أوفدت صحيفة “أليغيثروس لوغوس” اليونانية عام 1926، الفيلسوف اليوناني الكبير نيكوس كازنتزاكي، المُرشّح لجائزة نوبل 1956 (لم يفزّ بها وذهبت إلى الروائي الفرنسي ألبير كامو) إلى فلسطين، لتغطية احتفالات الفصح، ونشرت مشاهداته في الصحف اليونانية، التي اعتبرها بعض النقّاد “أخطر وثيقة ضد الصهيونية يكتبها روائي ومفكّر عالمي في أوائل القرن العشرين”.
بعدها صدر كتابه “رحلة إلى فلسطين”، ترجمة منية سمارة ومحمد الظاهر”، وهو كتاب ينتمي إلى أدب الرحلات، بلغة فلسفية وروحية عميقة، وأسلوب سهل، لم يكن الكاتب فيه متحيّزاً للطرف العربي أو اليهودي، بل كان كعادته، يستشفّ الكامن وراء الواقع، بسبب تربيته الروحية، يمكن القول عنها صوفية، وهو صاحب كتاب “تصوّف: منقذو الآلهة”، ويقول فيه جملته الشهيرة: “أنا حرّ، أنا سعيد، هكذا لا أخشى أحداً”.
اشتهر كازانتزاكي (1883-1957) بأعماله الأدبية التي تشمل “زوربا اليوناني” و”تقرير إلى غريكو” و”الإغراء الأخير للمسيح”. خلال حياته، كان يسافر باستمرار إلى أنحاء أوروبا والاتحاد السوفييتي، ويكتب المقالات ويجري المقابلات ويلقي المحاضرات ويصنع الأفلام.
ومثل العديد من المثقفين خلال تلك الفترة، كان مهتماً بالاشتراكية والشيوعية، وزار الاتحاد السوفييتي لفترات طويلة، بدءاً من عام 1925.
يكشف كتاب “الرحلة إلى فلسطين”، “الحسّ النبوئي في نظرة الكاتب لهذه البلاد، وهو يقول عن الروح اليهودية “إنها تنوي قهر الأرض وجعل كل الشعوب تابعة لإيقاعها”.
يقول عن رحلته إلى فلسطين:”عندما وصلت إلى المزرعة العربية، استقبلني الفلاحون بكرمهم المعتاد. كانت الأرض تمتد أمامنا، مزروعة بالقمح والشعير، وتحيط بها أشجار الزيتون والتين. رأيتُ في أعينهم حباً عميقاً لهذه الأرض التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، وارتباطاً روحياً يتجاوز مجرد العمل اليومي. لكني شعرت أيضاً بثقل الزمن والتحديات التي يواجهونها في سبيل الحفاظ على تراثهم وثقافتهم.”
يُشيد في زيارته إلى المزارع التعاونية الإسرائيلية، بنظام الزراعة الحديث (مقارنة بالمزارع العربية)، وبتفاني اليهود في زراعة الأرض وتحويل الأرض البور إلى مزارع، ويقول: “رأيت في هؤلاء الشباب اليهود قوّة وحيوية جديدة، كأنهم يولدون من جديد على هذه الأرض التي طالما حلموا بها. إنهم يعملون بجدّ، يتحدّون الطبيعة القاسية، ويصممون على بناء مستقبلهم بأيديهم. لكن خلف هذه القوّة، شعرت بثقل التاريخ والمصير التراجيدي الذي يلاحقهم، وكأنّهم يحملون على أكتافهم عبء قرون من المعاناة والاضطهاد”.
يشيد بالتعاونيات الزراعية كانعكاس للمشروعات الاشتراكية- الشيوعية، التي أعجبته بشدّة في الاتحاد السوفييتي؛ فهو عاش هناك وكانت نشأته اشتراكية ثورية رسمت حياته وأفكاره يومذاك. لذلك، فهو أحياناً يذمّ بعض تصرفات اليهود والمسلمين قياساً للمجتمع المِثالي والإيديولوجي السوفيياتي، وكأنّها أوصاف “عنصرية” من لدنه، لكن كازنتزاكي غادر لاحقاً تلك الإيديولوجية أسوة بسواه من الكُتّاب والفنانين.
حلم الصهيونية
كان كازنتزاكي واعياً للتعقيدات السياسية والاجتماعية التي تغوّلت راهناً في المنطقة، ويقول في هذا الصدد “إن الحلم الصهيوني، سينتهي بشكل تراجيدي”، وكان ينظر إلى الشتات كحتمية تاريخية، شكلّت الجنس العبري عكس مشيئته ورغبته.. “ولأنني أحبّ اليهود، آمل أن يتمكّن العرب، عاجلاً أم آجلاً من طردكم من هنا، وأن يعيدوا تشتيتكم في هذا العالم”.
يقول مُجادلاً الفتاة جوديت المُتعصّبة “الحركة الصهيونية الحديثة، أيضاً، ليست سوى قناع، يلبسه قدركم المُتجهّم، ليخدعكم إلى ما لا نهاية، ولهذا فأنا لا أخاف الصهيونية.. كيف يستطيع خمسة عشر مليوناً من اليهود أن يحشروا أنفسهم هنا؟ لن تجدوا الأمن هنا، فخلفكم – وهذا هو الذي يجب ألا تنسوه أبداً – جموع من العرب السمر الأشدّاء المتحمّسين”.
