للفن أسبقية الوجود على العلم، فهو الظاهرة الإنسانية المتجذّرة في طبيعتنا منذ أقدم العصور. والاكتشافات الأثرية تكشف عن نزعة الإنسان المبكرة نحو التعبير الجمالي، حيث تعود أقدم الرسومات المعروفة إلى 99 ألف عام، حين ترك الإنسان بصماته الفنية على أشجار “الأوشار”.
ومنذ 35 ألف عام، بدأ يصنع الآلات الموسيقية، ثم قبل 30 ألف عام، كان قد زيّن الكهوف برسوماتٍ وتخطيطات مختلفة. بهذه الشواهد التاريخية، نتوصل إلى أن الفن ليس مجرد ترف أو زخرفة للحياة، بقدر ماهو عنصر أساسي في التجربة الإنسانية.
تأخذنا أستاذة علم النفس في كلية بوسطن في الولايات المتحدة، إلين وينر، في كتابها “كيف يعمل الفن، بحث سيكولوجي”، الصادر عن دار معنى (2023)، ترجمة بدر الدين مصطفى، في رحلة نحو جوهر التجربة الفنية، حيث لا يقتصر دور الفن على الإمتاع السمعي أو البصري، بل كان منذ أقدم العصور أداة للتواصل والتفسير، وجسراً بين العاطفة والفكر، وبين الفرد والمجتمع.
ما هو الفن؟
تعتبر وينر أن محاولة تعريف الفن، تضعنا في جدل لا ينتهي، وتحديداً في المجتمعات الحديثة، فهل يمكن اعتبار رسومات الأطفال أعمالاً فنية؟وهل من الموضوعية مقارنة “هاري بوتر” برواية “الحرب والسلم”؟ وهل تفقد اللوحة قيمتها بمجرد اكتشاف أنها مزيفة؟ هذه الأسئلة وغيرها، تشير إلى أن الفن ليس مجرد كيان مادي، بل فكرة تتجاوز المادة، ما يجعل تعريفه مسألة معقّدة ومفتوحة.
تذكر الكاتبة أن الفلاسفة قدّموا تعريفاتهم للفن، غير أنها لم تكن شاملة لكل الممارسات الفنية، وبالتالي يختلف الفهم من تعريف لآخر، فمثلاً إيمانويل كانط، عرّفه بأنه “نوع من التمثيل المنزّه عن الغرض الخارجي، وهو موجود فقط من أجل ذاته، على الرغم من أنه يمتلك القدرة على التواصل معنا وتحفيز عقولنا”.
أما الروائي الروسي تولستوي، فعرّف الفن بأنه “نوع من التعبير عن المشاعر”. في حين عرّفه كلايف بيل بأنه “شكل دال، مجموعات تمثيلية من الخطوط والألوان والأشكال، تفضي إلى توليد العاطفة الجمالية”.
ليس مجرد شيء نراه
في مقابل ذلك، لجأ علماء النفس إلى دراسة الطريقة التي يدرك بها الناس الفن. فالفيلسوف كلايف بيل، أشار إلى أن “الإنسان يشعر بوجود فرق بين الأعمال الفنية والأشياء العادية”، لكن هذا الإحساس يظل غامضاً وصعب التحديد.
هنا، تظهر فكرة أن الفن ليس مجرد شيء نراه، بل تجربة تدفعنا للتفكير والتساؤل. وبحسب ألفا نو، فإن الفن “يكشف لنا عن ذواتنا ويجبرنا على التفكير في طبيعة الأشياء من حولنا”.
فيما يرى خوسيه أورتيغا جاسيت، أن “الفن يكون فناً بقدر ما يكون غير حقيقي”. ونحن “لا نستمتع بصورة تشارلز الخامس في لوحة تيتيان، كما لو كانت صورة فوتوغرافية، بل كتجربة فنية منفصلة عن الواقع”.
الفن والعاطفة
يرتبط الفن ارتباطاً وثيقاً بالعاطفة، وكما يراه تولستوي، هو وسيلة لنقل المشاعر من شخص إلى آخر، وهي الفكرة ذاتها التي أكدها مارك روثكو حين قال إنه يهتم بالتعبير عن المشاعر الإنسانية العميقة مثل المأساة والنشوة والعذاب.
هذه العلاقة بين الفن والعاطفة تطرح سؤالاً جوهرياً: لماذا ننجذب إلى الفنون التي تثير فينا مشاعر الحزن، رغم أننا نحاول تجنبه في حياتنا اليومية؟
ربما يكمن الجواب في طبيعة الفن ذاته. فعندما نشاهد لوحة، أو نقرأ قصيدة، أو نستمع إلى موسيقى حزينة، نشعر بأننا جزء من تجربة إنسانية عميقة تتجاوز حدود الزمان والمكان. ولأن المشاعر الإنسانية الجوهرية مثل المأساة والعذاب، رغم قسوتها، هي التي تجعلنا أكثر وعياً بذواتنا وأكثر ارتباطًا بالآخرين.
