تتشابه قصص الهروب من جزيرة “توتي” لدى من عاشوها، بعد أن صار بقاءهم فيها يضاعف من فرص الموت، فقد أحصى متطوعون وفاة أكثر من 300 شخص خلال الشهر الماضي، بسبب الأمراض وانعدام الدواء.
ووصلت 180 أسرة سودانية إلى مدينة أم درمان قادمة من جزيرة “توتي” وسط الخرطوم، في رحلة استمرت أياماً عدة، على الرغم من أن مدتها كانت لا تتجاوز نصف الساعة.
الرحلة من قلب عاصمة السودان إلى غربها وعلى طولها لم تخل من نهب وسلب واعتقال، فالطريق محفوف بمخاطر كبيرة في “رحلة الهروب” من الموت الذي يتربص بسكان الجزيرة النيلية.
ريم عبدالعزيز، المتحدثة باسم غرفة طوارئ جزيرة “توتي” قالت لـ”الشرق”، إن “الحياة في الجزيرة صارت معدمة؛ بلا غذاء ولا دواء ولا حتى مكان آمن للعيش، من يعيش في الجزيرة حتى الان يمكث في المساجد والتي تحولت لمراكز إيواء وتجمع للأسر عقب الاقتحامات التي نفذتها قوات الدعم السريع لمنازلهم، حيث نشارك في اعداد وجبات بسيطة بما يتوفر، وتشدد ريم على أن الأوضاع سيئة والانتهاكات مستمرة حيث أخلت قوات الدعم السريع منازل وحولتها لثكنات عسكرية ومنصات للقصف المدفعي”.
وأضافت أن ما تبقى من مواد تموينية بسيطة تم تجميعها في مركز واحد للإيواء ولكنه لا يكفي إلا لأيام فقط، في ظل التعدي على المحال التجارية وبيوت المواطنين بشكل كثيف في الأيام الأخيرة.
رحلة هروب معقدة
تتشابه قصص الهروب من الجزيرة لدى الذين عاشوها، بعد أن صار بقاءهم فيها يضاعف من فرص الموت، فقد أحصى متطوعون وفاة أكثر من 300 شخص خلال الشهر الماضي، بسبب الأمراض وانعدام الدواء.
مهند هو أحد النازحين مع أسرته إلى الجزيرة، يروي قصته لـ”الشرق”، قائلاً: “بعدما دفعنا أكثر من 1500 دولار، ركبنا سيارة نقل بضائع خرجنا عن طريق جسر توتي الرابط بينها وبين وسط الخرطوم، واتجهنا جنوباً حتى السوق المركزي وبعدها عبر جسر سوبا إلى شرق النيل”، مشيراً إلى أنه وعائلته تعرضوا خلال تلك الرحلة إلى تفتيش دقيق من قبل قوات الدعم السريع.
وتوجه مهند وعائلته إلى أقصى شرق النيل، حيث استقل مع عائلته سيارات أجرة أخرى إلى ولاية نهر النيل مدينة شندي، وأضاف: “اللافت أن على السيارة التي تقلنا دفع مبالغ مالية في كل ارتكاز يتبع للدعم السريع، فيما يعرف بضريبة تأمين وللمرافقة إلى مسافة قصيرة قبل أن يتركونا في طريق بري غير معبد”.
آلاء من سكان “توتي” تضيف بأنهم احتجزوا لثلاثة أيام في خيام في حي جنوب الخرطوم، حتى يكملوا مبلغاً مالياً معيناً للمغادرة الى شرق النيل، إذ تكلف رحلة الخروج من الجزيرة ملايين الجنيهات تدفع لقوات الدعم السريع على مراحل.
بينما يحذر النذير وهو من سكان “توتي” من محاولة الهرب دون علم قوات الدعم السريع، خشية التعرض للاعتقال أو الموت على يد قناصة قوات الدعم السريع، الذين تغص بهم شوارع الجزيرة.
تتوسط جزيرة “توتي” العاصمة السودانية الخرطوم وتعد إحدى أهم الجزر فيها. وعلى ملتقى “النيلين” تطل الجزيرة، التي تحولت من وجهة سياحية إلى ساحة مفتوحة للمعارك بفعل الحرب.
ومنذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023، تعاني الجزيرة من ويلات الحرب، إذ وجدت نفسها تحت الحصار. وعقب تمدد سيطرة الجيش في 26 سبتمبر الماضي زادت وطأة الحصار الذي تفرضه قوات الدعم السريع على الجزيرة، بينما توغلت القوات التي تحاصرها ودخلت إلى معظم أحياءها وحولت بيوتاً فيها الى مراكز عسكرية بحسب السكان.
