يواجه الديمقراطيون حالة من الارتباك الممزوج باليأس، بسبب سرعة وحجم التغيرات التي جلبتها إدارة الرئيس دونالد ترمب منذ اللحظة الأولى لولايته الثانية، مما يعقد جهودهم في صياغة “استجابة منظمة وفعالة”.
وبينما انتاب البعض منهم حالة من الذهول بسبب التحركات السياسية السريعة والأوامر التنفيذية التي تسمح له بتمرير سياساته، دون الحاجة إلى الرجوع إلى الكونجرس، قلّل البعض الآخر من تأثير التحركات المبكرة لترمب، معتبرين أنها “مجرد استعراض سياسي أو إجراءات مؤقتة لا تحمل تأثيراً طويل الأمد”.
مقاومة أكثر هدوءاً
في حفل تنصيبه، كان ترمب يؤدي اليمين، ويُلقي خطاباً ينتقد فيه سياسات السنوات الأربع السابقة تحت إدارة الديمقراطيين، واصفاً فترة حكم الرئيس السابق جو بايدن بأنها “مدمرة لأميركا”.
واستهدف ترمب في الساعات الأولى من ولايته بشكل مباشر السياسات والمبادئ التي دعمها الديمقراطيون بشدة خلال إدارتهم السابقة، مثل التنوع والشمول ومكافحة تغير المناخ وعرقلة حظر “تيك توك”، والسعي لإنهاء الضمان الدستوري للمواطنة بالولادة، كما أصدر عفواً مثيراً للجدل على المدانين باقتحام الكابيتول في 6 يناير 2021.
ومع عودة ترمب إلى السلطة، تبدو مقاومة الديمقراطيين، التي ظهرت قوية بشكل تلقائي بعد فوزه في انتخابات 2016، “أكثر هدوءاً وضعفاً”، على حد قول أستاذ العلوم السياسية وعضو الأكاديمية الفخرية في جامعة أوهايو، بول بيك.
وأرجع بيك، اتخاذ الديمقراطيين موقفاً أكثر سلبية وأقل مواجهة تجاه إدارة ترمب بعد عودته إلى السلطة لسببين رئيسيين، قائلاً لـ”الشرق”، إن السبب الأساسي هو أن “ترمب لديه تفويض شعبي واضح، مما يعني أن فوزه بالانتخابات، يعكس إرادة الناخبين الأميركيين الذين يعرفون تماماً طبيعة سياساته وتوجهاته”، مضيفاً: “هذا يجعل من الصعب على الديمقراطيين معارضة شرعيته بشكل مباشر، دون أن يظهروا وكأنهم يتحدّون إرادة الشعب”.
وكان ترمب قد حقّق فوزاً شاملاً، سواء بالتصويت الشعبي أو المجمع الانتخابي، مقارنة بعام 2016، حين انتزعت منافسته هيلاري كلينتون الفوز بالتصويت الشعبي.
أما السبب الثاني على حد قول بيك، يعود إلى أن “الديمقراطيين أنفسهم منقسمون بشدة بشأن كيفية التعامل مع ترمب”، على حد وصفه، وأضاف: “هذه الانقسامات تتعلق بالاتجاه العام الذي يجب أن يسلكه الحزب في ظل هذه المرحلة الحرجة، بشأن ما إذا كان يجب أن يتبنوا نهجاً تصالحياً ويُعيدوا صياغة سياساتهم لاستعادة الناخبين الذين فقدوهم، أوتصعيد المعارضة لمحاولة عرقلة أجندة ترمب بأي وسيلة ممكنة”.
لكن المرشح السابق في مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، روبرت باتيلو، يُفسر تراجع مقاومة الديمقراطيين هذه المرة مقارنة بالولاية الأولى لترمب إلى “تغير المناخ السياسي”.
القاعدة الشعبية
وأشار باتيلو في حديثه لـ”الشرق”، إلى أنه في عام 2016، كان انتخاب ترمب مفاجئاً للكثيرين، ولم يكن معظم الناس مستعدين أو مدركين لما سيأتي خلال رئاسته، “ولكن في 2024، الوضع مختلف، الناس يعرفون تماماً ما يمكن أن يتوقعوه من ترمب، ومع ذلك اختاروا دعمه”.
