قالت شبكة CNN، إن المكالمة الهاتفية، التي أجراها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين أعادت الأخير إلى الساحة بعد فترة من “العزلة” الدولية، إذ وضعا خططاً لإنهاء الحرب في أوكرانيا، واتفقا على تبادل الزيارات الرئاسية.
يأتي ذلك في الوقت، الذي توجه فيه وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث إلى بروكسل، حيث دعا حلفاء أوروبيين إلى “تحمل المسؤولية عن الأمن التقليدي في القارة”.
وأشارت الشبكة الأميركية في تقرير، الخميس، إلى أن هذا التحوّل يُسلط الضوء على أيديولوجية ترمب القائمة على مبدأ “أميركا أولاً” وإلى ميله للنظر إلى كل قضية أو تحالف من منظور مكاسب وخسائر مالية، كما يسلط الضوء على تحرره من مستشاري المؤسسة الحاكمة المتمسكين بأسس السياسة الخارجية الغربية الذين يعتقد أنهم عرقلوا ولايته الأولى.
ووصفت CNN تبعات سياسة الإدارة الأميركية الجديدة في التعامل مع أوروبا بالقول إن “القرن الأميركي في أوروبا انتهى”.
ورغم أن هيجسيث جدد التزامه تجاه حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكن ثمة “تغير جوهري” قد حدث، إذ أسهمت التدخلات الأميركية في حسم حربين عالميتين اندلعتا في أوروبا، ثم ضمنت حرية القارة في مواجهة التهديد السوفييتي، وفق CNN.
وكان ترمب قال خلال حملته الانتخابية إنه قد لا يدافع عن أعضاء الحلف، الذين لم يستثمروا بالقدر الكافي في مجال الدفاع، ليعيد إحياء تساؤل دائم طرحه رئيس وزراء بريطانيا الراحل ونستون تشرشل بـ”أبلغ العبارات” عام 1940 بشأن موعد قدوم “العالم الجديد، بكل قوته وعظمته، لإنقاذ وتحرير العالم القديم”.
وذكرت CNN أن ترمب يعيد تبني المنطق الذي استخدمه العديد من الرؤساء “المتحفظين” بشأن التدخلات الخارجية منذ تأسيس الجمهورية، مشيرة إلى تصريحه، الأربعاء: “لدينا شيء صغير يسمى المحيط يفصل بيننا”.
صراحة صادمة
كان من الواضح منذ فترة طويلة أن إدارة ترمب الثانية ستفرض مطالب جديدة على شركاء الولايات المتحدة الأوروبيين، ما سيجبر الحكومات التي فضّلت الإنفاق الاجتماعي على الدفاع على اتخاذ “قرارات مؤلمة”، بحسب CNN.
والشهر الماضي، قال الأمين العام لحلف “الناتو”، مارك روته، أمام البرلمان الأوروبي، إن على الأوروبيين توفير المزيد من الأموال لجيوشهم. وأضاف: “إذا لم تفعلوا ذلك، فابدؤوا بتعلم اللغة الروسية، أو انتقلوا إلى نيوزيلندا”.
واعتبرت CNN تصريحات هيجسيث كانت “صادمة”، موضحة أنه أضفى طابعاً رسمياً على مطالبة ترمب لأعضاء التحالف بإنفاق 5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.
وقال هيجسيث إن الولايات المتحدة ستعطي الأولوية لمواجهتها المتصاعدة مع الصين، وأمن حدودها على حساب أمن أوروبا.
وقال وزير الدفاع الأميركي الجديد، الذي كان يضع منديلاً عليه العلم الأميركي في جيب سترته: “الولايات المتحدة لن تتسامح بعد الآن مع علاقة غير متوازنة تشجع على التبعية”.
وأشارت CNN إلى أن النهج الجديد الصارم لا يشبه “خيال” ترمب بشأن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة، لبناء ما وصفه بـ”ريفييرا الشرق الأوسط”، بل هو “استجابة عقلانية للواقع السياسي المتغير”.
وأضافت أن “الجيل الأعظم”، الذي خاض الحرب العالمية الثانية، وأنجب رؤساء أدركوا مخاطر الفراغ في أوروبا قد رحل، مُشيرة إلى أن أي أميركي لديه ذاكرة راشدة عن الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي لا يقل عمره اليوم عن منتصف الخمسينيات، وأن أقوى منافس للولايات المتحدة يوجد في آسيا، وليس في أوروبا.
واعتبرت أنه من المنطقي أن يتساءل ترمب عن سبب عدم تولي القارة الأوروبية مسؤولية دفاعها عن نفسها بعد 80 عاماً من هزيمة النازيين.
وذكرت CNN أن رؤساء أميركيين متعاقبين وقادة أوروبيين لم يتمكنوا من إعادة التفكير في دور الناتو في القرن الـ21، وبالنظر إلى الوراء، ترك التحالف عبر الأطلسي نفسه “مكشوفاً بشدة” أمام أكثر رئيس أميركي يعتمد على المعاملات والنزعة القومية منذ القرن الـ19.
واقترح وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، في مقابلة حديثة مع برنامج The Megyn Kelly Show عبر إذاعة “سيريوس XM”، أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تكون في “الواجهة” فيما يخص أمن أوروبا، بل أن تلعب دور “الداعم الخلفي”، كما وجه انتقادات للقوى الأوروبية الكبرى.
وقال روبيو: “عندما تسأل هؤلاء لماذا لا يمكنكم إنفاق المزيد على الأمن القومي، يكون ردهم أن ذلك سيتطلب خفض الإنفاق على برامج الرعاية الاجتماعية، وإعانات البطالة، والتقاعد عند سن 59، وغير ذلك من الامتيازات”. وأضاف: “هذا خيارهم، لكن هل نتحمل نحن تكلفة ذلك؟”.
