بعد الضربة الصاروخية الروسية الضخمة على أحد أكبر المجمعات الصناعية العسكرية الأوكرانية في دنيبربيتروفسك، لم يعد الحديث عن شبح تحول الصراع في أوكرانيا إلى “مواجهة عالمية” نوعاً من التهويل.
كانت هذه الضربة بمثابة رسالة “التحذير الأخيرة” التي يوجهها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الغرب عموماً، وإلى الإدارة الأميركية الحالية والرئيس المنتخب دونالد ترمب على وجه الخصوص.
وفور الإعلان قبل أيام، عن منح واشنطن الضوء الأخضر لكييف باستهداف العمق الروسي بصواريخ أميركية، أثير النقاش بشأن ردة الفعل الروسية المحتملة.
وأدرك الكرملين على الفور، أن التحدي الأساسي موجه ليس ضد روسيا، التي توقعت هذا التطور منذ زمن، بل نحو ترمب الذي فاخر خلال حملاته الانتخابية بالقدرة على إنهاء الصراع فور تسلمه السلطة.
وقال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، إن إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أرادت وضع الإدارة الجديدة أمام “أمر واقع”، يجعل مطلب تجميد الصراع عبر إجبار كييف على تقديم بعض التنازلات مستحيلاً.
وكررت إدارة بايدن عملياً خطوات الرئيس السابق باراك أوباما، الذي أنهى أيامه الأخيرة في البيت الابيض عام 2017 بقرارات حاسمة، عبر طرد مئات الدبلوماسيين الروس، وقطع قنوات الاتصال مع الكرملين. في حينها، وجد ترمب في رئاسته الأولى نفسه أمام تركة ثقيلة، فشلت معها كل مساعيه لإعادة تشغيل العلاقات بين البلدين.
لكن يبدو أن هذه المرة بات الوضع أكثر تعقيداً، فالصراع الذي بدأ خاطفاً، وكان يتوقع له في البداية أن ينتهي سريعاً، تحول إلى مواجهة كبرى. ومع انقضاء ألف يوم على الحرب الأوكرانية، اقتربت الأطراف المنخرطة من تجاوز “الخطوط الحمراء”.
“رسائل نووية”
اتجهت الأنظار فور الإعلان عن منح الضوء الأخضر لكييف من أجل استهداف العمق الروسي بصواريخ غربية بعيدة المدى، إلى الكرملين وخطواته القادمة المتحملة.
ووضع خبراء روس وغربيون سيناريوهات عدة للرد، خصوصاً بعدما سارعت أوكرانيا إلى استخدام التفويض، ووجهت بالفعل ضربات عدة لمواقع عسكرية داخل الحدود الروسية، لكن تلك لم تكن الخطوة الوحيدة التي ميزت التحركات الغربية المتسارعة في وتيرتها.
وتبنّى الاتحاد الأوروبي قرارات جديدة ضد موسكو في اجتماعات وزراء الخارجية ثم الدفاع في بروكسل، ما عكس مخاوف أوروبية من فوز ترمب بالانتخابات، والحاجة إلى استباق خطواته الأولى في البيت الأبيض بالتأكيد على مواصلة دعم كييف عسكرياً ومالياً، وتسريع وتيرة تزويدها بحزم من المساعدات العسكرية العاجلة، وصلت قيمتها من واشنطن وحدها نحو 300 مليون دولار.
وبرزت حزم عقوبات جديدة بريطانية وأميركية ضد أفراد وشركات كبرى في روسيا، طالت للمرة الأولى إلى جانب شخصيات ومؤسسات، شركات تابعة لشركة “غازبروم” التي واصلت رغم كل التطورات، تزويد بعض البلدان الأوروبية بحاجتها من الغاز الروسي.
وبدا أن اختبار رد فعل الكرملين على التطورات المتسارعة، يسابق الرغبة في وضع عراقيل إضافية أمام ترمب، الساعي لتخفيف حدة التوترات، على حد قوله.
وتوقعت أوساط روسية وغربية حزمة واسعة من الردود الروسية، بينها خطوات عسكرية، مثل توسيع استهداف المدن الرئيسية ومنشآت الطاقة والمعسكرات ومراكز التحكم والقرار في كييف، فضلاً عن التلويح بتنفيذ تهديدات سابقة للكرملين باستهداف وسائل نقل الأسلحة والمعدات الغربية إلى أوكرانيا، مثل السفن والطائرات حربية وسكك الحديد.
أبرز تحديثات العقيدة النووية
من دون قطع الطريق أمام التحركات المحتملة للتهدئة مع التأكيد على الاستعداد لمناقشة “أفكار عملية ومحددة” من جانب إدارة ترمب في المستقبل القريب، جاء رد الفعل الروسي تصعيدياً، عبر إقرار النسخة المحدثة من العقيدة النووية الروسية، وهو ما اعتبر رسالة مهمة للغرب بأن بوتين جاد في تحركاته لمواجهة أسوأ السيناريوهات.
