لم تكن دعوة زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، لحزبه بإلقاء السلاح ووقف التمرد ضد تركيا، حدثاً مفاجئاً، إذ سبقتها مباحثات “عسيرة” على مدى الأشهر الماضية، كان ميدانها سجن جزيرة إمرالي في بحر مرمرة.
صباح الخميس، توجه وفد من حزب “الديمقراطية والتقدم” الكردي إلى جزيرة إمرالي، للقاء أوجلان، بعد موافقة وزارة العدل التركية على طلب الحزب للقائه في سجنه للمرة الثالثة خلال شهر.
وضم الوفد الرئيسين المشتركين للحزب، تولاي حاتم أوغوللاري، وتونجر بكرهان، والنائبة عن ولاية فان بريفين بولدان، والنائب عن ولاية إسطنبول سري سريا أوندر، وأحمد تُرك، الذي أُقيل من منصبه كرئيس لبلدية ماردين الكبرى قبل أشهر قليلة، إضافة إلى المحاميين جنكيز تشيتشيك، وفائق أوزغور إيرول.
وبعد نهاية الزيارة، أرسل أوجلان رسالة للرأي العام، قرأتها النائبة عن ولاية فان بريفين بولدان، وجّه من خلالها دعوة إلى حزب العمال الكردستاني، وصفت بأنها تاريخية، لحل نفسه وإلقاء السلاح، مؤكداً أنه يتحمل المسؤولية التاريخية عن قراره.
ودعا أوجلان، الحزب إلى عقد مؤتمر عام واتخاذ القرار بحل نفسه، موضحاً أنه لا سبيل “سوى الديمقراطية والحوار الديمقراطي ولا بقاء للجمهورية إلا بالديمقراطية الأخوية، ولغة العصر هي السلام والمجتمع الديمقراطي بحاجة إلى التطوير”.
وفي استجابة لدعوة أوجلان، أعلن حزب العمال الكردستاني، التزامه بوقف إطلاق النار مع تركيا، اعتباراً من السبت، وموافقته على عقد مؤتمر لنزع سلاح الحزب وحلَّه، مشدداً على ضرورة “تهيئة بيئة آمنة لإنجاح المؤتمر المرتقب”، وضرورة أن يتولى الزعيم الكردي أوجلان، توجيهه وإدارته شخصياً، مشيراً إلى أن “تنفيذ أوامر مثل إلقاء السلاح لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال القيادة العملية لأوجلان”.
كيف بدأت الحكاية؟
مصادر تركية مطلعة، أوضحت لـ”الشرق”، أن فكرة مد اليد إلى عبد الله أوجلان لم تكن مطروحة بشكل جدي قبل أكتوبر 2024، مستدركة: “لكن في 3 أكتوبر انعقد اجتماع غير مخطط بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وزعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، استمر لمدة 45 دقيقة تقريباً، وشهد الحديث عن القضية الكردية، وملف مكافحة التنظيمات الإرهابية المسلحة التي تنشط على الحدود خصوصاً في سوريا، بالإضافة إلى أمور أخرى في نفس السياق”.
وأضافت المصادر، أنه في اليوم التالي للاجتماع، عقد أردوغان اجتماعاً لمجلس الأمن القومي التركي، أعقبه صدور بيان جاء فيه أن “الأنشطة الهادفة إلى تحييد المنظمات الإرهابية المتواجدة على الأراضي السورية ستستمر دون هوادة، ولن نسمح بأي خطة أو محاولة لفرض أمر واقع من شأنها المساس بأمننا الوطني، كما سيتم تكثيف الجهود لحل الصراع في سوريا بما يتماشى مع مصالح وتطلعات منطقتنا والشعب السوري”.
والمقصود بـ”المنظمات الإرهابية” التي أشار إليها البيان، هي التنظيمات الكردية المسلحة في سوريا، وخصوصاً حزب الاتحاد الديمقراطي “PYD” الذي تعتبره أنقرة امتداداً لحزب العمال الكردستاني.
المفاجأة الكبرى بالنسبة للشعب التركي، وخصوصاً القوميين، حدثت خلال خطاب زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي، في 22 أكتوبر، عندما دعا أوجلان لإعلان “انتهاء الإرهاب وحل المنظمة الإرهابية”.
وأضاف بهجلي آنذاك: “نحن مستعدون لتقديم أي تضحية من أجل تركيا والأمة التركية”، وهو ما فُسّر على أنه قبول بالمصالحة مع أوجلان، وبعد ذلك تتالت اللقاءات والتصريحات والزيارات إلى “إمرالي”، حتى توجت بإطلاق أوجلان دعوته لحل التنظيم، لكن هذه الخطوة ربما لا تُمثل نهاية للتنظيم الذي تصنفه تركيا والولايات المتحدة ودول عدة على “قوائم الإرهاب”.
“عصر جديد في تركيا”
في أول رد فعل رسمي على دعوة أوجلان، قال محمد أوجوم، مستشار الرئيس التركي إن “هدف تركيا الخالية من الإرهاب أصبح حقيقة خطوة بخطوة، وكانت دعوة أوجلان منسجمة مع الإطار والمحتوى الذي رسمته مبادرة الدولة التي عبر عنها الرئيس أردوغان، وبهجلي”.
وأضاف أوجوم أن “مدى الامتثال لهذه الدعوة أصبح الآن مسألة عملية، وأولئك الذين لا يمتثلون سوف يواجهون العواقب. الدعوة غير قابلة للتفاوض وغير مشروطة، الآن يبدأ عصر جديد في تركيا”، فيما اعتبر المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم، أن “على المسلحين الأكراد في تركيا والعراق وسوريا إلقاء أسلحتهم، لا مساومة أو تفاوض مع الإرهابيين”.
