بينما تتزايد التوقعات بانسحاب القوات الأميركية من سوريا في ضوء تصريحات لمسؤولين بـ”البنتاجون” تؤكد هذا الاتجاه، تدور تساؤلات بشأن مدى تأثير خطوة من هذا القبيل على قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة شمال شرقي البلاد، خاصة في ظل تأكيد الإدارة السورية الجديدة على رغبتها بعودة مناطق السيطرة الكردية إلى سلطة الدولة.
وكانت شبكة NBC الإخبارية نقلت عن مصادر في وزارة الدفاع الأميركية، أن الوزارة تعمل على إعداد خطط لسحب القوات الأميركية من سوريا، وأن الرئيس دونالد ترمب ومقربين منه أبدوا اهتماماً بالانسحاب، ما دفع “البنتاجون” إلى البدء بوضع خطط لانسحاب كامل خلال فترة تتراوح من 30 إلى 90 يوماً.
وترددت هذه التوقعات على أصداء تصريحات أدلى بها الرئيس السوري أحمد الشرع مؤخراً في مقابلة مع مجلة “الإيكونوميست”، وأكد فيها وجود ضغوط شعبية من المكون العربي شمال شرق سوريا للمطالبة بعودة المنطقة إلى سلطة الدولة وإنهاء حكم “قسد”.
واستبعد الشرع في الوقت نفسه إمكانية السماح بنظام فيدرالي في البلاد، مؤكداً أن ذلك “لا يحظى بقبول شعبي”، وأن المجتمع السوري لم يعتد على ممارسات الفيدرالية، ما قد يؤدي إلى مطالبات بالانفصال الكامل تحت هذا الغطاء.
وقال الشرع إن تركيا كانت تستعد لشن حرب واسعة في المنطقة، بسبب قلقها من وجود حزب العمال الكردستاني في تلك المناطق، لكنها وافقت على التريث لإعطاء فرصة للمفاوضات، ونقلت عنه المجلة، قوله: “نخوض عملية تفاوضية، ونأمل في حل الأمور سلمياً دون أضرار”.
ضياع الدعم الأميركي
منذ دخولها إلى سوريا في 2014 قدمت الولايات المتحدة للقوات الكردية دعماً كبيراً في إطار جهود محاربة “داعش”، ما ساعد على التصدي لنفوذ التنظيم في سوريا والعراق.
لكن مع إقرار خطط الانسحاب، لم يعد مستقبل هذه الشراكة العسكرية في مأمن.
ووسط تقلص الدعم الجوي واللوجستي، وزيادة الضغوط من تركيا ودمشق، تجد “قسد” نفسها أمام خيارات صعبة قد تتطلب إعادة تقييم استراتيجياتها العسكرية والسياسية، بل وحتى تحالفاتها الدولية.
وفي رد على أسئلة لـ”الشرق”، اعتبر المكتب الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية، أن انسحاب القوات الأميركية قد يسمح لـ”داعش” وجماعات متشددة أخرى بإعادة بناء قوتها في المناطق التي خرجت عن سيطرة هذه التنظيمات.
ولم يستبعد المكتب الإعلامي لـ”قسد”، أن تسعى هذه الجماعات لاستغلال الفراغ الأمني بهدف إعادة تنظيم صفوفها، وهو ما من شأنه أن “يعيد البلاد إلى مرحلة من الفوضى تشبه ما كانت عليه في 2014″، مشيراً إلى أن “قوات سوريا الديمقراطية” لا تزال تتوقع تصعيداً من الجماعات المتشددة.
وقال المكتب إن “قسد” وضعت خططاً بديلة للتعامل مع هذا الفراغ الأمني المحتمل، تركز على تعزيز التنسيق مع القوى المحلية في المنطقة، بالإضافة إلى الاستفادة من الدعم اللوجستي والتدريب المستمر من قبل الدول الأوروبية الملتزمة بـ”مكافحة الإرهاب”، بينما ستعمل في الوقت نفسه على تعزيز قدراتها الدفاعية بشكل مستقل لتأمين حدودها.
