أبقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب على تهديداته بفرض رسوم جمركية على السلع المستوردة الصين، إذ أعلن أن إدارته تناقش فرض ما نسبته 10% على هذه البضائع في الأول من فبراير المقبل، وعزا ذلك إلى أن “مادة الفنتانيل المخدرة تُرسل من هناك (الصين) إلى المكسيك وكندا”، واللتين يلقي عليهما اللوم أيضاً، في استمرار تدفق هذا المخدر إلى بلاده، عبر أراضيهما.
ويبدو أنه كان هناك وقع لتصريح ترمب، على الأسهم الصينية، إذ تراجع مؤشر (CSI 300) القياسي، في أول انخفاض له في خمسة أيام، بعد حديث الرئيس الأميركي، على الرغم من أن نسبة 10%، التي هدد بفرضها تُعد أقل بكثير من نسبة 60% التي تعهد، خلال حملته الانتخابية بفرضها على كافة السلع الصينية.
ويأتي ذلك على الرغم من ظهور ثلاثة مؤشرات رئيسية، في غضون أسبوعٍ واحد فقط، يمكن أن تشكل العلاقات الصينية- الأميركية على مدى السنوات الأربع المقبلة، من الولاية الثانية للرئيس دونالد ترمب.
وتشمل هذه المؤشرات دبلوماسية الرئيس الصيني شي جين بينج، والرئيس الأميركي عبر المكالمات الهاتفية، وقرار شي بإرسال ممثل خاص لحضور حفل تنصيب ترمب، وهو قرار غير مسبوق في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين، في وقت شدد مصدر دبلوماسي صيني لـ”الشرق” على أهمية “زيارة نائب الرئيس هان تشنج إلى الولايات المتحدة لحضور الحفل”، كونها تحدث للمرة الأولى التي يشارك فيها مسؤول صيني رفيع مثل هذه المناسبة.
المؤشر الثالث يتمثل في التقارير التي تشير إلى أن ترمب أخبر مستشاريه أنه يرغب بزيارة الصين بعد توليه منصبه.
مع ذلك، ثمة توقعات من خبراء في الصين بأن تكون سياسة ترمب تجاه الصين “أكثر تشدداً”، بعد استلال ترمب، مجدداً، سيف رفع التعريفات الجمركية في وجه الصين، في وقتٍ تعتبر قضية تايوان من الملفات الأكثر سخونة بين البلدين، إضافة إلى الغضب الأميركي من استمرار تدفق مخدر الفنتانيل إلى الأراضي الأميركي، من دول أميركا اللاتينية (وبنسبة ضئيلة من كندا)، وهو ما تحمّل واشنطن، بكين، مسؤولية استمراره.
تفاعلات “حاسمة” بين ترمب وشين
قال دا وي، مدير مركز الأمن والاستراتيجية الدولية في جامعة تسينجهوا، وخبير الدراسات الصينية الأميركية لـ”الشرق” إن “الطريقة التي تُحدد بها إدارة ترمب سياستها تجاه الصين في ولايتها الثانية تعتمد بشكل كبير على تقييمات ترمب نفسه وفريقه”، معتبراً أن “التفاعلات المُبكرة بين زعماء البلدين في الأشهر الثلاثة إلى الستة المقبلة ستكون حاسمة”.
وأوضح دا وي: “من وجهة نظر بكين، فإن سياسة الصين تجاه الولايات المتحدة في عام 2025 حاسمة أيضاً للمسار المستقبلي للعلاقات الثنائية”.
إحدى الرسائل الواضحة، على حرص البلدين على انتظام التواصل بينهما، هو ما ورد في بيان أصدرته وزارة الخارجية الصينية، في أعقاب مكالمة هاتفية بين شي وترمب، في السابع عشر من يناير، قبل 3 أيام من حفل تنصيب الرئيس الأميركي، تشير فيه الوزارة إلى أن الزعيمين اتفقا “على إنشاء قناة استراتيجية للحفاظ على اتصالٍ منتظم بشأن القضايا الرئيسية ذات الاهتمام المشترك”.
20 آلية اتصال
على مدى السنوات الأربع الماضية، تم إعادة تشغيل أو إنشاء أكثر من 20 آلية اتصال بين الصين والولايات المتحدة، ما أسفر عن نتائج إيجابية في مجالات مثل الدبلوماسية، والأمن، والاقتصاد والتجارة والشؤون المالية والعسكرية، ومكافحة المخدرات وإنفاذ القانون، والزراعة وتغير المناخ، والتبادلات بين الشعوب.
تلك التبادلات تفسَّر في الدبلوماسية الصينية على أساس “تعزيز الروابط والتفاهم والثقة المتبادلة بين مواطني الصين والدول الأخرى. وهي عنصر مهم في دبلوماسية بكين، وتهدف إلى تعزيز الروابط الثقافية والتعليمية والاجتماعية بما يتجاوز العلاقات الرسمية بين الحكومات”.
على صعيد العلاقات الأميركية- الصينية، يُعتبر الحوار والتعاون في مجالات إنفاذ القانون، وبخاصة فيما يتعلق بالفنتانيل، يستحقان الاهتمام بشكل خاص، إذ وضع ترمب تأكيداً كبيراً على هذه القضية خلال ولايته الأولى.
قضية الفنتانيل
وتتهم الولايات المتحدة الصين بعدم بذل ما يكفي من الجهد لمكافحة إنتاج الفنتانيل، وهو مخدر يُصنّف بأنه أقوى بكثير من الهيروين، وعلى الرغم من أن بكين حظرت صادرات الفنتانيل إلى الولايات المتحدة في 2019، في خطوة رحّبت بها إدارة الرئيس دونالد ترمب، حينها، لكنّ خبراء يؤكّدون أنّ الصين تواصل تصدير مواد كيميائية لازمة لتصنيع الفنتانيل إلى كلّ من المكسيك ودول في أميركا الوسطى.