كازنتزاكي في القدس
يصف كازنتزاكي رحلته إلى فلسطين على متن باخرة من اليونان إلى هناك، وكيف كان المؤمنون اليونانيون متحمسين لزيارة فلسطين، يهتّم الكاتب دائماً بأفعال وعواطف الناس نتيجة تفاعلهم مع المكان، المسبّب لتأجيج أحاسيسهم.
يقول: “كنت على عجلة من أمري، وأنا أشقّ طريقي عبر شوارع القدس المعتمة المسقوفة. كان وميض عيون العبريين يومي بالتهكّم، والقلق، والتشهي والحسد. أمّا المسلمون، فقد كانوا هادئين، مؤمنين بعمق وقناعة برعاية الله، وهم يرمقونك بنظرات لا أبالية محايدة”.
يضيف: “صباح يوم السبت المُقدّس، كنت أقفُ عند مدخل القبر المُقدّس، وكانت كنيسة القيامة تطنّ كخلية نحل عظيمة، وكان المسيحيون العرب الغائمو العيون، المنفعلون يطلقون الصيحات، يرتدون الطرابيش والجلابيب الملونة، كما يبدو هناك حضور للأرمن والأميركيين والروس والأحباش وسواهم؛ جاء الكلّ للاحتفال، وكأن روحاً رهيبة لا مرئية قد حلّت فجأة في هذا الحشد المرتعش المتشنج”.
يضيف: “رقعة المرمر العظيمة، التي تغطي قطعة الأرض التي مُدّد عليها السيد المسيح بعد قيامته عن الصليب، كانت قد مُسحت بفعل القُبل (توصيف جسدي عاطفي روحاني، يلقي تبعاته على المكان)، فمنذ قرون عديدة وهذه الحشود البشرية تنحني فوقها، تقبلها وتسحتها. يقول بوذا :”لو مرّت يومياً، خلال ألف سنة ريشة من ريش الطاووس على جبل غرانيتي، فإن هذا الجبل سيحتّ ويختفي”.
مسجد الخليفة عمر- قبّة الصخرة
المؤمن وحده، هو الذي يستطيع أن يميّز وأن يوائم بين هذه الأشكال الصعبة غير المنسجمة، ويوحّد بين الرسالة العظيمة والمعاني الروحية في قلبه. “أرى مسجد عمر، يسمو أمامي تحت أشعة الشمس مثل نافورة منحوتة من الحجارة النادرة، ترقى إلى السماء. كانت الأحرف العربية مجدولة كالأزهار، تكرّس الحكم والمواعظ القرآنية.. وأنا مفتون مسحور، هذه أرضي خصيصاً لروحي وجسدي”.
يصف بكاء العبريين قائلاً: “كان هناك نحو 50 مُتعبداً، كانوا يحملون العهد القديم في أيديهم ويستندون إلى الجدار، وهم ينوحون ويعوّلون، استمروا بالتوافد وتقبيل الجدران وتمريغ وجوهم بالحجارة وإطلاق التنهدات العميقة”.. وهذا ما يحصل راهناً بالضبط عند حائط “المبكى” .
يكتب كازنتزاكي عن بساتين الرمان المٌزهرة وأشجار الموز والتين والتوت في أريحا، وكلّها مُحاطة بسياج من أشجار النخيل الطويلة الرشيقة، وكذلك البساتين في حيفا، وفي الجنوب، في مدينة إبراهيم الخليل القديمة، هنا تشعر بإلفة وطمأنينة الأرض وهي تستقبل محراث الإنسان. يشي ذلك كلّه، بتعلّق الفلسطيني بأرضه وتراثه، وبأنّه باقٍ لن يرحل”.
شكّل الكتاب النواة لسيرته الذاتية “تقرير إلى غريكو”، نقله إلى العربية ممدوح عدوان، بلغة شاعرية ودقيقة، وكأنه مكتوب بأجمل العربية، وطبع مرات عدّة.
الأرض المُقدّسة
كانت فلسطين ولا تزال الأرض “المُقدّسة” في المخيال الأوروبي، وكان “الحجّ” إليها من مبررات الحروب الصليبية يومذاك. هكذا، تم تجييش العاطفة الأوروبية المسيحية، لاحتلال فلسطين والحفاظ على كنيسة “المهد”، وموطن السيد المسيح.
أمّا في السردية التوراتية، فهي الأرض “الموعودة”، وهذا زعم لا سند له عارضه جلّ الباحثين اليهود، ومنهم عالِم الآثار والأكاديمي، إسرائيل فنكلشتاين، الذي يعمل أستاذاً لعلم آثار العصر البرونزي والحديدي في جامعة تل أبيب، وهو مَن انتقد تفسير الاكتشافات الأثرية وجعلها تتطابق مع الروايات التوراتية قسراً، وشارك مع نيل أشر سيلبرمان في تأليف كتاب “التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها”.