وبشأن التفاوض مع الحكومة السورية الجديدة، أكد المكتب أن قوات سوريا الديمقراطية مستمرة في الحوار مع دمشق وأن انسحاب القوات الأميركية لن يؤثر على هذا المسار التفاوضي في الوقت الراهن، مضيفاً أن “قسد” تسعى لتحقيق انتقال سياسي سلمي و”حل شامل” يعترف بحقوق الشعب الكردي ويضمن استقرار البلاد بالكامل.
وفيما يخص العلاقات مع تركيا ودول الجوار، أوضح أن “قسد” تتابع عن كثب التوترات المتزايدة مع أنقرة التي تواصل تهديداتها ضد المنطقة، وأضاف أنه “مع الانسحاب الأميركي المحتمل من المتوقع أن تكون قوات سوريا الديمقراطية أكثر عرضة للهجمات من قبل القوات التركية والفصائل الموالية لها”، مؤكداً أن “قسد” مستعدة لمواجهة أي تحديات أمنية.
وعلى الصعيد الدولي، أعرب المكتب الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية عن قلقه من انعدام الدعم الدولي المستمر في حال تراجع الوجود الأميركي في سوريا، مشيراً إلى أن “قسد” تتطلع إلى دعم أكبر من قبل التحالف الدولي، بما في ذلك من دول مثل فرنسا وبريطانيا، للحفاظ على الاستقرار ومنع عودة “الإرهاب” إلى المنطقة.
انسحاب “متوقع
من جهته، يرى المحلل العسكري السوري العقيد أحمد حمادة، أن انسحاب القوات الأميركية أمر متوقع مع بدء ولاية رئاسية جديدة لترمب، الذي كان قد أعلن عن خطط الانسحاب خلال ولايته الأولى.
واعتبر حمادة انسحاب القوات الأميركية بمثابة فقدان “الغطاء العسكري والسياسي” بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية، موضحاً أن الولايات المتحدة كانت تقدم العديد من أنواع الدعم لقسد، بدءاً من الدعم الجوي واللوجستي وصولاً إلى تقديم المعلومات الاستخباراتية والمساعدة العسكرية المتقدمة.
ورأى أن هذا الدعم كان بمثابة سترة واقية لـ”قسد” في مواجهة التحديات العسكرية التي كانت تواجهها، خصوصاً من جانب تنظيم “داعش” والفصائل المسلحة الأخرى، مشيراً إلى أنه في “غياب هذا الدعم، ستواجه قوات سوريا الديمقراطية تحديات جسيمة، إذ ستصبح أكثر عرضة للخطر، بسبب افتقارها للدعم الجوي واللوجستي الذي كانت تعتمد عليه بشكل أساسي”.
الاستفادة من التناقضات الدولية
ولا يرى المحلل العسكري السوري العقيد أحمد حمادة، أن الإدارة السورية الجديدة بحاجة إلى تدخل عسكري من تركيا. ومع ذلك، قد تسعى دمشق إلى الاستفادة من التناقضات الموجودة في السياسة الإقليمية، لا سيما في العلاقة بين تركيا و”قسد”، فبينما تعتبر أنقرة قوات سوريا الديمقراطية امتداداً لحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تصنفه في “قوائم الإرهاب”، هناك أيضاً مصالح مشتركة بين الدولة السورية وتركيا في محاربة “الإرهاب” وتنظيم “داعش”.
وفي ظل هذه التوترات، قال حمادة لـ”الشرق”، إن تركيا قد تزود سوريا بدعم لوجستي واستخباراتي، وكذلك ببعض الأسلحة التي تحتاجها لمواصلة المعركة شرق الفرات.
وتابع: “هذه الخطوات ربما تكون حاسمة في دعم العمليات العسكرية المقبلة، خاصة أن المعركة شرق الفرات ستكون مصيرية بالنسبة لمستقبل المنطقة والشعب السوري”.