وترى CNN أن تعامل ترمب مع حلفاء مثل كندا والمكسيك، إلى جانب دعوته الدنمارك للتخلي عن جرينلاند، يعكس “ازدراءه” لنهج السياسة الخارجية الأميركية متعدد الأطراف التقليدي.
وأضافت أن ترمب يشيد دائماً بذكاء وقوة بوتين، والرئيس الصيني شي جين بينج، ما يكشف بوضوح أنه يعتبرهما الوحيدين الجديرين بمخاطبة زعيم قوي لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة.
ونقلت عن نيكولاس دونجان، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “كوجيتو براكسيس” للاستشارات الاستراتيجية ومقرها لاهاي، قوله: “أجندة ترمب لا تتعلق بأمن أوروبا، بل باعتقاده أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تدفع ثمن أمن أوروبا”.
وأضاف: “هذه ليست حقبة جديدة في العلاقات عبر الأطلسي، بل عصر جديد من علاقات القوى الكبرى على مستوى العالم، يحل محل الهياكل المؤسسية المتعمدة للنظام الدولي الليبرالي”.
رسالة واشنطن بشأن أوكرانيا
قالت CNN إن أوكرانيا تمثل أول اختبار لهذه الحقيقة الجديدة في العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا، وأشارت إلى تصريح ترمب بأن مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا ستبدأ “فوراً” بعد مكالمته مع بوتين، الذي كان “مستبعداً” من قبل الغرب منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، الدولة الديمقراطية ذات السيادة، قبل 3 سنوات.
واعتبرت CNN أن عدم إشراك الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في المحادثات، يعد مؤشراً “مقلقاً” لحكومة كييف، موضحة أن زيلينسكي كان “محور” كل ما قامت به إدارة الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، بشأن الحرب.
ونوّهت بأن ترمب اتصل بزيلينسكي في وقت لاحق، الأربعاء، لكن الرئيس الأميركي يثير بالفعل مخاوف من أنه سيبرم تسوية تصب في مصلحة روسيا.
وعندما سأل أحد الصحافيين عما إذا كانت أوكرانيا ستكون “شريكاً على قدم المساواة” في محادثات السلام، أجاب ترمب: “إنه سؤال مثير للاهتمام”، وبدا وكأنه يفكر ملياً قبل أن يرد قائلاً: “قلت إن تلك لم تكن حرباً جيدة للدخول فيها”، في إشارة واضحة إلى تبنيه رواية بوتين التي تلقي باللوم في الصراع على دولة تعرضت لغزو وحشي من جار استبدادي، وفق CNN.
ولفتت CNN إلى أن هيجسيث تحدث بنفس الصراحة، إذ حدد النقاط الأساسية التي تنطلق منها الولايات المتحدة في التفاوض، مؤكداً أن أوكرانيا لا يمكنها العودة إلى حدود ما قبل عام 2014، أي قبل غزو القرم، ولا يمكنها الانضمام إلى حلف الناتو، كما أن القوات الأميركية لن تشارك في أي قوة أمنية لضمان أي اتفاق سلام مستقبلي.
علاوة على ذلك، أي قوة حفظ سلام يجب أن تتألف من قوات أوروبية وغير أوروبية، ولن تخضع لبند الدفاع المشترك في حلف الناتو، ما يعني أن الولايات المتحدة لن تتدخل لإنقاذها في حال اندلاع مواجهة مع القوات الروسية، بحسب هيجسيث.
تشبيه تاريخي مرعب
قالت CNN إن الاتصالات الأميركية-الروسية، إلى جانب القمة المستقبلية المحتملة مع بوتين في السعودية، التي قال ترمب إنها ستُعقد قريباً، ربما تكون مؤشراً على أنه لا يستبعد زيلينسكي من الصفقة فحسب، بل أوروبا أيضاً.
وفي بيان مشترك، حذرت كل من فرنسا، وألمانيا، وبولندا، وإيطاليا، وإسبانيا، والاتحاد الأوروبي، والمفوضية الأوروبية، إضافة إلى بريطانيا وأوكرانيا، من أن “كييف وأوروبا يجب أن تكونا جزءاً من أي مفاوضات”.
كما وجهت هذه الدول تحذيراً لترمب، الذي يبدو أنه يسعى لاتفاق سلام بأي ثمن، قائلة إن “السلام العادل والدائم في أوكرانيا، هو شرط أساسي لأمن قوي عبر الأطلسي”.
من جانبه، أعرب رئيس الوزراء السويدي السابق، كارل بيلدت، عن قلقه إزاء المكالمة الودية بين ترمب وبوتين.
وقال في حديثه مع قناة CNN International: “الأمر المقلق بالطبع هو أن لدينا رجلين كبيرين، بشخصيتين نرجسيتين كبيرتين.. يعتقدان أنهما قادران على التعامل مع جميع القضايا بمفردهما”.
وشبه بيلدت الأمر بسياسة الاسترضاء، التي انتهجتها بريطانيا مع الزعيم النازي أدولف هتلر، التي سمحت للنازيين بضم منطقة السوديت، التي شكلت محور نزاع بين ألمانيا النازية وتشيكوسلوفاكيا قبيل الحرب العالمية الثانية.
وأضاف بيلدت: “بالنسبة للأوروبيين، هذا يبدو وكأنه ميونيخ.. يبدو وكأنه زعيمان كبيران يسعيان لتحقيق السلام في زماننا، على حساب بلد بعيد لا يعرفان عنه الكثير.. إنهما يستعدان لإبرام صفقة على حساب ذلك البلد تحديداً، والكثير من الأوروبيين يعرفون جيداً كيف انتهى ذلك الفيلم”.