وسط جدل أثاره الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإبداء رغبته في السيطرة على جرينلاند، عقد مجلس الشيوخ جلسة استماع لمناقشة الأهمية الاستراتيجية، والاقتصادية للجزيرة الخاضعة للسيادة الدنماركية، وخيارات ضمها.
الجلسة، التي دعا إليها السيناتور الجمهوري ورئيس لجنة التجارة والعلوم والنقل في مجلس الشيوخ، تيد كروز، تأتي في وقت يؤكد فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب على ضرورة أن تصبح جرينلاند جزءاً من الولايات المتحدة، دون أن يستبعد استخدام القوة لتحقيق ذلك.
وأبرز كروز خلال الجلسة التي عقدت، الأربعاء، الدور المحوري لجرينلاند في الأمن القومي الأميركي، مشيراً إلى أن موقعها الجغرافي يجعلها ذات أهمية كبرى للدفاع عن الولايات المتحدة، خصوصاً مع تزايد النفوذ الروسي والصيني في المنطقة القطبية الشمالية.
وقال كروز: “جرينلاند ليست مجرد جزيرة نائية، بل تقع في قلب العديد من القضايا العالمية المهمة، سواء من حيث موقعها على طرق التجارة العابرة للأطلسي، أو من حيث تأثيرها على الأمن القومي الأميركي”، مضيفاً: “تقع جرينلاند مباشرة على أقصر مسار طيران للصواريخ الباليستية العابرة للقارات المتجهة من روسيا أو الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة، مما يجعل موقعها أمراً حيوياً لأمننا القومي”.
ولفت إلى أن القاعدة العسكرية الأميركية في جرينلاند (قاعدة ثول الجوية)، وهي أقصى نقطة شمالية للجيش الأميركي، توفر إنذاراً مبكراً ضد الصواريخ الباليستية، وتُستخدم لمراقبة الفضاء.
كما أشار إلى أن ضعف القدرات الأميركية في مجال كسح الجليد مقارنة بالصين وروسيا يشكل خطراً كبيراً، إذ تمتلك روسيا أكثر من 40 كاسحة جليد، بينما تمتلك الصين 4، في حين أن الولايات المتحدة لا تمتلك سوى واحدة فقط تجاوزت عمرها التشغيلي 20 عاماً.
جرينلاند.. صفقة شراء واستفتاء
واستبعد كروز استخدام القوة العسكرية لضم جرينلاند، مرجحاً محاولة شراء الجزيرة من الدنمارك، وأضاف: “لا يجب أن ننسى أن الأصدقاء والحلفاء يمكن أن يخوضوا محادثات صعبة.. تمتلك الولايات المتحدة والدنمارك علاقة قوية، والمناقشات حول مستقبل جرينلاند لا يجب أن تكون عدائية”.
وفي مطلع فبراير الجاري، أكدت رئيسة الوزراء الدنماركية، مته فريدريكسن، أن جرينلاند “ليست للبيع”، لكنها أبدت استعدادها لتعزيز الوجود الأميركي في المنطقة القطبية الشمالية.
وقالت فريدريكسن: “أنا أتفق تماماً مع الأميركيين في أن القطب الشمالي والمنطقة الشمالية العليا يزدادان أهمية عندما نتحدث عن الدفاع والأمن والردع”، مشيرة إلى التحركات الصينية والروسية في المنطقة.
ورجح كروز الحاجة إلى استفتاء شعبي في جرينلاند، قائلاً “إذا كان مستقبل جرينلاند سيشمل الانضمام إلى الولايات المتحدة، فإن ذلك سيتطلب على الأرجح موافقة شعب جرينلاند، وربما عبر استفتاء عام. سيكون هذا قراراً متبادلاً، وهو قرار يستحق المناقشة. بالنسبة لشعب جرينلاند، سيكون هناك العديد من الفوائد إذا أصبحت أراضيهم جزءا من الولايات المتحدة، بما في ذلك: الحصول على الجنسية الأميركية ومليارات الدولارات من الاستثمارات الأميركية الجديدة في جرينلاند”.