قسد والمفاوضات
أما فيما يتعلق بمستقبل العلاقة بين “قسد” ودمشق، يعتقد حمادة أن “قسد” كانت ترفض المشاركة في عملية وطنية شاملة تضمن اندماجها في وزارة الدفاع السورية، إذ اعترضت على مطالب “فوق وطنية”، ما شكل عائقاً أمام التوافق بينها وبين الإدارة السورية الجديدة.
وفي الوقت نفسه، كانت “قسد” تسيطر على مناطق استراتيجية غنية بالموارد، مثل النفط والغاز والمياه والقمح، وهذه المناطق تعتبر أساسية لإعادة إعمار سوريا وعودة اللاجئين.
لكن مع الفقدان المحتمل للدعم الأميركي، قد تضطر “قوات سوريا الديمقراطية” إلى تغيير سلوكها أو حتى إعادة النظر في موقفها تجاه المشاركة في العملية السياسية السورية، رغم أنه لا يبدو أن هناك حلولاً قريبة في الأفق.
وقال حمادة إن الأسماء البارزة في “قسد” مثل مظلوم عبدي وإلهام أحمد “ليست سوى واجهات سياسية للتنظيمات الأم”، مثل حزب العمال الكردستاني (PKK) وحزب الاتحاد الديمقراطي(PYD).
وأضاف أن “هؤلاء القادة ينفذون سياسات هذه التنظيمات الموجودة في جبال قنديل، بينما قد تكون القيادة الحقيقية في أيدي عناصر أخرى تابعة لهذه الجماعات”.
الخيارات المتاحة
في ظل التحديات السياسية والعسكرية التي تواجه قوات سوريا الديمقراطية، اعتبر الكاتب والمحلل السياسي حسن نيفي، أن أمام “قسد” خيارين رئيسيين قد يحددان مصيرها في المستقبل القريب.
وقال نيفي إن الحكومة السورية تسعى إلى حل قضية “قسد” من خلال التفاوض، لكن هذا الخيار يواجه عقبات كبيرة، إذ تشترط “قوات سوريا الديمقراطية” أن تكون كتلة مستقلة داخل وزارة الدفاع، وهو ما ترفضه دمشق باعتباره تهديداً للسيادة. كما ترفض “قسد” التخلي عن تمركزها في المناطق الشرقية، وهو ما يتناقض مع رغبة الحكومة في استعادة كامل سيطرتها على الأراضي السورية.
إضافة إلى ذلك، تطالب “قسد” بحصة من عائدات النفط السوري، وهو ما يعكس توجهاً نحو مشروع فيدرالي ترفضه الحكومة السورية.
أما الخيار الثاني، بحسب نيفي، فهو الموقف التركي، الذي يرفض وجود أي كيان مستقل لـ”قسد” ويسعى للقضاء عليها تماماً، حيث تُسيطر تركيا على مناطق عدة شمال وشمال شرق سوريا، مثل إعزاز وعفرين، وتعتبر هذه المناطق ضمن مجال نفوذها.
وفي حال فشل “قسد” في التوصل إلى اتفاق مع الحكومة السورية، يرى نيفي أن أنقرة قد تتخذ خيار التصعيد العسكري، خاصة في ظل تراجع الدعم الأميركي لـ”قسد” تحت إدارة ترمب.
وفي هذا السياق، أشار إلى أن الانسحاب الأميركي المرتقب قد يعطي “ضوءاً أخضر” لتركيا لشن هجوم على “قسد”، ما سيزيد الضغط على هذه القوات في المفاوضات مع الحكومة السورية ويضعها في موقف ضعيف.
أما بالنسبة للنزاع بشأن النفط السوري، فيعتبر نيفي أن السيطرة على حقول النفط في المنطقة الشرقية تُمثل نقطة نزاع حاسمة بين “قسد” والحكومة السورية، إذ تعد هذه الحقول من أهم موارد الاقتصاد السوري، ولن تتخلى عنها الحكومة بسهولة، خصوصاً في ظل حاجتها الماسة لإعادة تأهيل الاقتصاد بعد سنوات من الحرب.
وقد تضطر “قسد”، وفقاً لنيفي، إلى تسليم هذه الحقول أو مواجهة تصعيد عسكري في حال محاولتها الاحتفاظ بها.