يهتم الكاتب والروائي مصطفى عبيد بدراسة التاريخ. لا يكتفي بالبحث عن الأحداث الكبيرة أو الشخصيات الشهيرة، بل يتعقّب في أعماله المتنوّعة مثل الدواوين الشعرية والروايات والسير، التفاصيل الصغيرة والشخصيات المهمّشة، ليكشف خيوطاً جديدة، تجعل القارئ يعيد التفكير، ويرى التاريخ بشكل مختلف.
وفي أحدث أعماله “ابنة الديكتاتور”، يحكي عبيد القصّة الحقيقية لواحدة من الشخصيات الشهيرة، في النصف الأول من القرن العشرين، السيدة التي أطلق عليها اسم (سناء بكاش)، ولعبت دوراً مهماً في الحياة الثقافية بمصر، فضلاً عن علاقتها السرّية بالأجهزة الأمنية، التي انتهت بعد هزيمة 1967.
وعلى الرغم من أن الرواية تستند إلى شخصية ووقائع حقيقية، لكن الكاتب أراد أن يُخرجها للنور على شكل رواية، تجنّباً للمساءلة القانونية، وهو ما تحدث عنه وعن أهمية الرواية التاريخية في هذا الحوار.
لديك مشروع لإعادة قراءة التاريخ، فلماذا لجأت إلى كتابة قصّة “سناء بكاش” في قالب روائي؟
إلى جانب الدراسات الخاصة بمراكز الأبحاث، والكتب التاريخية والسير، أكتب عن التاريخ في قالب روائي أيضاً. أعتقد أن الرواية هي القالب الأفضل والأسرع للوصول إلى القرّاء؛ وأتصوّر أن قصّة هذه السيدة، التي أطلقت عليها اسم سناء بكاش، تستحق أن يعرفها الجيل القديم والجديد، لأنها كانت شخصية مهمّة ومعروفة، في زمن لدّي انتقاداتي عليه.
كما أن الرواية وسيلة لإيصال القصّة الحقيقية من دون مساءلة قانونية، وخصوصاً لو كان الموضوع يحمل جوانب سلبية ومستنكرة ومخجلة في العرف العام، أكثر مما يحمل من إيجابيات.
كيف وصلت إلى قصّة سناء بكاش؟
أنا مهتم بدراسة التاريخ الحديث لمصر، ومولع بالبحث عن الجوانب الهامشية والشخصيات المهمّشة، وأثناء دراستي لتاريخ الكتابة النسوية في مصر، في بدايات القرن العشرين، لفت نظري وجود اسمين لسيدتين كانتا معروفتين في فترة الأربعينيات وحتى الستينيات، بإنتاجهما الأدبي الغزير، وتأثيرهما في الحياة الثقافية.
الأولى هي عائشة عبد الرحمن، المعروفة باسم “بنت الشاطئ”، وكانت تكتب كتباً إسلامية، وبقيت شهرتها حتى اليوم. أما السيدة الثانية، فهي الشخصية الأساسية التي قصدت الكتابة عنها، وبلغت شهرتها إلى حد أن الرئيس عبد الناصر نفسه كتب- وللمرة الأولى والوحيدة- مقدّمة أحد كتبها، وهذا الكتاب موجود ومتاح في دار الوثائق المصرية.
لكن المدهش كان اختفاء اسم هذه السيدة تماماً بعد هزيمة 1967، فبدأت رحلة البحث من دار الكتب والوثائق، وبدأت تظهر الحقائق تدريجياً، فهي لديها إنتاج أدبي غزير، وتصنّف ككاتبة إسلامية، وهي صاحبة دار نشر ومؤسسة صحفية كبرى، وتصدر مجلة أسبوعية كتبت فيها أسماء معروفة، مثل الشاعر إبراهيم ناجي، ويرجع لها الفضل في نشر أولى قصائد الشاعر عبد الرحمن الأبنودي.
كما كانت تربطها علاقة قوية جداً بالعقّاد، وكانت شاهدة رئيسة في قضية انحراف المؤسسة الأمنية في مصر بعد 1967. ومن خلال البحث، عرفت السبب وراء اختفائها، وبأنها شخصية مُصطنعة من قِبل المؤسسة الأمنية.
هل يتم إغفال الأدوار الخفية عن عمد، أم بسبب نقص المعلومات والمراجع؟
التاريخ في بلاد الشرق فوقي، نحن نتحدث وندرس تاريخ الملوك والحكّام، لكن الحقيقة أن التاريخ هو البشر العاديين، ورغم ذلك نجد الكتب التي تركز عليهم قليلة.
التاريخ صُنبور مياه مغلق، لو فُتح سنجد أمامنا معارف كثيرة وأفكار ربما تبدو صادمة، لكنها ستجعلنا نعيد البحث والتفكير بعقلية غير المنتمي، سواء أيدلوجياً أو عقائدياً.
أعتقد أنه لا يوجد نقص في المعلومات، فالعالم منفتح، وحجم الوثائق والمعلومات المتاحة كبير، لكن لا نجد من يفتّش ويبحث عنه ويقرأه بشكل مختلف، وأصبح من السهل من خلال المكتبات الكبرى في العالم، الوصول إلى وثائق مهمّة والاطلاع عليها.