ولفت كروز إلى أن شراء أراضٍ جديدة “ليس أمراً غير مألوف بالنسبة للولايات المتحدة، بل يشكل ذلك جزء كبيراً من تاريخ أمتنا من خلال عمليات الاستحواذ على الأراضي”.
وأضاف: “في عام 1867، اشترت الولايات المتحدة ألاسكا من روسيا مقابل 7.2 مليون دولار، والتي أصبحت لاحقاً الولاية التاسعة والأربعين، وبالإضافة إلى ذلك، ليس من غير المألوف أن تشتري الولايات المتحدة أراضي من الدنمارك، حيث قامت في عام 1917 بشراء فيرجن أيلاندز من التاج الدنماركي، لتأمين موقع عسكري استراتيجي في منطقة البحر الكاريبي، خاصةً لحماية قناة بنما وطرق التجارة البحرية من ألمانيا التي كانت في حالة حرب مع القوى الغربية آنذاك”.
“كنز جيولوجي”
إلى جانب الأهمية العسكرية، ركزت جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ على الثروات المعدنية الضخمة التي تمتلكها جرينلاند، وهي نقطة ناقشها أنتوني ماركيزي، رئيس مجلس إدارة شركة Texas Mineral Resources، الذي وجهت له لجنة التجارة والعلوم والنقل الدعوة لتقديم رؤيته.
وقال أنتوني ماركيز إن جرينلاند تحتوي على بعض أغنى الرواسب المعدنية في العالم، بما في ذلك العناصر الأرضية النادرة اللازمة لصناعات التكنولوجيا والدفاع.
وأشار إلى أن “جرينلاند كنز جيولوجي غير مستغل بالكامل، لكن مناخها القاسي وغياب البنية التحتية يجعلان عمليات التعدين فيها معقدة ومكلفة”.
ولفت إلى أن عمليات الحفر ضرورية لمعرفة كمية ونوعية المعادن، لكنه حذر من أن عمليات التنقيب قد تكون “مكلفة للغاية، خاصة في بيئة صعبة مثل جرينلاند؛ بسبب عدم وجود طرق، وقود، كهرباء، أو مساكن كافية.
في السياق، قال إن الولايات المتحدة في حال ضمها الجزيرة، قد تحتاج إلى تقديم حوافز للشركات الخاصة من أجل القيام بعمليات التنقيب واستخراج المعادن الطبيعية.
من جانبه، أشار السيناتور تيد كروز إلى أن العناصر الأرضية النادرة التي تتوفر عليها جرينلاند “مواد ضرورية لكل شيء من التكنولوجيا إلى الدفاع الوطني”، وأضاف: “هذه العناصر ضرورية في تصنيع الهواتف الذكية، والمعدات العسكرية، والتقنيات الطبية، وغيرها الكثير”.
ولفت كروز إلى أن الصين تهيمن حالياً على سوق العناصر الأرضية النادرة، وأن الولايات المتحدة يجب أن تجد بدائل لتقليل اعتمادها على الموردين الأجانب، وجرينلاند يمكن أن تكون حلاً استراتيجياً لذلك.
خيارات ضم جرينلاند
ناقش الخبراء والمسؤولون الحاضرون الخيارات المتاحة للولايات المتحدة في علاقتها بجرينلاند، وقال ألكسندر جراي، زميل أول في المركز الأميركي للسياسة الخارجية خلال شهادته أمام اللجنة، إن هناك طريقتين رئيسيتين يمكن للولايات المتحدة اتباعهما لجعل جرينلاند أقرب إلى النفوذ الأميركي.
الطريقة الأولى، بحسب جراي، تكمن في تحويل جرينلاند إلى “منطقة غير مدمجة” (Insular Area) على غرار جوام وفيرجن أيلاندز الأميركية.
أما الخيار الثاني، يكمن في “إبرام اتفاقية ارتباط حر (COFA)”، شبيهة بالاتفاقيات التي تربط الولايات المتحدة بجزر مارشال وميكرونيزيا وبالاو، بحيث تحتفظ جرينلاند بسيادتها، لكن يكون للولايات المتحدة حق الدفاع عنها ورفض أي وجود عسكري لقوى منافسة، بحسب جراي.