وجاء توقيع الرئيس الروسي على النسخة المحدثة للعقيدة النووية، بعد ساعات من أول هجوم بصواريخ بعيدة المدى داخل الأراضي الروسية، في رسالة تحذير قوية إلى الغرب.
ورغم عدم ارتباط الحدثين بشكل مباشر، باعتبار أن الكرملين كان قد أعلن سابقاً إعداد الوثيقة الجديدة، لكن تصادفهما حمل دلالات مهمة.
ونص المرسوم الرئاسي على أن “الردع المضمون للعدو المحتمل من العدوان على روسيا و(أو) حلفائه، هو من بين أعلى أولويات الدولة، ويتم ضمان ردع العدوان من خلال مجمل القوة العسكرية الروسية، بما في ذلك الأسلحة النووية”.
ورغم أن العقيدة النووية في نسختها المحدثة تنص على أن سياسة الدولة في مجال الردع النووي هي سياسة دفاعية بطبيعتها؛ لكن الجديد هو التأكيد على أن روسيا يمكن أن ترد باستخدام الأسلحة النووية في حال تعرضت هي أو حلفاؤها لعدوان من جانب أي دولة أو تحالف عسكري، حتى لو كان هذا العدوان تم شنه من جانب دولة غير نووية بدعم من دولة أو تحالف يمتلك أسلحة نووية.
وبحسب العقيدة الجديدة، قد تفكر روسيا في توجيه ضربة نووية إذا تعرضت هي أو حليفتها بيلاروس لعدوان باستخدام “أسلحة تقليدية تهدد سيادتهما أو سلامتهما الإقليمية”.
وكانت تنص العقيدة السابقة، التي أقرت عام 2020، على أن روسيا قد تستخدم أسلحة نووية إذا تعرضت لهجوم نووي من جانب عدو أو لهجوم تقليدي يهدد وجود الدولة.
وتشمل التحديثات الجديدة اعتبار أي هجوم تقليدي على روسيا من دولة غير نووية مدعومة من دولة نووية هجوماً مشتركاً، بالإضافة إلى أن أي هجوم جوي واسع النطاق بطائرات وصواريخ موجهة وطائرات مسيرة تعبر حدود البلاد قد يؤدي إلى رد نووي.
ووفقاً لهذا البند، فإن الهجمات الصاروخية في العمق الروسي قد تعتبر سبباً كافياً لرد نووي من جانب روسيا.
ونصت الوثيقة كذلك على أن “سياسة الدولة في مجال الردع النووي في الصراع العسكري تضمن وقف الأعمال العدائية بشروط يجب أن تكون مقبولة لروسيا”. وهنا يبرز التلويح الروسي بأن الردع النووي يتحول لوسيلة ضغط من أجل ضمان التزام العدو الافتراضي بشروط روسيا لوقف الحرب.
وتم تضمين النسخة المحدثة أيضاً بإشارات للقوات والأسلحة النووية الروسية التي تم نشرها أو يمكن أن تنتشر خارج الأراضي الروسية، وينطبق ذلك على الأسلحة التي أرسلتها روسيا إلى بيلاروس الحليف الأقرب للكرملين.
لكن “الرسائل النووية” لبوتين لم تقف عند هذا الحد، إذ تم توجيه ضربة بواسطة أحدث صاروخ روسي متوسط المدى من طراز “أوريشنيك”، ليحمل كذلك تحذيراً عملياً أقوى، لأن هذا الصاروخ الحديث والذي تقول موسكو، إن الغرب لا يمتلك حتى الآن أسلحة دفاعية قادرة على صده، مجهز لحمل رؤوس نووية. ومغزى الرسالة الواضح أنه قد يحملها في المرة المقبلة.
“صراع عالمي”
وترى موسكو أن الصراع في أوكرانيا اكتسب “بعداً عالمياً” بعد الهجوم الصاروخي على روسيا في 19 نوفمبر الجاري بـ6 صواريخ بعيدة المدى من طراز ATACMS الأميركية وفي 20 نوفمبر بصواريخ Storm Shadow البريطانية، .
وقال بوتين، إنه من المستحيل استخدام مثل هذه الأسلحة بعيدة المدى ضد روسيا من دون متخصصين غربيين، ما يعني أن الدول التي سمحت باستخدام تلك التقنيات تعمدت أن تصبح أطرافاً في الصراع بكل ما يترتب عليه من عواقب.
وهذا التوصيف الجديد للصراع بأنه “عالمي” يضع سيناريوهات عدة لتطور الوضع مستقبلاً، كما أنه يؤشر إلى عزم موسكو على الرد بحزم على أي تصعيد جديد للصراع، أي لن تكون هناك ردوداً “غير متكافئة” بل ستكون متماثلة تماماً.
ويحمل هذا التوصيف ضمنياً كذلك إشارة إلى أن موسكو لن تتردد في استهداف منشآت ومرافق في الدول الغربية التي تساعد كييف، في حال شعرت بتهديد جدي.
