لم يكن سهلاً هذه المرة أن أختار الصورة التي ستختزل الأسبوع الخامس للرئيس الأميركي دونالد ترمب في البيت الأبيض، فكلما نظرت إلى ذلك الغلاف الزائف لمجلة “التايم”، الذي صممه البيت الأبيض لترمب كملك متوج، تقاطعني ساعات الانتظار الطويلة في إحدى صالات قصر الدرعية التاريخي في العاصمة السعودية الرياض مع مجموعة من الصحافيين، ننتظر نتائج المحادثات الأميركية- الروسية ونتابع الغليان الأوروبي بشأنها افتراضياً.
ولمن لا يذكر، فإن مجلة “التايم” نشرت على غلاف عددها الصادر في يونيو من عام 2018، صورة لترمب ينظر في المرآة، ويرى نفسه ملكاً، مع عبارة “نصبوني ملكاً” King me على أسفل يمين الصفحة.
وبحسب المجلة، فإن تصميم الغلاف أعقب هجمات إدارة ترمب الأولى على المحقق الخاص بملف التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية آنذاك روبرت مولر، والتي قال مصمم الغلاف تيم أوبرايان، إنها “تعكس الطريقة التي تعامل بها ترمب وفريقه خلال الأيام الـ500 الأولى من ولايته”.
وبعد 6 سنوات أو أكثر، لم ينتظر ترمب غلافاً آخر من تيم أوبرايان أو مجلة “التايم”، بل صممه له فريقه بنفسه، بعد منشور له على منصة Truth Social، قال فيه “لقد انتهت رسوم الازدحام، تم إنقاذ مانهاتن وكل نيويورك، عاش الملك”.
ورسوم الازدحام في نيويورك تندرج في إطار برنامج مصمم لجمع الأموال لصالح البنية التحتية في المناطق المزدحمة في مانهاتن، حيث يمتلك ترمب منزلاً، وبهدف تخفيف الازدحام هناك.
وبعد منشور ترمب، أعاد البيت الأبيض نشر المنشور على مواقعه في وسائل التواصل الاجتماعي مع صورة للرئيس الأميركي متوجاً كملك على غلاف مزيف لمجلة “التايم” ومكتوب على أسفل يمين الصورة: “عاش الملك”.
وأشعل حلم الملكية، حتى لو من باب الفكاهة، الجدل في واشنطن التي لطالما تغنت بأن دستورها الأقدم على الأرض، إذ تستعد للاحتفال بعيدها الـ250 العام المقبل، وباتت تخشى من اتساع سلطات لترمب التي يستحوذ عليها عبر أوامره التنفيذية، فيما لا ينفك يلمح إلى ولاية ثالثة.
ورغم أن رد حاكمة ولاية نيويورك كاثي هوكول على ترمب لم يتأخر، إذ أجابته: “نحن أمة قوانين لا يحكمها ملك”، متوعدة بالدفاع عن برنامج الرسوم في المحكمة، لكن الرئيس الذي كبلته القوانين في الولاية الأولى جاء هذه المرة أكثر استعدادا لهاً، وباشر منذ اليوم الأول استخدام حقه الدستوري بالحكم عبر سلسلة من الأوامر التنفيذية التي يصدرها تباعاً، وفقاً لترتيبها في سلم أولويات أجندته.
وتلتف هذه الأوامر التي يواجه بعضها تحد في المحاكم، على طبيعة العلاقة مع الكونجرس، وهو ما يصفه البعض، لا سيما من الديمقراطيين أنه “بذور أزمة دستورية”.
فالوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID، التي علق ترمب عملها، ووضعت تحت إدارة وزارة الخارجية الأميركية، أسسها الكونجرس، كما أن الجسم التشريعي، وتحديداً مجلس النواب، كان دوماً المسؤول عن محفظة البلاد، ويقرر قطع التمويل من عدمه.
وخاض ترمب حملته الانتخابية على أساس خفض الإنفاق، إلا أن التوقعات كانت بأن ذلك سيتم عبر العمل مع الكونجرس، وليس من خلال وضع كامل هذه الصلاحيات بيد إدارة الكفاءة الحكومية التي يرأسها إيلون ماسك.
ولأن الاعتراض على الطريقة بات يتجاوز الديمقراطيين، لأنه سيطال موظفين فيدراليين من الحزبيين، جلس ترمب وماسك معاً في مقابلة خاصة على قناة “فوكس نيوز”، لدحض الشائعات بشأن تدهور العلاقة بينهما، والدفاع عما يقومان به.
