شكّلت الدورة الثالثة للمجلس الوطني الـ14 لنواب الشعب في بكين، مناسبة لتكشف الصين عن مجموعة من السياسيات الاقتصادية الاستباقية غير المسبوقة.
ومن بين السياسات الاقتصادية الإعلان عن الالتزام بتوسيع فرص الاستثمار الأجنبي مع وضع مسألة تطوير الذكاء الاصطناعي أولوية لبكين من خلال إدخال المزيد من السياسات لدعم تطوير التكنولوجيا في هذا المجال، بما في ذلك الاستثمار في الأبحاث، وتنمية المواهب، والبنية التحتية، والهدف هو أن يصبح “خطاً رئيسياً اقتصادياً”.
بدا أن الصين تستمر في إعداد نفسها، اقتصادياً وتكنولوجياً، لتحقيق اختراقات في الصناعات التكنولوجية الدقيقة، والرقائق، تجعلها لا تحتاج إلى تقنيات تصنّع في الولايات المتحدة، التي فرضت حظراً على تصدير هذا النوع من التقنيات إلى الصين.
وفي هذا السياق، لم يكن بالإمكان تجاهل قرار الولايات المتحدة الأخير برفع التعريفات الجمركية على البضائع الصينية، إذ هدد وزير الخارجية وانج يي بـ”برد حازم”، ونبه إلى أنه لا ينبغي لأي دولة “أن تقمع بلاده وتحافظ، في الوقت نفسه، على علاقة جيدة معها”.
وتعتبر الدورة الثالثة للمجلس الوطني الـ14 لنواب الشعب في بكين، من أهم الفعاليات السياسية في الصين، إذ تقدم رؤى رئيسية بشأن الاتجاهات السياسية لثاني أكبر اقتصاد في العالم. فالقرارات والإعلانات السياسية التي تصدر في بكين لن تؤثر فقط على حياة 1.4 مليار صيني، بل ستكون لها أيضاً تداعيات عالمية واسعة النطاق.
وقال تشنج شانجيه، رئيس اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، وهي الجهة المسؤولة عن التخطيط الاقتصادي في الصين، خلال مؤتمر صحافي عُقد في 6 مارس الماضي، على هامش دورة المجلس الوطني، إن بلاده “واثقة تماماً من تحقيق هدف النمو الاقتصادي البالغ حوالي 5% هذا العام، إذ توجد أسس قوية، ودعم قوي، وضمانات كافية”.
إمكانيات “قوية” لنمو اقتصادي مستقر
وأعلنت الصين عن هدف نمو اقتصادي بحوالي 5% لعام 2025، وفق تقرير العمل الحكومي، الذي قدّمه رئيس مجلس الدولة لي تشيانج إلى المجلس الوطني لنواب الشعب، الهيئة التشريعية الوطنية، الأربعاء.
وتعتبر هذه النسبة المأمولة من النمو هي نفسها التي وضعتها الحكومة الصينية العام الماضي، ما يشير إلى أن كبار صناع السياسات يسعون لضمان نمو مستقر لثاني أكبر اقتصاد في العالم، على الرغم من تصاعد المخاطر والتحديات العالمية.
ووفقاً للبيانات الواردة في التقرير، لا تزال الصين تساهم بحوالي 30% من النمو الاقتصادي العالمي، إذ بلغ إجمالي ناتجها المحلي السنوي ما يقارب 135 تريليون يوان (18.6 تريليون دولار) في عام 2024.
وقال جاستن يفو لين، عضو اللجنة الوطنية الـ14 للمؤتمر الاستشاري السياسي وعميد معهد الاقتصاد الهيكلي الجديد بجامعة بكين، لـ”الشرق”، إن بلاده “لا تزال تمتلك إمكانيات قوية لتحقيق نمو مستقر، ويُفترض أن تحافظ على معدل نمو لا يقل عن 5% في السنوات المقبلة حتى عام 2035”.
يُذكر أن لين شغل سابقاً منصب كبير الاقتصاديين ونائب الرئيس الأول للبنك الدولي من 2008 إلى 2012.
وكان صندوق النقد الدولي قد رفع في يناير من العام الحالي توقعاته لنمو الاقتصاد الصيني إلى 4.6% ، بزيادة قدرها 0.1 نقطة مئوية مقارنة بتوقعاته في أكتوبر الماضي.
الرد على الضغوط الأميركية
قال وزير الخارجية الصيني وانج يي خلال مؤتمر صحافي عُقد على هامش “الدورتين” ببكين، الجمعة، إن بلاده “قدمت مدفوعة بروح إنسانية، مساعدات للولايات المتحدة في مناسبات عدة، ولا ينبغي لواشنطن أن ترد على ذلك بنكران الجميل، وبالتأكيد ليس بفرض تعريفات جمركية تعسفية بذريعة قضية مخدر الفنتانيل”، الذي تتهم أميركا الصين بأنها تصدره إليها عبر أميركا اللاتينية وكندا.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب رفع التعريفات الجمركية على الصين لتصل إلى 20%، فيما ردت الأخيرة بفرض رسوم جمركية تترواح بين 10 و 15% على بعض الواردات الأميركية، وذلك اعتباراً من العاشر من مارس الجاري.