ولفت إلى أن الخيار الثاني “ممتاز”، بحيث “ستحتفظ جرينلاند بسيادتها، مع التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنها ومنحها وصولاً أمنياً. ستتمكن الولايات المتحدة من رفض أي محاولة لقوى معادية للحصول على موطئ قدم عسكري في جرينلاند”.
وحذر جراي من أن “الولايات المتحدة أمامها وقت محدود لوضع استراتيجية واضحة تجاه جرينلاند، حيث إن”السماح لها بالاستقلال دون خطة أميركية قد يؤدي إلى استغلالها من قبل خصومنا”.
وقال: “المخاطر الأمنية المرتبطة باستقلال جرينلاند عالية جداً، ولا يمكن السماح بحدوث ذلك دون خطة أمريكية واضحة.. هناك خيارات جيدة يمكن تنفيذها، ولكن ذلك يتطلب اهتماماً وتركيزًا وإرادة سياسية من الإدارة الأميركية والكونجرس”.
من جانبها، دعت الدكتورة ريبيكا بينكوس، مديرة معهد القطب الشمالي، في مركز ويلسون، إلى اتخاذ “قرارات مدروسة” تراعي العوامل الجغرافية، التهديدات المستقبلية، وأيضاً المخاطر والتكاليف التي قد تنطوي عليها الطريقة التي تتبعها الولايات المتحدة لضم جرينلاند.
وقالت: “تمتلك الولايات المتحدة مجموعة من الخيارات السياسية المتاحة في جرينلاند، واختيار أحدها يعتمد على تحديد الأولويات، المخاطر، التكاليف، والسابقة التاريخية.. سيكون على الرئيس والكونجرس اتخاذ تلك القرارات وصياغة السياسة المناسبة، وأعتقد أن إجراء مراجعة شاملة للسيناريوهات المختلفة والاحتمالات المستقبلية لجرينلاند سيكون مفيداً للغاية”.
وأضافت أنه “يجب أن ننظر في الخيارات الممكنة للولايات المتحدة وفقاً لمعايير الأولوية والمخاطر والتكلفة.. لقد سمعنا اليوم عن جرينلاند في سياق عالمي، ولدينا خيارات تمتد عبر المحيط الهادئ فيما يتعلق بعلاقتنا المستقبلية مع جرينلاند، لذلك علينا دراسة هذا الملف من منظور جغرافي شامل وأيضاً من منظور تطوري عبر الزمن. لقد كانت جرينلاند مهمة للغاية بالنسبة للدفاع الصاروخي الأميركي لعقود، مما يجعلها ذات أهمية استراتيجية دائمة”.
اعتراض ديمقراطي
وأثارت تصريحات إدارة ترمب حول “شراء جرينلاند” استياء سكان الجزيرة، ما دفع الديمقراطيين بالكونجرس إلى التحذير من تقويض علاقة الولايات المتحدة مع حليفها في الناتو، الدنمارك.
وقال السيناتور الديمقراطي آندي كيم خلال كلمته في الجلسة إنه تحدث مع سكان جرينلاند خلال الأسبوع الماضي، وإنهم شعروا بالإهانة من الطريقة التي يتم التحدث بها عن الجزيرة وكأنها مجرد سلعة يمكن للولايات المتحدة امتلاكها.
وأضاف كيم: “نحن بحاجة إلى بناء علاقات أقوى مع جرينلاند دون الحاجة إلى امتلاكها.. هناك الكثير من الفرص للتعاون العلمي والتجاري، لكن الحديث عن ضمها أو شرائها يضر بعلاقاتنا مع سكانها”.
وأشار إلى أن 85% من سكان جرينلاند يعارضون فكرة أن تصبح بلادهم جزءا من الولايات المتحدة، بينما يرى 46% منهم أن اهتمام ترمب بجرينلاند يشكل تهديداً لهم.
وقال كيم: “إذا كنا نريد حقاً تعزيز علاقتنا مع سكان جرينلاند، خاصة في سيناريو ما بعد الاستقلال، فنحن نحرق الجسور، ونزرع بذور عدم الثقة، مما سيجعل تحقيق أي اتفاق مستقبلي أكثر صعوبة بكثير”.