ولفت الكرملين في تصريح سابق، إلى أنه ليس من الضروري أن تكون “الأهداف العسكرية” موجودة على أراضي البلدان المعنية فقط، فالحديث هنا عن القواعد العسكرية، وحاملات الطائرات، وطائرات نظام الإنذار المبكر “الأواكس”، ومجموعات الأقمار الاصنطاعية، وما إلى ذلك.
وسبق أن شدد الرئيس الروسي بوضوح وبشكل محدد: “إذا شكك أحد في قدرتنا على ذلك، فستكون هناك إجابة دائماً”.
ويرى خبراء في موسكو، أنه في حال وقوع هجمات على منشآت عسكرية لحلف شمال الأطلسي “الناتو” بعد الاستفزاز التالي المحتمل من أوكرانيا بمشاركة متخصصين غربيين،فإن روسيا لم تعد تخشى إعلان الحلف الحرب عليها، إذ قالت بوضوح: “نحن جاهزون لأي سيناريو”.
تقوم الحسابات الروسية على أن “الناتو” ليس في أقوى حالاته، في ظل المخاوف الغربية من خطوات ترمب المحتملة لردع محاولات التصعيد القوية.
وفي الوقت نفسه، لا تزال هناك إشارات أميركية بأنها “لا ترى أي علامات تشير إلى أن موسكو تستعد لاستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا”، وأن “واشنطن لا ترى ضرورة تغيير عقيدتها النووية، رغم القرارات الروسية الجديدة من هذا النوع”.
وانطلاقاً من هذا الواقع، يراهن بوتين على أن المجال مازال مفتوحاً للحوار، لكن “الحوار من منطق القوة وليس الضعف، والحوار على أساس متكافئ تماماً”، بحسب ما ذكره مقربون من الكرملين.
سيناريوهات تطور الصراع
وبقدر ما يشكل “التصعيد النووي” رسالة حازمة من جانب الكرملين، فإن الرهان الروسي مازال قائماً على أن الوصول إلى حافة المواجهة لا يعني حتمية الانزلاق إليها. وفي المقابل، فإن الرسائل القوية تشكل، وفقاً لمقربين من الكرملين، عنصراً رادعاً قد يوقف التصعيد.
وبهذا المعنى ينطلق الكرملين من أن إدارة ترمب المقبلة لم تقل بعد كلمتها، وأن التصعيد الحاصل حالياً أمامه أسابيع قليلة قبل أن تتضح المعالم النهائية لتركيبة الإدارة الجديدة وخطواتها الأولى.
وفي هذا الإطار، يعول الكرملين على عناصر ضعف بارزة بدأت ملامحها تتضح أكثر. فداخلياً في أوكرانيا، هناك سجالات واسعة بشأن القدرة على مواصلة العمليات العسكرية بنفس الآليات السابقة، وهنا يدور الحوار عن التقدم الروسي المتواصل خلال الأشهر الأخيرة برغم كل شيء في مناطق دونباس من جانب، وعلى المخاوف من انتقال روسيا لاستخدام أسلحة أكثر فتكاً كما حصل أخيراً في دنيبربيتروفسك من جانب آخر.
ومع أن الفريق الأوسع مازال يقف إلى جانب سياسة التحدي الأقصى التي يتبناها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لكن هذا الموقف سيواجه صعوبات جدية تزداد تدريجياً إذا تم تقليص المعونات العسكرية الأميركية.
وأوروبياً، يبرز التعويل الروسي على أن محاولات إظهار تماسك الموقف حتى الآن تواجه تحديات جدية، خصوصاً مع تزايد السجالات داخل البيت الأوروبي بشأن التكلفة الباهظة التي تدفعها القارة.
وأخيراً، تستند موسكو إلى أن فرص ترمب لإظهار أن إدارته نجحت في وقف مواجهة “عالمية” متصاعدة، أو على الأقل تجميد خطوط التماس مؤقتاً وتقليص حدة الصراع المباشر، مازالت قائمة.
لكنها في الوقت ذاته، قدمت شروطها بشكل واضح استباقاً للعروض التي قد تنضج لدى الإدارة الأميركية الجديدة، من خلال التأكيد على الانفتاح لحوار ما قد يفضي لتجميد الصراع، لكن من دون انتظار تنازل روسيا عن المناطق التي جرى ضمها، مع إبقاء احتمال الانسحاب من بعض المناطق الأخرى مثل خاركوف.
ولا تريد موسكو تهدئة مؤقتة، بل خطة طريق لتسوية نهائية تضع في الاعتبار تنفيذ شروطها الأساسية، وعلى رأسها وقف تقدم حلف “الناتو” شرقاً، وفرض حياد أوكرانيا.
وعلى الأرض، يرى خبراء روس، أن ملف شبه جزيرة القرم قد طوي فعلاً، وأن بعض النقاشات بشأن حدود منطقة دونباس ومقاطعتي زوباروجيا وخيرسون التي تسيطر موسكو على نحو 70% منها، ممكن إذا وضعت شروط جدية للتفاوض.
وحتى تنضج تلك الرؤية لدى واشنطن، لن تتردد موسكو في العمل على مواجهة التصعيد بتصعيد مدروس، مع تأكيد استعداها لمواجهة كل الاحتمالات.