته في الأمم المتحدة تصوت ضد قرار أوكراني في الجمعية العامة للأمم المتحدة يصف روسيا بالمعتدي، وتطرح مشروع قرار آخر في مجلس الأمن يدعو لإنهاء الحرب دون ذكر من المعتدي، ومن المعتدى عليه.
التاريخ بين أميركا وأوروبا
في التاريخ الحديث، المأزق الأكبر الذي يحضر إلى الذاكرة في العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا هو إبان غزو العراق، عندما وقفت بريطانيا إلى جانب أميركا، بينما نأت باقي دول أوروبا بنفسها عنها، لكنه مأزق لم يرق بأي شكل من الأشكال إلى مستوى التحدي الذي تشهده العلاقة اليوم بين الطرفين بحسب المراقبين.
في التاريخ الأقدم، يستذكر البعض قيام الرئيس الفرنسي شارل ديجول بسحب بلاده من الجناح العسكري لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1966، لكنهم أيضاً يستذكرون موقف ديجول من الحصار الذي أرادت الولايات المتحدة فرضه على كوبا خلال أزمة الصواريخ الروسية، عندما حاول فريق الرئيس الأميركي جون كينيدي آنذاك إطلاعه على صور الصواريخ، فقاطعهم قائلاً: كلمة رئيسكم كافية.
بدا كل ذلك تاريخاً موغلاً في القدم هذا الأسبوع.
بدا بعيداً كثيراً عما حصل عند تفعيل البند الخامس لحلف شمال الأطلسي لصالح أميركا في أفغانستان بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعن حرب فيتنام التي حارب فيها الأستراليون إلى جانب الأميركيين في فيتنام، والأتراك في الحرب الكورية.
وعلى الرغم من أن مصادر دبلوماسية أكدت لي بداية الأسبوع أن ما يهم ليس الكلام الذي قد يصدر عن ترمب والذي يستخدم للصرف محلياً، وإنما استمرار الدعم الأميركي لأوكرانيا، إلا أن أسبوع البيت الأبيض الطويل ترك صدوعاً في العلاقة بين الحلف الغربي تتجاوز محاولات الإنكار.
ومما لا شك فيه أن الأوروبيين سيحاولون إنقاذ العلاقة، إلا أنهم أدركوا أنه لا يمكنهم الاعتماد من الآن فصاعداً على الولايات المتحدة، خصوصاً أن مشهد زيلينسكي مطروداً من البيت الأبيض يقترب بالشكل والمضمون مما حصل مع كندا والمكسيك فيما يتعلق بطريقة إدارة ترمب في التعامل مع أزمة الحدود.
وبعد اجتماع ترمب مع زيلينسكي، علقت مسؤولة مفوضية الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس أنه بات من الواضح أن العالم الحر بحاجة لقائد جديد، فيما دعا فريديرك ميرتس الذي سيتولى منصب المستشار الألماني المقبل إلى ضرورة الاستقلال عن الولايات المتحدة، في وقت كان هؤلاء يستعدون لقمتهم مع زيلينسكي في قصر لانكستر.
وإذ أن هذا الأمر يبدو صعباً على الأقل في المستقبل المنظور، لكنه بالتأكيد يؤشر لبداية مرحلة جديدة في العلاقة لم يتضح بعد كيف ترى فيها إدارة ترمب روسيا، وما إذا كانت ستبقي على كامل العقوبات ضدها، وأين سيكون موقع موسكو في العالم الجديد الذي سيتشكل.
الصين والشرق الأوسط
وهو أمر ينسحب على العلاقة مع الصين بشكل ما. فصحيح أن التحدي الصيني وضرورة التصدي له هو محط إجماع بين ترمب وحركته والجمهوريين والديمقراطيين، إلا أنه كان من اللافت هذا الأسبوع رفضه بأن يجيب بـ”نعم” أو “لا” عما إذا كان لن يسمح للصين بأخذ تايوان بالقوة ما دام هو رئيساً، على غرار وعده بأن إيران لن تحصل على سلاح نووي ما دام هو رئيساً. وهو يخالف تماماً ما قاله بايدن سابقاً، الذي أبدى استعداده لاستخدام القوة دفاعاً عن تايوان.
ترمب أيضاً كان ترمب مجدداً في رؤيته للشرق الأوسط. فالرجل الذي لطالما نشر فيديوهات له يصارع خصومه في السياسة، لجأ إلى تقنية الذكاء الاصطناعي لنشر فيديو جدلي عبر حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي يروج لخطته للقطاع، يظهره في غزة هو وإيلون ماسك ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
مشاهد تضاف إليها صورة أول اجتماع حكومي لإدارة ترمب في البيت الأبيض. اجتماع بدا دفاعاً عن إيلون ماسك، الذي حظي بفرصة الكلام، بينما أعطي الوزراء فرصة التصفيق.
اجتماع أعاد ترمب خلاله الحديث عن نيته إطلاق ما يعرف بالبطاقة الذهبية التي تتيح منح الإقامة الدائمة لمن يستثمر خمسة ملايين دولار وما فوق في الولايات المتحدة، قبل أن يختتم أسبوعه السادس بأمر تنفيذي يعتمد الإنجليزية لغة رسمية للبلاد.