ورغم منشور ماسك على منصة “إكس”، الذي كشف فيه عن مضمون بريد إلكتروني تم إرساله إلى الموظفين الفيدراليين، وفيه أنه بناءً على تعليمات الرئيس الأميركي، فإن على كل موظف تقديم إقرار بما قام به الأسبوع الماضي، تحت خطر الإقالة، إلا أن جميع الوكالات حتى تلك التي تؤيد ما يقوم به ماسك، كوزارة الدفاع، أخطرت موظفيها بعدم الرد، ما ينذر ببدء أزمة فعلية بين تلك الإدارات.
وفي رد صارخ على الانتقادات، استعار ترمب اقتباساً لنابليون بونابرت، للدفاع عن نفسه، قال فيه “الذي ينقذ بلاده لا ينتهك أي قوانين”، وثمة من قرأ في استعارة ترمب ما هو أبعد من ذلك، فالاقتباس ورد في فيلم “ووترلو” Waterloo، وفيه يقول رود ستايجر، الذي جسد شخصية بونابرت: “لم أغتصب التاج، لقد وجدته في الميزاب، والتقطته بسيفي. الناس.. هم الذين وضعوه على رأسي”.
ولطالما كرر ترمب وماسك أن ما يقومان به هو بتفويض من الناس الذين انتخبوه على أساس تنفيذ أجندته، وهو ما ركز عليه ترمب هذا الأسبوع، وهو يحتفي بمرور شهر له في البيت الأبيض، حيث وجه كل أركان إدارته للحديث مع الإعلام عن الإنجازات التي تم تحقيقها خلال الشهر الأول، التزاماً بتنفيذ الوعود التي أطلقوها للناخبين.
شعبية ترمب
وكان ذلك محور كلمة ترمب أمام مؤتمر العمل السياسي المحافظ CPAC الذي اختتم، السبت، أعماله في ولاية ماريلاند. وقد أظهر استطلاع للرأي في المؤتمر دعم 99% من المحافظين لترمب، بينما قال 61% إن نائب ترمب، جي دي فانس، يجب أن يكون مرشح الحزب الجمهوري لعام 2028.
لكن الأرقام الوردية للمحافظين لا تتطابق مع استطلاعات أخرى، أجرتها صحف ووكالات مختصة، أظهرت تراجعاً في شعبية ترمب لتقف في حدود 44 إلى 47%.
وانطلاقاً من الماضي القريب جداً، وتحديداً الأيام الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية، فإن استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة باتت تؤخذ بحذر أكبر، أما ترمب نفسه، فلم يبد أي إشارة على نيته بالتراجع، إذ حض ماسك ليكون أكثر تشدداً، وأقال هو رئيس هيئة الأركان تشارلز براون بمنشور على Truth Social، فيما كان الأخير في مهمة على الحدود.
لكن هذا السلوك الداخلي لترمب، بقي ضمن حدود المتوقع منه، فمن تابع ولايته الأولى، عندما كان يستكشف دهاليز العاصمة، يدرك تماماً أن ترمب لن يعود كالمرة الأولى مكبلاً بالبيروقراطية.
وكان ترمب أقال في ولايته الأولى أول وزير خارجية له ريك تيلرسون في مارس 2018، عندما كان الأخير في مهمة، ما اضطر تليرسون للسفر عبر طيران تجاري، بعدما تعذر عليه استخدام الطائرة المخصصة لوزير الخارجية.
العلاقات مع أوروبا
لكن ما يتجاوز حدود المتوقع، دون أن يكون مفاجئاً، هو موقف الرئيس الأميركي من الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ صحيح أن أحد أكبر وعود ترمب الانتخابية هو إنهاء الحرب خلال يوم واحد، لكن ما عكسه، وإن لم يقصد، خلال هذا الأسبوع هو أنه يريد إنهاءها بأي ثمن، حتى لو لصالح روسيا.
ورغم أن المحادثات التي عقدت مؤخراً في الرياض، كانت بداية لعملية سياسية قد تقود إلى شيء، إلا أن القادة الأوروبيين اعتبروا أن هذه المفاوضات “تشكل تجاوزاً لثمانية عقود من طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة”.
