يواصل آلاف السوريين الاحتشاد أمام السجون السورية وداخلها، للبحث عن أي أثر لأحبائهم الذين اختفوا داخل هذه “المتاهات”، فيما استمرت فظائع نظام بشار الأسد في الظهور مع عثور المواطنين على ما وصفوها بأنها “مكابس السجناء” المستخدمة في التعذيب أو سحق جثامين الضحايا.
وسلطت شبكة NBC News الأميركية الضوء على أدلة تكشف “الظروف الهمجية” داخل سجن صيدنايا العسكري، الأكثر شهرة، والقابع في التلال الصخرية القاحلة خارج العاصمة دمشق، قائلة إنه مكون من زنازين خرسانية صغيرة يطلق عليها اسم “المسلخ البشري”.
وخلال حكم عائلة الأسد الذي دام 50 عاماً، كانت شبكة من المرافق مثل صيدنايا تخضع للحراسة من قبل جنود مسلحين، لضمان عدم تمكن من يدخلون من الخروج. واستخدم النظام السجون لاحتجاز وتعذيب وقتل عشرات الآلاف من السوريين، بعضهم لانتقاده الحكومة، أو غيرها من الادعاءات الملفقة، وفقاً لجماعات حقوق الإنسان والمسؤولين الغربيين.
وخارج المبنى، وهو عبارة عن مكعب ضخم مطلي باللون الأبيض المصفر، تجمعت حشود معظمها من الرجال، بعضهم كان يصرخ ليسأل عما إذا كان أي شخص قد رأى أبناءه أو إخوته أو أعمامه الذين يعتقد أنهم كانوا محتجزين لدى النظام. أحد هؤلاء الرجال، الذي نصب نفسه منظماً، نادى بأسماء من وثيقة تم العثور عليها على ما يبدو من إحدى الغرف الإدارية.
وتناثرت مثل هذه الوثائق على الأرض، مما أثار قلق علماء القانون الدوليين الذين أكدوا على أهمية الاحتفاظ بهذه السجلات لاستخدامها كدليل على هذه الجرائم.
وأبرزت الشبكة اصطفاف آلاف السيارات أمام مدخل السجن مع توافد العائلات من جميع أنحاء سوريا لمعرفة ما إذا كان أحبتهم لا يزالون داخل السجن، مدفوعين بشائعات عن جناح سري حيث كان يُحتجز المعتقلون في ظروف بشعة.
وجاء المواطنون مسلحين بالقضبان والفؤوس وأيديهم العارية، قبل أن تظهر جرافة في مرحلة لاحقة للمساعدة في اختراق السجن على أمل اكتشاف “المخبأ السري”.
ولم تكن هذه الأماكن سرية، بل معروفة جيداً بين السوريين، ووثقتها جماعات حقوق الإنسان ونشرتها وسائل الإعلام على نطاق واسع. ومع ذلك، شكلت هذه الزيارات لوحة من المشاعر الشديدة، حيث بكى الناس وصرخوا وهم يرون ما يوجد خلف ستار دولتهم البوليسية التي أطيح بها للمرة الأولى.
وفي الداخل، كانت الزنزانات الخرسانية ذات القضبان البيضاء المفتوحة كبيرة بما يكفي لاستيعاب 4 أشخاص على الأكثر، ولكن من المخلفات بدا أنها كانت مكتظة بالعشرات. وفيما أضاءت مصابيح هواتف الزوار أكوام الملابس والأغطية، كان آخرون يمشطون المتاهة بحثاً عن أدلة.
وقالت إحدى النساء إن ابنها مفقود منذ عقد من الزمان بعد اتهامه بأنه متشدد، مشيرة إلى أنه كان يعمل كممرض.
“مكبس الإعدام”
وفي إحدى الغرف، كان يوجد جهاز حديدي كبير يتكون من سطحين مستويين، كبيرين بما يكفي لاستيعاب سجين، مع آلية لإطباقهما بإحكام. يطلق عليها الناس هنا اسم “مكبس الإعدام” – المستخدم لسحق السجناء حتى الموت أو تعذيبهم.
وتضم غرفة أخرى عموداً معدنياً كبيراً يمتد من جدار إلى آخر. ويبدو أن السجناء كانوا يُكبلون فيه وأقدامهم مرتفعة عن الأرض فيما يقوم الحراس بتعريضهم لشتى أنواع الضرب.
