من الصعب أن نتخيّل مدينة بغداد، من دون الإشارة إلى تاريخ عريق من الفنون و الآداب، فالمدينة التي تنهض من ركام الخراب والحصار، لا يسعها سوى أن تقرأ، ولعلّ تلك الفكرة، هي التي تنطلق منها فعالية واسعة مثل فعالية “أنا عراقي أنا أقرأ”، التي بدأها شباب عراقيون، منحهم اليأس فرصة للتفكير بإنجاز شيءٍ ما إزاء الوضع المرير.
البداية من المقهى
كانت البداية عام 2012، عندما بدأ شباب عراقيون بالتفكير بإطلاق مبادرة ثقافية مستقلة، لإشاعة فعل القراءة، كونه الفعل الثقافي الأساس لأي نهضة في البلاد.
في أحد مقاهي بغداد، أفرزت اللقاءات بين عدد من المثقّفين الشباب هذه الفكرة، وآليات تنفيذها على الأرض، وبدأوا بالفعل بجمع الكتب من المكتبات ودور النشر في شارع المتنبي، فضلاً عن التبرّعات الشخصية من الكُتّاب والمثقفين.
في نهاية الحملة، تجمّع لديهم أكثر من 3 آلاف كتاب، وتمّ اختيار 29 من سبتمبر 2012، لتنطلق الفعالية عصراً. وهكذا ولد المهرجان القرائي، واستقطب العراقيين من مثقّفين وغيرهم منذ أول انطلاقة له.
ولأن العلاقة مع الكتاب ليست علاقة سنوية، إنما هي تواصل يومي، فإن المهرجان ربط القراءة بالهوية، لتصبح القراءة ممارسة أكثر جدّية، واستثمار طويل الأمد لدى الجيل العراقي الجديد.
الشاعر الراحل فوزي كريم
في شهر نوفمبر، انطلقت فعاليات مهرجان “أنا عراقي أنا أقرأ”، في حدائق أبو نؤاس وسط العاصمة بغداد، بحضور عراقي كبير، جرى خلاله توزيع أكثر من 45 ألف كتاب.
الفعالية لم تقتصر على الكتب، وإنما كانت هناك معارض فنية وحفلات توقيع لعدد من الكُتّاب، كما تمّ الاحتفاء بالشاعر العراقي فوزي كريم (توفي في لندن عام 2019)، أحد أبرز الطاقات العراقية الثقافية والشعرية في القرن العشرين.
وقال مدير المهرجان عامر مؤيد: “إن الجديد في الفعالية، إضافة إلى الاحتفاء بالشاعر الراحل فوزي كريم، هو توزيع عدد أكبر من الكتب في أكثر من زاوية، فمثلاً كنا نوزّع في زاوية الطفل 400 قصّة تقريباً، أما اليوم فتمّ توزيع ألف قصّة”.
وأشار إلى أن جمهور المهرجان “ثابت ونطمح كي يمتدّ نحو المحافظات العراقية كافة، لكن الأمر المادي هو العائق”.
تواجه أي فعالية ثقافية في العراق عوائق عدّة، تتمثّل بالظروف التي يعيشها البلد والفوضى الثقافية التي تسوده، ولا بد لفعالية لافتة بحجم “أنا عراقي أنا أقرأ”، أن تعترضها مصاعب في كل موسم.
وأوضح الشاعر والصحفي بسام عبد الرزاق، أحد مؤسسي المهرجان، “أن هناك عقبات مركّبة، من بينها قلّة اهتمام المؤسسات الرسمية بأنشطة من هذا النوع، على الرغم من تأثيرها وفعلها التنويري، إذ نرى نزوعاً نحو الاحتفاء بتجارب وأنشطة ذات أثر يومي ومرحلي، وهذا يؤشّر إلى قصور في فهم الحاجة لهذه النشاطات، وغياب التخطيط التي يجب التركيز عليها ودعمها”.
ولفت إلى أثر السياسة على الثقافة قائلاً: “التحوّلات التي حدثت بعد عام 2003، لم تنتج فهماً واضحاً لأهمية التنوير، وأصبح الفضاء العام مرحّباً بالفوضى، وهو أمر دفع حتى المؤسسات الرسمية للانقياد وراء تجارب من هذا النوع، وإهمال ما هو معني بالوعي وإدامة زخمه، لهذا تركز الدعم المادي والإعلامي على أنشطة نفعية، ذات حمولات سياسية أو انحازت جهوية، وإن فقدت قيمتها وصلتها بالجمهور”.
وبالرغم من كل ذلك، يصرّ منظمو الفعالية و المتابعون لها، على الاستمرار بإدامة هذه الممارسة الثقافية وترسيخها، وإيصالها إلى مدى أكبر، لصناعة غدٍ عراقي أكثر إشراقاً.
انطلاق الفعالية كل عام، يشير إلى حضور الثقافة في الحياة العراقية، على الرغم من المتغيرات العديدة، لكنها تحافظ على زخمها و تعمّق الصلة مع الكُتّاب وبين المثقفين العراقيين.
وهو الأمر الذي يشير له الناشط المدني يوسف الكبيسي، “فالمهرجان يمثّل مساحة للتلاقي بين المثقفين والكُتّاب والقرّاء، وفرصة لخلق حراك ثقافي ينعكس إيجاباً على المجتمع العراقي كله”.
ويركز الشاعر والصحفي أيوب سعد، أحد الشباب الداعمين للفعالية، على أن “هذا الحدث يجسّد رسالة تسعى لتعزيز قيمة القراءة في المجتمع العراقي، ونشر الثقافة بين مختلف الفئات العمرية والاجتماعية”.
ويشير إلى “أن المهرجان لا يقتصر على توزيع الكتب المجانية، بل يحمل بعداً إنسانياً عميقاً، يتمثّل في تقريب الناس من عالم المعرفة، وجعل الكتب متاحة للجميع، خاصة لأولئك الذين لا يستطيعون شراءها بسبب ظروفهم الاقتصادية”.
كما يدعو الجهات الحكومية “إلى تقديم الدعم لتطوير المهرجان وتوسيع نطاقه، ليشمل مدناً مختلفة من العراق”.