وبعد الاجتماع أجرى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو اتصالات بنظرائه الأوربيين لاطلاعهم على فحوى الاجتماع، إلا أن تصريحات مستشار الأمن القومي مايك والتز كانت لافتة، عندما تحدث عن الأراضي الأوكرانية والضمانات الأمنية بغياب أوكرانيا ومن دون أن يجيب بوضوح عن موقفه بشأن الأراضي التي استولت عليها روسيا بعد عام 2022.
وقد بدا المشهد أكثر تعقيداً بعد تصريحات للرئيس الأميركي، قال فيها إن “أوكرانيا هي من بدأت الحرب”، فيما وصف نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ”الديكتاتور”، في مشهد أعاد واشنطن بالذاكرة إلى لحظة إعلان ترمب خلال ولايته الأولى، نيته سحب القوات الأميركية من شمال شرق سوريا، بعد اتصال أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يقال إنه منحه الضوء الأخضر للدخول إلى سوريا، متخلياً عن الأكراد، قبل أن يعدل عن ذلك بعد نصائح مستشاريه.
وفيما يعتقد البعض أن تصريحات ترمب جاءت كردة فعل على رفض زيلينسكي التوقيع على اتفاق بشأن المعادن النادرة في أوكرانيا مقابل ضمانات أمنية أميركية، إلا أن ثمة من يعتبر أن الموضوع متعلق بكره ترمب لشخص زيلينسكي نفسه منذ رفضه التعاون معه في ولايته الأولى ضد نجل الرئيس الأميركي جو بايدن.
وقد أقدم عدد من الجمهوريين على استدراك تصريح ترمب بانتقاد الرئيس فلاديمير بوتين والدفاع عن زيلينسكي، لكن ذلك لم يرق إلى تصحيح كامل للنهج الجديد في ظل ترقب للتصويت على مشروعي قرارين في الأمم المتحدة الاثنين، أحدهما أوكراني وآخر أميركي في الذكرى الثالثة للحرب في أوكرانيا.
أوكرانيا والشرق الأوسط
وبحسب ما سرب حتى الآن، فإن الولايات المتحدة تدفع باتجاه جلسة لمجلس الأمن للتصويت على مشروع قرار يدعو الأمم المتحدة للعمل على إنهاء الحرب في أوكرانيا، وذلك قبل ساعة من اجتماع الجمعية العامة للتصويت على مشروع قرار يدين الاعتداء الروسي وانتهاكات حقوق الإنسان، ويؤكد حق أوكرانيا بالسيادة على كامل أراضيها.
وخلال اليومين الماضين، بدا أن هناك تقدماً في المفاوضات على اتفاق المعادن النادرة، فيما أعلنت الناطقة باسم البيت الأبيض، أن الرئيس الأميركي واثق من إمكانية التوصل إلى اتفاق بين روسيا وأوكرانيا هذا الأسبوع.
لكن بمعزل عما يمكن أن يحصل، فإن العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا وصلت إلى مرحلة جديدة، يستحيل معها الرهان على عودة رئيس ديمقراطي إلى البيت الأبيض بعد سنوات، لأن ما يقوم به ترمب قد يخلق واقعاً ليس من السهل التراجع عنه.
وبحسب بعض الخبراء، فإن ما يحدث هو بمثابة جرس إنذار حقيقي، ينبغي على أوروبا الواقعية التعامل معه، خصوصاً أن التصريحات المنتقدة للقارة العجوز ليست من ترمب وحده، وإنما تتجاوزه إلى نائبه الذي كرر جزءاً من مضمون خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن، أمام مؤتمر العمل السياسي في ماريلاند، وكذلك ماسك الذي يوظف منصته “إكس”، لخدمة أحزاب اليمين في كامل القارة.
أما بالنسبة للشرق الأوسط، فقد ألمح ترمب إلى نوع من التراجع في حديثه عن خطة طرحها لتهجير سكان قطاع غزة، إذ قال في مقابلة صحفية إن هذا مقترحه، لكنه لن يفرضه، وذلك بعدما كشف وزير خارجيته أن واشنطن بانتظار مقترح عربي لليوم الثاني في غزة.
وفيما يستعد ترمب لأسبوع سادس في البيت الأبيض، يلتقي خلاله زعيمين أوروبيين، تستعد واشنطن لمنازلة جديدة بين الإدارة والمحاكم، ويترقب العالم لمعرفة ما يريده ترمب من إنجازات إضافية يريد أن يحملها وهو يخاطب الكونجرس بمجلسيه في 4 مارس المقبل.