وخلال مؤتمره الصحافي، تحدث وزير الخارجية الصيني، بإسهاب عن العلاقات الصينية-الأميركية، وحث واشنطن على تقييم نتائج سياساتها القائمة على الرسوم الجمركية من خلال طرح 5 أسئلة، منها: ما الذي حققته الولايات المتحدة من الحروب التجارية والرسوم الجمركية على مرّ السنوات؟ هل تقلص العجز التجاري أم ازداد؟ هل ازدادت قدرة قطاع التصنيع الأميركي على المنافسة أم تراجعت؟ هل تحسن التضخم أم تفاقم؟ وهل تحسنت جودة حياة المواطنين الأميركيين أم تدهورت؟!.
وفي ردّه على سؤال بشأن الرسوم الجمركية الأميركية المفروضة على الصين، شدد وانج على أنه “لا ينبغي لأي دولة أن تتخيل أنها تستطيع قمع الصين مع الإبقاء على علاقات جيدة معها”.
كما حذّر من أن بلاده ستتخذ تدابير مضادة ضد أي تعريفات تعسفية، مؤكداً أن “التصرفات ذات الوجهين تضر باستقرار العلاقات الثنائية وبناء الثقة المتبادلة”، معتبراً أن “التصرفات ذات الوجهين تضر باستقرار العلاقات الثنائية وبناء الثقة المتبادلة”.
وأشار وانج إلى أن “شريعة الغاب” يمكن أن تسود العالم إذا سعت الدول إلى تحقيق مصالحها الخاصة فقط.
التحول إلى سياسة مالية أكثر استباقية
ومن بين التحولات البارزة في السياسة المالية، الإعلان عن نية الصين إصدار سندات خزانة خاصة طويلة الأجل جداً كأداة مالية رئيسية، في وقت وصل العجز في الناتج المحلي إلى حوالي 4%، وهو الأعلى منذ 14 عاماً.
وكجزء من التوسع المالي لعام 2025، تخطط الصين لإصدار سندات خزانة خاصة طويلة الأجل بقيمة قياسية تبلغ 1.3 تريليون يوان (حوالي 179 مليار دولار)، مخصصة لتمويل مبادرات استراتيجية طويلة الأجل مرتبطة بتحديث البلاد، ويمثل ذلك زيادة قدرها 300 مليار يوان (41.83 مليار دولار) مقارنة بالعام السابق.
ومن ضمن هذه الحزمة البالغة 1.3 تريليون يوان، سيتم تخصيص 300 مليار يوان (41.83 مليار دولار) لدعم برامج استبدال السلع الاستهلاكية وتعزيز الاستهلاك، بينما سيتم توجيه تريليون يوان إلى استراتيجيات وطنية حاسمة وترقيات صناعية.
بالإضافة إلى ذلك، ستصدر الصين سندات حكومية محلية خاصة بقيمة 4.4 تريليون يوان (حوالي 613.67 مليار دولار أميركي)، وهو مستوى قياسي جديد، خاصة لاستبدال الديون المخفية للحكومات المحلية، علاوة على ذلك، سيتم تخصيص 500 مليار يوان لإعادة رسملة البنوك المملوكة للدولة لضمان سيولة أكبر وقدرة إقراضية مُحسنة.
وأكد تشن تشانجشينج، عضو فريق صياغة “تقرير عمل الحكومة” ونائب مدير مكتب البحوث بمجلس الدولة، لـ”الشرق”، أن تحول الصين نحو “سياسة مالية أكثر استباقية وسياسة نقدية ميسرة بشكل مناسب للمرة الأولى منذ 14 عاماً، يعكس التزاماً قوياً بالاستفادة من القوة المالية لتحفيز النمو الاقتصادي”.
ما هي السياسات الاستباقية؟
والمقصود بالسياسيات المالية الاستباقية، هو توجه الحكومة الصينية إلى الاستمرار في استثمار المزيد من الأموال في سندات الخزينة طويلة الأجل، واستثمار تلريونات اليوانات في الصناعات الاستراتيجية.
كما تعتزم توظيف العائدات التي يتم جمعها من سندات الخزينة طويلة الأجل لإعادة معالجة الديون المخفية للحكومات المحلية، بالتوازي مع الحفاظ على الإنفاق الحكومي الكافي لتعزيز الاقتصاد، ولا سيما في ظل احتمالات استمرار المواجهة مع اقتصادات كبرى مثل الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أن هذا التحول تم الإعلان عنه رسمياً في تقرير عمل الحكومة لهذا العام، إلا أنه يمكن نسبه إلى مؤتمر العمل الاقتصادي المركزي الذي عقد في ديسمبر الماضي، حيث تعهد صناع القرار في البلاد بتطبيق سياسات اقتصادية كلية “أكثر استباقية” في عام 2025.