وقال باتيلو، إن “العديد من الديمقراطيين الآن وجدوا أن الطريقة الصحيحة للرد، لا تتعلق فقط بمعارضة ترمب، بل تتعلق بإعادة النظر في السياسات والرسائل التي يقدمها الحزب لاستعادة ثقة 77 مليون أميركي، استمعوا إلى رسائله التي تحمل العنصرية، والتمييز على أساس الجنس، والتعصب، وقرروا دعم هذا الشخص. لذلك، سيمرّ الديمقراطيون بعملية لتحديد الطريقة التي سيرد بها الحزب في المستقبل”.
وبينما يحاول بعض الديمقراطيين البحث عن استراتيجية ملائمة للوضع الراهن، فإن البعض الآخر مازال عالقاً في البحث عن تفسيرات للهزيمة المؤلمة التي لحقت بهم وكلفتهم البيت الأبيض ومجلسي الشيوخ والنواب، وقد عبر رئيس الحزب الديمقراطي في مقاطعة كولومبيا، تشارلز ويلسون عن ذلك قائلاً: “كانت الهزيمة كبيرة وموجعة”.
وأوضح خلال تصريحات لـ”الشرق”، أن ضعف المقاومة هذه المرة، ربما يعود إلى “الشعور بالخطأ الذي ارتكبه الحزب الديمقراطي”، قائلاً “كانت هناك فجوة واضحة بين الناخبين والحزب. وعلينا كحزب ديمقراطي أن نتأمل ما قمنا به بشكل خاطئ، ونراجع أخطاءنا التي أوصلتنا إلى تلك النقطة لتحديد كيفية المضي قدماً”.
ومع ذلك، لا يعترف كل الديمقراطيين بأن مقاومتهم هذه المرة أضعف وأهدأ، إذ يعارض الناشط الديمقراطي والمحامي الحقوقي، ألين أور، تلك الفرضية قائلاً: ” ليس معنى أنك لا ترى الغضب علناً أنه غير موجود”.
وأضاف أور في تصريحاته لـ”الشرق”، أن الوقت الحالي غير كافي لقياس مدى هدوء المقاومة، مشيراً إلى أن “الديمقراطيين لا يزالوا في مرحلة تقييم الوضع وتحديد الطريقة الأنسب للرد، خاصة في الأيام الأولى من ولاية ترمب”.
البحث عن أرضية مشتركة
يكافح بعض الديمقراطيين داخل الكونجرس وخارجه لاتخاذ قرار بشأن ما إذا كان ينبغي عليهم مواجهة ولاية ترمب الثانية بمعارضة كاملة، أو بذل الجهود لإيجاد أرضية مشتركة مع الجمهوريين.
فقبل أيام من تنصيبه، أعلن بعض النواب الديمقراطيين البارزين، انفتاحهم على بعض اختيارات ترمب، المثيرة للجدل، لوزراء إدارته.
وتبنى الديمقراطيون مشروع قانون لاكين رايلي، الذي دفع به الجمهوريون لملاحقة المهاجرين غير القانونيين الذين يرتكبون جرائم غير عنيفة، والذي أصبح على وشك أن يصبح قانوناً، بعد أن أقره مجلس النواب بدعم من 46 ديمقراطياً على خلفية موافقة مجلس الشيوخ، في وقت سابق من الأسبوع الجاري، بأصوات 12 ديمقراطياً.
وأرجع باتيلو إظهار الديمقراطيين في الكونجرس، نهجاً تصالحياً للتعاون مع ترمب، بأنه “جزء من الاستراتيجية السياسية للحزب بشكل عام”، مشيراً إلى أن ذلك لا يعني بالضرورة إرضاء الإدارة الجمهورية، “بل هو جزء من محاولة إعادة ضبط المسار السياسي للحزب وإعادة بناء استراتيجيته بدلاً من محاولة التأثير داخل إدارة جمهورية واضحة التوجهات”.
وقد ظهر هذا التغيير في أداء الديمقراطيين، إذ لم يعد دورهم يقتصر على عرقلة سياسات ترمب، بل التكيّف مع الواقع السياسي الجديد والعمل على قضايا قد يجد فيها الطرفان أرضية مشتركة، يصفها ويلسون بأنها “استراتيجية فعّالة”، قائلاً إنه “لا يجب أن يشكل الحزب حاجزاً أمام التقدم، أو يتبنى دور المعرقل لسياسات الجمهوريين”.