إحياء “مبدأ مونرو”
ورد ألكسندر جراي، وهو زميل أول في المركز الأميركي للسياسة الخارجية، على مداخلة السيناتور الديمقراطي كيم، قائلاً إن النظر في خيارات ضم جرينلاند يقع ضمن “مبدأ مونرو” لعام 1823، الذي أقرته الولايات المتحدة لمواجهة التدخل الأوروبي في نصف الكرة الغربي، وكبحت القوة الإسبانية قبل نهاية القرن الـ19، وفرضت سيطرتها على البحر الكاريبي، وأخضعت خصومها الإقليميين.
وقال جراي: “إذا نظرت إلى تاريخ علاقاتنا مع جرينلاند والمخاوف الاستراتيجية التي كانت لدينا بشأنها، ستجد أنها حالة فريدة من نوعها، وإذا عدت إلى التاريخ، عندما كنا نتفاوض مع الدنمارك لشراء فيرجن أيلاندز الأميركية، كانت إحدى الخطوات التي اتخذناها في ذلك الوقت هي التنازل عن مبدأ (مونرو)، وهو أحد المبادئ القليلة التي تخلى عنها الرؤساء الأميركيون على مر التاريخ، وأخبرنا الدنماركيين بأننا لا نمانع في حصولهم على مزيد من السيطرة السياسية على جرينلاند، والتي لم تكن سيادتها واضحة تماماً في ذلك الوقت”.
وتابع: “لذا، هذه القضية تقع بوضوح ضمن إطار مبدأ مونرو والدفاع عن نصف الكرة الغربي، وهي جزء من التصورات الاستراتيجية الأميركية التقليدية لحماية محيطنا الخارجي”.
وأظهر ترمب منذ فوزه في الانتخابات الأخيرة نهجاً واضحاً يعطي الأولوية لحماية المصالح الأميركية في جوارها المباشر، مثل جرينلاند وكندا وبنما، وهو التحول الذي وصفته وسائل الإعلام الأميركية بأنه محاولة من ترمب لـ”إحياء مبدأ مونرو”.
وينص مبدأ مونرو لعام 1823 على أن نصف الكرة الغربي يجب أن يكون خالياً من التدخل الأوروبي، وكان التركيز الأول للسياسة الخارجية الأميركية يتمحور حول حماية المصالح الأميركية في هذه المنطقة الشاسعة.
ومنذ ذلك الحين، اتخذت الولايات المتحدة خطوات حاسمة لتعزيز نفوذها في هذا الإطار، منها، شراء ألاسكا من روسيا عام 1867، واقتراح شراء جرينلاند من الدنمارك، بالإضافة إلى بناء قناة بنما كممر استراتيجي رئيسي، وغزو بورتوريكو وكوبا عام 1898 خلال الحرب الإسبانية الأميركية، بالإضافة إلى شراء فيرجن أيلاندز الأميركية من الدنمارك عام 1917 لتعزيز وجودها العسكري في الكاريبي.
غير أن الاهتمام الأميركي بنصف الكرة الغربي تراجع في العقود الأخيرة، بسبب إرث السياسات الأميركية الإمبريالية في المنطقة، إذ بدأ هذا التحول بقرار الرئيس جيمي كارتر في أواخر السبعينيات بالتخلي عن قناة بنما، حيث أصبح يُنظر إلى بناء القناة باعتباره مثالًا على “الإمبريالية الأميركية”، قبل أن يتحول التركيز بشكل جوهري بعيداً عن الجوار الأميركي عقب أحداث 11 ديسمبر.
وبحسب مجلة “فورين بوليسي”، فإنه على عكس الإدارات السابقة، يعيد ترمب إحياء نهج استراتيجي قديم عبر التركيز على التهديدات والمصالح الأميركية في نصف الكرة الغربي، نظراً لأنه يرى أن الانسحاب الأميركي من المنطقة أدى إلى تنامي النفوذ الصيني في المنطقة.
ووفق المجلة، فإن إعادة تركيز واشنطن على جوارها الجغرافي قد يكون أحد التحولات الأكثر دراماتيكية في السياسة الخارجية الأميركية منذ عقود، وهو تغيير يعيد إحياء تقاليد تاريخية كانت قد تلاشت منذ الحرب العالمية الثانية.