هل الروايات التاريخية برأيك كما الكتب تحتاج للبحث والمراجع أم أن الأساس التاريخي يكفي؟
دافع الكتابة هو المتحكّم فيما سيقدمه الكاتب؛ فقد يلتقط حادثة ليبني عليها عالماً آخر من اختراعه بالكامل، لكني اخترت الرواية كقالب في “ابنة الديكتاتور”، لإيصال ما قمت به من بحث، وما حصلت عليه من معلومات موثّقة؛ لهذا ففي حالة “ابنة الديكتاتور”، القصة القديمة معظمها حقيقي، بنفس العلاقات المتشابكة والصادمة بين الشخصيات.
بالعودة إلى الرواية هل يمكن القول إن الكثير من الجرائم السياسية والفساد ارتكبت تحت مسمى “مصلحة الوطن”؟
في الرواية وبمنطق الأجهزة الأمنية، هم تعاملوا مع سناء بكاش بمنطق الفدائي الذي يفدي الوطن، واعتبروا أن ما تفعله هو الغاية الكبرى، وفي سبيلها كل الموبقات مباحة وضرورية. هناك نقطة أخرى وهي حالة سناء الاجتماعية؛ فاختيار الأجهزة الأمنية لشخصية فقيرة مادياً، يُسهّل عليهم استغلالها والتلاعب بأفكارها.
لماذا ذكرت في الرواية أسماء شخصيات حقيقية مثل الرئيس عبد الناصر أو حسن رفعت، بينما لم تذكر أسماء أخرى صراحة؟
“ابنة الديكتاتور” مزجت بين أحداث حقيقية وأخرى متخيّلة، وما هو مُثبت تاريخياً أكتبه. فمثلاً علاقة سناء بالكاتب الصحفي الشهير مصطفى أمين، مُثبتة في أماكن عدّة، منها كتاب “عمالقة وأقزام” لمصطفى أمين نفسه، وكذلك علاقتها بحسن رفعت مُثبتة في نصّ التحقيقات الخاصة بعلاقتها بالأمن، لكن لا يوجد ما يُثبت علاقتها بصلاح نصر، وهو صاحب منصب كبير وحساس، لذلك وضعتها ضمن قالب وأسماء مُتخيّلة، وكذلك علاقتها بالمشير عبد الحكيم عامر.
رصدت في هذه الرواية العلاقة بين الصحفيين والسياسيين والأمن، هل تجد أنها لا تزال على الصورة نفسها حتى اليوم؟
هي علاقة مُعقدة، وتصوّري هذا من واقع القراءات والبحث، وبالتأكيد العلاقة بين السياسة والصحافة فيما مضى كانت أقوى مما هي عليه الآن، وكان التداخل بينهما قوياً، وهو ما يظهر في كتب مثل مُذكرات الكاتب موسى صبري “50 عاماً في قطار الصحافة”.
في ظل عدم وجود وسائل أخرى إعلامية، كان يمكن لمقال واحد في مجلة، أن يُشعل مظاهرة، أو يُسقط حكومة، لكن الآن لم تعد الصحافة بهذا التأثير مع تغيّر دور الرقابة، وسيطرة الدولة على وسائل الإعلام.
سناء عملت مع الأجهزة الأمنية قبل ثورة 1952 وبعدها ما الذي تغيّر؟
شكل النظام السياسي تغيّر من الملكية إلى جمهورية، لكن الأسلوب والأدوات والأشخاص لم تتغيّر، لأن الطريقة التي تستخدمها سناء- من وجهة نظرهم- هي الأسلوب الأفضل للحصول على المعلومات.
النظام الجديد بالضرورة لديه خصوم، كما النظام القديم، وأحد أساليب مجابهته هي الفضائح والأسرار، والعنصر النسائي مهم في هذا المجال، وهذه الشبكات الجاهزة، تمّت إعادة استخدامها، وخصوصاً أن هؤلاء السيدات لا يمتلكن ولاء أيدلوجياً، لكنهن اعتدن على هذا الدور وتحصيل المكاسب المادية منه.
من هو الديكتاتور الحقيقي في هذه الرواية؟
“ابنة الديكتاتور” هي القصّة العارضة والتفسير السهل، لكن سناء ابنة أي نظام سياسي قمعي متسلط ومهيمن ورافض للديمقراطية، ويرغب في السيطرة على البشر.
هل يمكن القول إن الزمن الحالي هو زمن الرواية التاريخية؟
نعم، هو كذلك بالنسبة للعالم العربي خصوصاً الذي يحبّذ القصّة؛ فالكتب المباشرة في التاريخ، لا تجد الإقبال مثلما تجد الرواية المستندة على أحداث تاريخية والمكتوبة بشكل بديع.
وإذا قلنا أن معظم من فكّر في القراءة عن بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر، لم يتوجه إلى كتب التاريخ، لكنه قرأ رواية مثل “أوراق شمعون المصري”. فالرواية قالب جذّاب للوصول لشرائح أكبر من الناس، وتحفزهم على معرفة القصة الحقيقية.
بالطبع توجد إشكالية في الرواية التاريخية، وهي كتابة أحداث غير صحيحة، أو أن الناس تعتبر الرواية هي الحقيقة.