ووفقًا لتقرير تحليلي صادر عن شركة “قوتاي جينان”، إحدى شركات الأوراق المالية الرائدة في الصين، فقد تم ذكر مصطلح “الاستهلاك” 31 مرة في تقرير عمل الحكومة لهذا العام، مقارنة بـ21 مرة في العام الماضي، بينما تم ذكر مصطلح “التكنولوجيا” 28 مرة، مقارنة بـ26 مرة في عام 2024.
وتهدف جميع هذه السياسات إلى معالجة قضايا ديون الحكومات المحلية، وتعزيز زخم الاقتصاد، والتخفيف من الصدمات الاقتصادية الخارجية التي قد تؤثر على الاقتصاد العالمي.
الذكاء الاصطناعي من أولويات الصين
وأصبح الذكاء الاصطناعي موضوعاً ساخناً في الصين، حيث يجذب اهتمام كل من الشباب وكبار السن.
وعلى مدار الأشهر الماضية، أشاد العديد من القادة الإقليميين في الصين بدور التقنيات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، في دفع عجلة التنمية الاقتصادية.
ومع التقدم التكنولوجي المستمر، وزيادة تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات، بما في ذلك التصنيع والرعاية الصحية والنقل، تستفيد الصين من الذكاء الاصطناعي لـ”تعزيز الإنتاجية ودفع النمو الاقتصادي”.
واعتبر البروفيسور هوانج ييبينج، عميد المدرسة الوطنية للتنمية في جامعة بكين، في حديث لـ”الشرق”، أنه يجب على الصين “التركيز على نقاط قوتها طويلة الأجل، التي تشمل قاعدة المواهب الواسعة، والالتزام بالتقدم التكنولوجي، والقدرة على التكيف مع الظروف المتغيرة، مع تصاعد التعريفات الأميركية والتوترات الجيوسياسية”، كما دعا البلاد إلى “تسريع تحولها الكامل إلى اقتصاد قائم على الابتكار”.
وفي هذا السياق، أبرز تقرير عمل الحكومة لهذا العام، استعداد الصين لإدخال المزيد من السياسات لدعم تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الاستثمار في البحث والتطوير، وتنمية المواهب، وبناء البنية التحتية، ما سيعزز بشكل أكبر مكانة الذكاء الاصطناعي كخط رئيسي في السوق.
علاوة على ذلك، ستتخذ الصين تدابير لتطوير قوى إنتاجية جديدة عالية الجودة بناءً على الظروف المحلية، وتعزيز نمو الصناعات الناشئة والمستقبلية، بما في ذلك الفضاء التجاري، و”اقتصاد الارتفاعات المنخفضة”، والتصنيع الحيوي، والحوسبة الكمومية التي تعتمد على علوم الكمبيوتر والفيزياء والرياضيات وميكانيكا الكَم، والذكاء المجسَّد، وتقنيات الجيل السادس للاتصالات.
توسيع فرص الاستثمار الأجنبي
وأكد تقرير عمل الحكومة التزام الصين بتوسيع فرص الاستثمار الأجنبي من خلال إطلاق تجارب شاملة لفتح قطاع الخدمات بشكل أكبر في عام 2025.
ويأتي ذلك كجزء من خطة العمل الصينية لاستقرار الاستثمار الأجنبي من خلال تخفيف القيود المفروضة على الاستثمارات الأجنبية في بعض المجالات.
ومن الناحية العملية، تستعد بكين لتعزيز جهودها لتشجيع الاستثمار الأجنبي بقوة، بما في ذلك الترويج لتجارب شاملة وعروض توضيحية لتوسيع انفتاح قطاع الخدمات، وضمان المعاملة الوطنية للشركات الممولة أجنبياً في العديد من المجالات.
ووفقاً لتقرير عمل الحكومة الصينية، ستواصل البلاد فتح قطاعات خدمات مثل الخدمات المرتبطة بالإنترنت، والثقافة، والاتصالات، والخدمات الطبية، والتعليم، بطريقة منظمة.
كما سيتم تشجيع المستثمرين الأجانب على زيادة إعادة استثمارهم في السوق والتعاون مع الشركات في سلاسل التوريد الصناعية.
وعلى أرض الواقع، وافقت الصين في الأول من مارس على 13 شركة أجنبية لتقديم خدمات تجريبية في قطاع الاتصالات ذات القيمة المضافة، إذ تم منح 13 شركة استثمارية أجنبية الموافقة على تشغيل خدمات تجريبية في بكين وشنغهاي وهينان وشنتشن.
وتعد هذه الخطوة تقدماً مهماً نحو مزيد من الانفتاح في قطاع الاتصالات الصيني. ووفقاً لبيان صادر عن وزارة الصناعة وتكنولوجيا المعلومات MIIT، فإن هذه الموافقة تتماشى مع جهود الصين للاندماج مع القواعد الاقتصادية والتجارية الدولية عالية المعايير.