اتهامات بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية”
محمد صلاح عضو المكتب التنفيذي لمحامي الطوارئ، وهي مجموعة من القانونيين والحقوقيين، قال لـ”الشرق”، إنه منذ بداية الحرب سيطرت قوات الدعم السريع على جزيرة “توتي”، وسد منفذها الوحيد إلى وسط الخرطوم وهو جسر توتي.
وأضاف أن الجزيرة شهدت انتهاكات واسعة لقوات الدعم السريع بحق المواطنين، من ضمنها القتل خارج القانون واعتقالات تعسفية وغير مشروعة، كما تم توثيق جريمة اغتصاب على يد الدعم السريع، صاحب تلك الحادثة احتجاج السكان في الجزيرة، ما أعقبته الدعم السريع بحملة انتقامية.
وتابع أن الأوضاع المعيشية في توتي سيئة، حتى أن هناك من يجد وجبة واحدة فقط خلال اليوم. ومع دخول الجيش إلى وسط الخرطوم مؤخراً زاد التضييق على مواطني الجزيرة، بالإضافة إلى حملة انتقامية للدعم السريع نهبت خلالها المطابخ الجماعية الممولة من سكان توتي بالمهجر، كذلك تم نهب المنازل.
وأوضح محمد صلاح، في تصريحاته لـ”الشرق”، أن هناك إفادات من المواطنين الذين خرجوا من الجزيرة بأن قوات الدعم السريع طالبتهم بفدية مقابل خروجهم تتجاوز 5 ملايين جنيه سوداني، ما يعادل ألفي دولار.
وذكر عضو المكتب التنفيذي لمحامي الطوارئ، أن معتقلات الدعم السريع في الجزيرة تضم عشرات المدنيين من الجزيرة، كما نقل معتقلون إلى خارج الجزيرة، مؤكداً أن هذه الممارسات هي “جرائم ضد الإنسانية”، فضلاً عن جرائم القتل خارج القانون والتعذيب والتهجير القسري.
قوات الدعم السريع تنفي الاتهامات
في المقابل، قال عضو المكتب الاستشاري لقوات الدعم السريع، أيوب نهار، لـ”الشرق”، إن الاتهامات “التي يطلقها فلول النظام البائد ” مضللة، مضيفاً أن “الدعم السريع لا يحاصر جزيرة توتي، ولم نطالب بفدية لخروج المدنيين”، واصفاً الاتاهامات بأنها “افتراءات لا قيمة لها، بغرض تشويه صورة الدعم السريع”، وأضاف: “قواتنا موجودة منذ بداية الحرب في أطراف الجزيرة، ووجود قواتنا طبيعي لأنها في مناطق سيطرتنا”.
ووجه نهار رسالة إلى سكان “توتي”، قال فيها: “نحن (الدعم السريع) لسنا على عداء معكم ولا حصار مفروض عليكم”، موضحاً “إذا كنا نفرض حصاراً كيف عاش السكان فيها لمدة 18 شهراً، وكما تعلمون أن جزيرة توتي تقع في منطقة صراع ولدينا تقديرات أمنية واستخباراتية، لذلك هناك إجراءات تتعلق بخروج ودخول المواطنين، وذلك منعاً لدخول متسللين ينتمون للحركة الإسلامية من الجيش لنقل معلومات عسكرية، كل ما هو موجود إجراءات أمنية لا تمنع خروج المواطنين ودخولهم”.
من جانبه، يرى التيجاني عبدالله، المتحدث باسم حركة تحرير السودان جناح “تمبور”، التي تقاتل إلى جانب الجيش في عدة محاور، أن الأوضاع السيئة في الجزيرة تعود إلى ممارسات قوات الدعم السريع وعزلها للجزيرة عن بقية أجزاء الخرطوم.
وأوضح المتحدث باسم حركة تحرير السودان، أن الجيش السوداني يعتزم فك حصار قوات الدعم السريع للجزيرة.
ويساهم غياب شبكات الإنترنت والاتصال عن جزيرة توتي في صعوبة رصد أعداد الذين يتواجدون داخلها، والذين قضوا خلال الفترة الماضية، الا أن الوضع الحالي حوّل “درة النيل ” كما يطلق عليها أهلها إلى جحيم.