وكان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية أكد في 19 يناير أن بلاده ستواصل التعاون بشأن مكافحة المخدرات مع الولايات المتحدة على أساس المساواة، والمنفعة والاحترام المتبادلين.
وجاء هذا التأكيد في معرض تعليقه على راهول جوبتا، مدير مكتب السياسة الوطنية لمكافحة المخدرات في الولايات المتحدة، في 18 يناير، الذي قال إن البلدين حققا تقدماً ملحوظاً بشأن قضية الفنتانيل، وأن الصين حجبت العديد من المواقع والمنصات الإلكترونية التي تبيع سلائف الفنتانيل، ونفَّذت اعتقالات، ووضعت أكثر من 50 مادة تحت الرقابة، ما أسهم في انخفاض حالات الوفيات بالجرعات الزائدة من هذه المادة المُخدّرة.
وأضاف جوبتا أنه من الضروري أن تستمر الولايات المتحدة في الحفاظ على هذا التقدم في المستقبل، بالتزامن مع التعامل مع الجوانب الأخرى في العلاقة مع الصين.
في الصين، هناك اعتقاد بدأ يصبح سائداً بوجوب التركيز على القيام بما تعتقد الصين أنه صواب، بدلاً من مجرد الرد على تصرفات الولايات المتحدة. في ظل وجهة نظر صينية مبنية على الاعتقاد أنها، لم تكتف بإظهار المرونة فحسب، في مواجهة القيود الأميركية، بل عززت أيضاً قدرتها على الابتكار والتكيف والاعتماد على الذات رداً على “العقوبات المكثفة” من الولايات المتحدة، وأنه مع تزايد هذه القيود ضد الصين، نما تصميم بكين على الابتكار الذاتي والمزيد من الانفتاح.
ترمب “أكثر نضجاً”
قال صن تشنجهاو، زميل مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بجامعة تسينجهوا، وباحث زائر في مركز بول تساي الصيني بكلية الحقوق بجامعة ييل: “بالمقارنة بفترة ولايته الأولى، من المتوقع أن يكون ترمب في ولايته الثانية أكثر نضجاً”.
ويُرّجح تشنجهاو، في تصريح لـ”الشرق”، أن يُركز ترمب “بشكل أكبر على إظهار القيادة وكسب احترام الدول الأخرى”، وأشار إلى أن سياسة ترمب تجاه الصين من المتوقع أن تكون أكثر تشدداً، إذ تواجه المرحلة التالية من العلاقات الصينية الأميركية مخاطر وتحديات، فضلاً عن فرص تخفيف التوترات، ولكن التعاون لا يمكن أن يكون من جانب واحد”.
ويرى صن تشنجهاو أن الانقسام بين أعضاء فريق ترمب الاقتصادي تجاه الصين موجود بالفعل؛ فقد يدافع البعض عن معاقبة الصين من خلال الحروب التجارية والتعريفات الجمركية، في حين قد يفضل آخرون التفاوض وإبرام الصفقات.
أضاف دا وي: “يقول كثيرون الآن إن ترمب يفضل الصفقات ويرغب في عقد الصفقات، ولكن أولاً، نحتاج إلى معرفة ما يريد بالضبط أن يتاجر به مع الصين. وثانياً، حتى لو كان ينوي عقد الصفقات، فمن المؤكد أنه سيستخدم تكتيكات الضغط على الصين قبل القيام بذلك”.
تايوان بين ترمب والصين
خلال المكالمة الهاتفية بين شي وترمب في 17 يناير، أكد الرئيس شي أن مسألة تايوان تتعلق بسيادة الصين وسلامة أراضيها، وأن الجانب الأميركي بحاجة إلى التعامل معها بحكمة.
وعقب صن تشنجهاو، قائلاً إن التواصل المفتوح وإدارة المخاطر بين بكين وواشنطن العاصمة أمران مهمان.
ورأى، في تصريحات لـ”الشرق” أن ترمب نفسه “ليس مهتماً كثيراً بشؤون تايوان، ولكن إذا استمر بعض المتشددين في الولايات المتحدة في التلاعب بقضية تايوان، واستخدامها كبيادق ضد البر الرئيسي، فإن التوترات في مضيق تايوان سوف تشتد، مما قد يؤدي إلى خطر الاحتكاك العسكري”، وفي الوقت نفسه، يحتاج كل من الطرفين إلى فهم موقف الآخر لتجنب سوء التقدير.
وأكد دا وي على هذه الرؤية، مشيراً إلى أن “قضية تايوان تشكل بلا شك نقطة ساخنة في العلاقات الصينية الأميركية”، مشيراً إلى أن “البر الرئيسي الصيني يجب أن يزيد من الحوار والتبادلات مع الولايات المتحدة قدر الإمكان لنقل المخاوف والاستياء إزاء الإشارات الخطيرة التي أرسلها بعض السياسيين الأميركيين إلى الانفصاليين في الجزيرة”.
وأضاف دا وي: “عندما يكون ذلك ضروريا، تحتاج بكين إلى إرسال إشارات واضحة وقوية من خلال الإجراءات”، وأوضح أن هذه ليست المرة الأولى التي تتعامل فيها الصين مع إدارة ترمب، وقد كان هناك متسع من الوقت أمام بكين للتفكير في كيفية الرد.
وخلص إلى أن “الصين لديها المزيد من الخبرة، وهي أكثر ثقة الآن، مقارنة بما كانت عليه قبل ثماني سنوات عندما انتُخب ترمب (للمرة الأولى)”.