ونقلت شبكة “رووداو” الكردية عن حزب العمال الكردستاني، السبت، قوله: “من الواضح أن عملية تاريخية جديدة بدأت في كردستان والشرق الأوسط بهذه الدعوة، وسيكون لهذا أيضاً تأثير كبير على تطوير الحياة الحرة والحكم الديمقراطي في جميع أنحاء العالم، وعلى هذا الأساس، تقع المسؤولية علينا جميعاً؛ يجب على الجميع أن يتقبلوا واجباتهم ومسؤولياتهم، ويؤدوها وفقاً لذلك”.
وعلى صعيد المعارضة التركية، قال زعيم حزب الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة) أوزغور أوزال، إن “الدعوة الموجهة للمنظمة الإرهابية بإلقاء السلاح وحل نفسها أمر مهم، ونأمل أن تؤدي هذه الدعوة إلى وضع حد للإرهاب إلى الأبد، والذي أودى بحياة عشرات الآلاف من الأشخاص، وتسبب في أضرار اقتصادية واجتماعية جسيمة”.
وتابع أوزال: “لن يسمح حزب الشعب الجمهوري باستغلال مطالب المجتمع بالسلام والديمقراطية من قبل أي سلطة أو منصب أو جهة لتحقيق أهدافها السياسية الخاصة”.
ورحبت الأحزاب الكردية في تركيا، بحذر بدعوة أوجلان، وقال الرئيس المشارك لحزب “الديمقراطية والتقدم”، تونجر باكيرهان إن “تركيا تعيش أياماً تاريخية من النقاش السياسي، وبدعوة أوجلان، فإن الجدار الذي يحتمي خلفه البعض سيختفي، وبعد هذه الدعوة ستتم مناقشة قضية الديمقراطية في البلاد”.
دعوة إيجابية.. لكن
ووصف عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الكردي (البارتي) عثمان مسلم، دعوة أوجلان بأنها “إيجابية”، وأنها تُمثل “تحولاً كبيراً في تاريخ هذا الصراع الدموي” الذي يمتد لأكثر من 40 عاماً.
وقال مسلم لـ”الشرق”: “في ظل الهامش الديمقراطي الكبير في البلاد، نرى أن السبيل لحل القضية الكردية في تركيا سيكون من خلال الحوار وليس الرصاص. كما أن أوجلان كزعيم للعمال الكردستاني يستطيع التأثير على الحزب وجماهيره، وهو يحظى بتأييد داخل المجتمع الكردي في تركيا، ومن حزب الشعوب وبإمكانه عزل (PKK) جماهيرياً إذا لم يستجب قادته لنداء إلقاء السلاح”.
وأضاف: “تقف أغلب الأحزاب الكردية في تركيا وسوريا والعراق إلى جانب هذا النداء، إيماناً منها بالحل السلمي الديمقراطي بعد فشل العنف في تحقيق أي هدف طيلة العقود الماضية”.
وتابع: “يساهم المجتمع الدولي والإقليمي والزعيم الكردي مسعود البرزاني في دعم هذه المبادرة التاريخية. وفي تركيا أعتقد الحكومة والمعارضة كلاهما يشجعان المبادرة، ويريدون الانتقال إلى مرحلة شراكة الشعبين الكردي والتركي في بناء تركيا الحديثة”.
ورأى مسلم أن “الدعوة بالتأكيد هي نتاج تفاهمات مسبقة بين الحكومة التركية وأوجلان، وأعتقد أن أوجلان وصل إلى قناعة بأن السلاح عاجز عن تحقيق أهداف الحزب، والواقع اليوم يختلف عن الماضي على مستوى المنظومة العالمية والمنطقة، وأن الحوار والعمل السلمي الديمقراطي السبيل الأفضل والمقبول دولياً للوصول إلى الشراكة في بناء تركيا دون أعمال عنف”.
ليست المرة الأولى
عضو هيئة التدريس في جامعة كوتاهيا التركية حسين شيهانلي أوغلو، ينظر إلى دعوة أوجلان بتفاؤل مشروط، قائلاً إنها ليست الأولى من نوعها، إذ سبق أن أطلق زعيم حزب العمال الكردستاني دعوتان متشابهتان إحداهما عام 2013، لكنهما فشلتا.
وأضاف أوغلو لـ”الشرق”: “تم تدمير دعوات أوجلان السابقة كما تم تدمير 18 منطقة وحي بمدينة ديار بكر، وأصبحت مثل غزة، لكن لكي تسير العملية الجديدة بشكل إيجابي، علينا أن نرى ماذا سيفعل حزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديمقراطي بأسلحتهما وتنظيماتهما، فإذا أغلقت هذه المنظمات أبوابها، كما قال أوجلان، فإن هذه العملية ستفتح لكي يعيش الأكراد فترة ذهبية”.
الدور الإيراني
أما الكاتب المتخصص في الشأن الكردي هوشنك أوسي، رأى أن “حزب العمال الكردستاني ليس كله عبد الله أوجلان، لأن هناك جناحاً متشدداً داخله يقوده جميل بايك الخاضع للنفوذ الإيراني، والاتفاق بين تركيا وأوجلان لا يعني الاتفاق مع الأكراد ككل، لأن أوجلان له فقط جناح موالٍ في الحزب المترامي الأطراف، وهذا الحزب موجود في تركيا وسوريا والعراق وعدة دول أخرى”.
واعتبر أوسي أن “إيران لاعب خفي، إذ يحظى جميل بايك المتواجد في جبال قنديل بدعم من السلطات في طهران، ولذلك أرى أن هذه الدعوة ليست اتفاق نهائي بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، لأن الحزب ليس على قلب رجل واحد”.