وعندما استولت فصائل المعارضة السورية المسلحة على دمشق، الأحد، قالت إنها أطلقت سراح العشرات من السجناء من صيدنايا، مع ظهور شريط فيديو يظهر النساء مترددات في مغادرة زنازينهن، لدرجة أنهن لم يصدقن أن الطاغية الذي احتجزهن قد أطيح به.
وجذبت الشائعات التي تفيد بأن السجن يحتوي على “جناح أحمر” سري تحت الأرض، المزيد من الحشود والعائلات، بالإضافة إلى منظمة البحث والإنقاذ التابعة لـ”الخوذ البيضاء”، والتي أرسلت أطقمها للبحث عن هذا المجمع المخفي.
وعند حوالي الساعة 1:30 صباحاً بالتوقيت المحلي، قالت “الخوذ البيضاء” إنه لا يوجد دليل على وجود أي غرفة أو غرف مخفية، وأعربت عن “خيبة الأمل العميقة لعائلات الآلاف الذين ما زالوا في عداد المفقودين والذين لا يزال مصيرهم مجهولاً”.
ومع ذلك، كان الناس لا يزالون يستخدمون الأدوات اليدوية لهدم أجزاء من الأرضيات والجدران، ومن المفترض أنهم ما زالوا يبحثون عن فتحات أو أبواب، عندما زارت قناة NBC News السجن، الثلاثاء.
صيدنايا ليس الوحيد
وقد يكون سجن صيدنايا هو الأكثر شهرة، لكنه ليس المكان الوحيد الذي ارتكب فيه نظام الأسد أحلك الفظائع، إذ قامت الأسرة الحاكمة ببناء وإدارة شبكة من مراكز الاحتجاز المنتشرة في جميع أنحاء سوريا، وفقاً لمنظمة العفو الدولية المعنية بحقوق الإنسان.
وأحصت مجموعة تحليل بيانات حقوق الإنسان، وهي منظمة علمية مستقلة لحقوق الإنسان مقرها في سان فرانسيسكو، ما لا يقل عن 17 ألفاً و723 حالة وفاة في السجون السورية خلال الفترة من 2011 إلى 2015 بمعدل حوالي 300 كل أسبوع، ومن المؤكد تقريباً أن هذا الرقم أقل بكثير من الواقع.
كما قالت منظمة العفو الدولية في تقرير تاريخي صدر عام 2017، استند إلى روايات الناجين ومصادر أخرى، إن السجناء في صيدنايا “يتعرضون للتعذيب بانتظام، عادة من خلال الضرب المبرح والعنف الجنسي”، وأضافت: “إنهم محرومون من الغذاء الكافي والماء والدواء والرعاية الطبية والصرف الصحي، مما أدى إلى تفشي العدوى والأمراض”.
وأضافت أنه حتى خلال جلسات التعذيب يتم فرض “الصمت التام”، مما يساهم في إصابة العديد من المعتقلين “بأمراض عقلية خطيرة مثل الذهان”. ويبدو أن كل هذا “مصمم لإلحاق أقصى قدر من المعاناة الجسدية والنفسية. هدفهم الواضح هو إذلال وإهانة وتجريد الإنسان من إنسانيته وتدمير أي شعور بالكرامة أو الأمل”.
وذكرت منظمة العفو الدولية أن حافظ الأسد بدأ سياسة العنف المنهجي والسري التي تمارسها الدولة في الثمانينات، مما أدى إلى اختفاء ما يقدر بنحو 17 ألف سوري بين ذلك الحين وعام 2000.
وأضافت أن “انتهاكات الحكومة ضد المعتقلين تزايدت بشكل كبير من حيث الحجم والشدة” منذ عام 2011.
وكان ذلك هو العام الذي بدأ فيه السوريون الاحتجاج السلمي ضد النظام، حيث قام الأسد بسحق المتظاهرين بعنف، مما أدى إلى الانتفاضة المسلحة التي تحولت إلى حرب أهلية.
وشهد الصراع أكثر من 350 ألف حالة وفاة وثقتها الأمم المتحدة، التي تقول إن هذا “بالتأكيد أقل من العدد”. أما الآن، يأمل السوريون أن تتمكن بلادهم من الانتقال إلى حياة تغيب عنها مثل هذه الانتهاكات التي حدثت في صيدنايا.