وأضاف ويلسون، أن “الحزب يبحث عن التوازنات من أجل مصالح الجمهور الأميركي، وبالتالي فإنه أكثر انفتاحاً على العمل مع الجمهوريين في بعض القضايا، مثل أمن الحدود وتخفيض الضرائب، وهي أولويات لترمب”.
ومع ذلك، يظل هناك استعداداً من جانب الديمقراطيين لخوض معارك سياسية بشأن الإجهاض، وهو ماحدث، الأربعاء الماضي، حين واجه مشروع الجمهوريين الذي من شأنه أن يفرض عقوبات على مقدمي الرعاية الصحية، الذين يفشلون في توفير الرعاية للأطفال في حالة فشل الإجهاض، معارضة ديمقراطية بالاجماع، في مجلس الشيوخ.
قال ويلسون: “لا نبحث عن المعارك بشكل خاص، لكن لا يعني ذلك التراجع عن خوضها، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الأساسية التي تحدد سياسات الحزب، وتمس مصالح المواطن”.
استراتيجية ما بعد الهزيمة
يتوقع الديمقراطيون أن القاعدة الشعبية المعارضة لترمب ستعود إلى النشاط من جديد مع الوقت، خاصة عندما تتضح خططه وإدارته وسياساته بشكل أكبر. هذه المقاومة المحتملة قد تُعيد الحماس إلى حزب يعاني حالياً من الإحباط أو فقدان الزخم السياسي.
يراهن أور على سياسات ترمب نفسها في دفع عجلة تلك المقاومة مما يعطي الديمقراطيين مساحة لاستعادة الأرض التي خسروها، لكنه يرجح افتراضات مبكرة تتعلق بتننفيذ ترمب لوعوده الانتخابية.
واعتبر أور، أن محاسبة ترمب على الوعود التي قطعها في برنامجه الانتخابي “سيكون أمرا سهلاً نوعاً ما”، “لم ينفذ ترمب أي شيء مما وعد به في برنامجه الانتخابي فيما يتعلق بخفض أسعار البنزين أو أسعار البيض. هذه القضايا لم يتم تناولها أو حلها بأي شكل من الأشكال في سياساته. الشيء الوحيد الذي تحرك فيه بشكل ملحوظ هو ملف الهجرة، ومع ذلك، لم نشهد حتى الآن تنفيذاً واسعاً لعمليات مداهمة كبيرة كما كان متوقعاً”.
وأضاف أور، أن بعض التحركات التي اتخذتها إدارة ترمب، مثل الهجوم على برامج التنوع DEI، والتصريحات المتعلقة بالأقليات، يمكن أن تُستخدم لحشد دعم الناخبين من الأقليات أو الفئات المتضررة من هذه السياسات.
من جانبه، لفت باتيلو إلى أن الديمقراطيين يخططون للاعتماد بشكل كبير على النظام القضائي لمقاومة هذه السياسات، ورغم أنه يرى في ذلك صعوبات، إذ أن “الأغلبية التي يملكها ترمب في المحكمة العليا وعدد القضاة الذين عينهم في المحاكم الأدنى”.
لكنه في الوقت نفسه، أعرب عن تفاؤله بأن سياسات ترمب، خاصة تلك المتعلقة بالتنوع والترحيل الجماعي، ستؤدي إلى كوارث للطبقة الوسطى، وستثير ردود فعل قوية من الشعب الأميركي، قائلاً “وبمجرد أن نرى آلاف الأشخاص يفقدون وظائفهم بسبب أوامره التنفيذية المتعلقة بالتنوع، وبمجرد أن نرى حافلات مليئة بالمُرحَّلين تُخرج من البلاد، والعائلات تُفصل عن بعضها البعض، والأطفال يُنتزعون من أذرع أمهاتهم، أعتقد أن الشعب الأميركي سيستجيب”.
يخالف ويلسون ذلك الرأي، قائلاً إن الوقت مبكر جداً على “إطلاق المدافع”، موضحاً أن ترمب لم يمض عليه في السلطة سوى أسبوع واحد “ومن الواضح أنه أكثر استعداداً مما كان عليه في المرة الأخيرة، ونحن بحاجة إلى أن نكون مستعدين بنفس القدر مع تقدمنا للأمام”.
وقلل ويلسون من تأثير التحركات المبكرة لترمب، معتبراً أنها “مجرد إجراءات مؤقتة قد تواجه عقبات قانونية وسياسية محتملة”.