في الحياة الواقعية، فإن الحزن يربك ويؤلم، لكنه في الفن يصبح تجربة تأملية أكثر مما هي تجربة تهدد الاستقرار النفسي، هذا ما تحدث عنه أرسطو عندما قال “إن التراجيديا تمنحنا التطهير”، فالفن يسمح لنا أن نعيش الحزن من مسافة آمنة، نحسّه دون أن يغرقنا، نختبره دون أن يدمّرنا.
التجريد والمشاعر
إذا كان التجريد مجموعة خطوط ألوان وحركات غير متناسقة، ضربات فرشاة ولطخات ألوان ومنحنيات وتعرّجات، فكيف يمكنها أن تعبّر عن مشاعرنا؟
من السهل أن نفهم الحزن في لوحة تصوّر شخصاً يبكي، لكن بالنسبة للألوان والخطوط، فهناك صعوبة في فهم ذلك الجميع ليسوا على مستوى واحد من الوعي الفني، كي يفهموا ما تعنيه لوحة تجريدية، وماذا قد تثير فيهم من مشاعر، لكنها في كل الأحوال، قادرة على أن تثير السؤال حول ماهيتها.
وما بين التجريد وغيره، يبرز الجدل حول الأحكام الجمالية على الأعمال الفنية، وقدرتها على الجذب والتأثير، على اختلاف أساليب التعامل الفني.
فالناس يتصرفون كما لو أن الجمال خاصية ملازمة للأشياء، ويتوقعون أن يوافقهم الآخرون على أحكامهم الجمالية، هكذا يرى كانط في تفسيره لمزاج الناس في التعامل مع ما يرونه جميلاً، في حين يرى آخرون أن الجمال مسألة ذوق شخصي.
الفيلسوف الأميركي نيلسون غودمان، دعم فكرة أن إدراكنا للعمل الفني يختلف عندما نعتبره فناً. بهذا المعنى، لا تكمن القيمة الفنية فقط في الشيء ذاته، بل في كيفية إدراكنا له وطريقة تفاعل أدمغتنا معه.
غير أن التفضيلات الجمالية بدورها، ليست ثابتة. فقد طرح جيمس كاتينج نظرية مفادها أن “الإلفة تزيد من تقديرنا للأعمال الفنية، وكلما تعرضنا لعمل فني أكثر، زاد إعجابنا به”. وهذا ما قد يفسر سهولة النظر إلى لوحة واقعية تعبّر عن مشهد مفهوم، وبين النظر إلى لوحة تجريدية يصعب تفسيرها من قِبل البعض.
قيمة الأعمال الفنية
تؤثر نظرتنا للعمل الفني بناءً على ما نعرفه عن الجهد الذي يقدّمه الفنان، في مقابل إنتاج اللوحة التي نشاهدها ونقف أمامها في متحف أو معرض ما، كذلك فإن وسائل التواصل الحديثة، أصبحت تقدّم لنا وبسهولة، كواليس الأعمال الفنية وطريقة إنتاجها من قِبل الفنان، من الحركة الأولى على السطح الأبيض وحتى آخر لمسة.
هذه المعرفة تزيد من قيمة العمل لدينا، وربما تجعلنا في حالة انبهار وإعجاب شديدين، وهو ما يمنحه أهمية تجعله مفضلاً أكثر من غيره. كذلك فإن معرفتنا بالجهد الحقيقي للفنان، تجعل أعماله الأصلية أهم من نسخها، كما يتفق الفيلسوف دينيس دوتون، أن قيمة الأعمال الفنية تتحدّد جزئياً بناءً على الجهد والمهارة المطلوبة في إنشائها.
أفق للتأمل
نتوصل من خلال إلين وينر وبحثها، إلى أن الفن ليس مجرد وسيلة للمتعة البصرية أو السمعية، ومن خلال الملاحظة والتأمل المستمر، ندرك أنه يجسد الإدراك، يوقظ العاطفة، ويحفّز الفكر، ما يجعله أداة قوية لفهم الذات والعالم. سواء كان غايته إثارة المشاعر، أو تعزيز التأمل الذاتي، أو تقديم لحظة من الجمال والانسجام.
لهذا، يرى كلود ليفي شتراوس، أن الفن ليس مجرد انعكاس للعالم، بل هو شكل متفوّق من أشكال المعرفة، يتجاوز العلم أحياناً في ملامسته لجوانب من التجربة البشرية، لا يمكن للعقلانية الصرفة الوصول إليها.
فالفنون البدائية والأساطير، قد تبدو للبعض تعبيرات عشوائية، لكنها تحمل في طياتها معرفة ضمنية تعكس رؤية الإنسان للعالم.