فرصة “التجديد النصفي”
يرى الديمقراطيون أن لديهم فرصة قوية للاستعداد للانتخابات النصفية في 2026، وإعادة جذب الناخبين الذين عزفوا عنهم. ويُعتبر إعادة ضبط رسائل الحزب هي المفتاح لذلك، على حد قول نائب الرئيس التنفيذي للشؤون العامة في منظمة “الطريق الثالث” اليسارية الوسطية، مات بينيت.
وفي حديثه مع “الشرق” يرى بينيت، أن إعادة تشكيل الحزب الديمقراطي بعد الهزيمة، يحتاج بعض الوقت لمراجعة سبب الإخفاقات وإعادة التواصل مع الناخبين، “لدينا عامان خارج السلطة تماما يجب استغلالهما لكشف العيوب وإصلاحها”.
وأشار بينيت، إلى أن سبب خسارة الحزب في الانتخابات الأخيرة يرجع إلى فقدان التواصل مع احتياجات العمال والناخبين غير الجامعيين، الذين يُشكلون 70% من قاعدة الناخبين، وتفضيل التركيز على قضايا مثل الأطفال المتحولين جنسياً، والديمقراطية، وحقوق الإجهاض، على حساب أولويات الطبقة العاملة.
وقال بينيت، الذي شغل منصب نائب مساعد الرئيس للشؤون الحكومية في البيت الأبيض خلال عهد بيل كلينتون، إن الحزب بحاجة إلى إعادة ضبط الرسائل وإيجاد توازن دقيق في السياسات والخطابات السياسية، موضحاً “على الرغم من أهمية حماية الشباب المعرضين للخطر واتخاذ خطوات لدعمهم، فإن هذه الجهود “يجب ألا تؤدي إلى عزل أو تنفير فئات كبيرة من الناخبين الأميركيين”.
يتفق باتيلو مع بينيت في محاولة معرفة الأسباب التي دفعت 77 مليون ناخب لعدم دعمهم في هذه الانتخابات، ثم تعديل سياساتهم ورسائلهم واستراتيجياتهم لضمان استعادة السيطرة على مجلس النواب في 2026 واستعادة البيت الأبيض في 2028.
ورجّح باتيلو وضع خطة ضخمة لتحفيز الناخبين على المشاركة، قائلاً إنه في نهاية المطاف، حصل الرئيس ترمب على 6 ملايين صوت أقل في 2024 مقارنة بجو بايدن في 2020، “وإذا نظرنا إلى الأرقام بين الولايات، فإنه فاز فعلياً بفارق حوالي 60 ألف صوت فقط في ثلاث ولايات. لذلك، يحتاج الديمقراطيون إلى الوصول إلى هؤلاء الناخبين المترددين الذين أزعجتهم الرسائل، أو كانوا غير راضين عن بايدن أو كامالا هاريس أو بعض الخطابات التي لم تكن متصلة بحياتهم اليومية، وإقناعهم بالعودة لدعم الحزب”.
وأشار باتيلو إلى أن هذه الجهود قد بدأت بالفعل، ويدعمها ترمب نفسه بسياساته المنفرة، مضيفاً: “ترمب يضعف نفسه من خلال إصدار أوامر تنفيذية مثيرة للجدل وسياسات تتناقض مع وعوده الانتخابية. وبالتالي، يمكن للديمقراطيين استغلال هذا الوضع عن طريق تسليط الضوء على قراراته غير الشعبية والتركيز على القضايا التي تمس الاقتصاد وحقوق الأقليات بشكل مباشر، مما يجعل من السهل عليهم كسب الدعم الشعبي في الانتخابات المقبلة”.
من جانبه، لفت ويلسون إلى أن الحزب الديمقراطي في طور انتخاب قيادة جديدة. ويستعد الأعضاء الحاليون في اللجنة الوطنية الديمقراطية البالغ عددهم 448 عضواً لانتخاب رئيس جديد ومناصب قيادية أخرى، بعد هزيمة 2024، في اجتماع الحزب الشتوي في الأول من فبراير المقبل.
وأشار ويلسون، إلى أنه “بمجرد أن يكون لدينا هذه القيادة الجديدة في مكانها، سنكون قادرين على المساعدة في رسم الطريق للعامين المقبلين، وإعادة تشكيل رسائل الحزب لاستعادة السلطة وثقة الناخبين في انتخابات التجديد النصفي وانتخابات الرئاسة القادمة”.