هناك حقيقتان تسترعيان الانتباه، الأولى أن أنجيلا ميركل أوّل امرأة تتقلد الحكم في ألمانيا. والثانية أنها نشأت وأمضت 35 سنة من حياتها في ما كان يسمى بألمانيا الشرقية، ذات النظام السياسي الشيوعي.
من هنا فإن كتابها الذي يحمل عنوان “الحرية”، تحلى بأفق انتظار عالمي، ما جعله يصدر بثلاثين لغة في دول عدّة، ويضم قرابة سبعمائة صفحة.
كان مُتوقعاً أن يعُجّ الكتاب بالبوح والاعترافات وتصفية الحسابات والأخبار غير المنشورة، حول قضايا عدّة، من بينها اختياراتها السياسية طيلة الستة عشر عاماً، التي قضتها في أعلى هرم للسلطة ما بين 2005 و2021، قبل أن تستقيل من تسيير أمور الدولة بمحض إرادتها.
وثانياً، لقاءات المستشارة مع زعماء العالم، في أميركا وروسيا والصين وأوروبا وغيرها، ورأيها الصريح بسياساتهم، وملابسات العلاقات التي ربطتها معهم، خلال الأزمات العالمية الكبرى.
لكن ما توقّفت عنده مراجعات الصحف الألمانية والعالمية، هو خيبة الأمل حول محتوى الكتاب. إذ جاء في صحيفة “سودوتش زيتونغ” على لسان ناقدها الأدبي: أن “الحرية” كُتب بأسلوب جامدٍ محايد، يشي بمراقبة للذات وللقلم من كل انفلات”.
أضاف: “هذا الكتاب هو انعكاس لمؤلفته، كتبت مذكراتها بالرصانة نفسها التي كانت تمارس بها السياسة”، منتقداً “الأسلوب غير الأنيق والجاف، حيث تُقيّد نفسها تقريباً وبشكل مستمر، عندما تُصدر أحكاماً محدّدة”.
كتابان في كتاب
القسم الأوّل من الكتاب، هو عبارة عن سيرة ذاتية خاصّة، تبدأ منذ ولادتها عام 1954 وحتى 1990، تاريخ انهيار جدار برلين، ودخولها مضمار السياسة في صفوف الحزب الديمقراطي المسيحي.
أما القسم الثاني، فجاء على شكل مذكرات، من دون تشويق أو إثارة. لكنه تضمّن أفكار ميركل، بخصوص مسيرتها السياسية، ومبادئها وتصوّراتها للتحديات التي واجهتها في معمعان السياسة.
“نصّ غريب”
استأجرت ميركل شقّة في برلين، قضت فيها مدة زمنية لكتابة “الحرية”، برفقة مستشارتها السياسية الوفية لها، بيتي بومان، ولم تلجأ لخدمات كاتب محترف، ما قد يؤثر في مضمون ما تودّ قوله.
هذا الأمر ملأها بالفخر، بحسب مجلة “دير شبيغل”، التي وصفت الكتاب بأنه “نصّ غريب من نوعه، نصّ متفائل، موجّه خصيصاً إلى ألمانيا، قدّمت فيه ميركل سيرتها الذاتية، وسمّتها “الحرية”، في حين كان ينبغي أن تسمى “الجبن”، لأن البصمة التي تركتها على البلاد لأكثر من 16 عاماً، هي بصمة الإحباط المتخفّي في زيّ البراغماتية”.
هذا النعت الأخير، برهنت عليه أنجيلا ميركل في مقدّمة الكتاب قائلة: “سأذكر اليوم ما يعتبر خطأ، وأدافع عما يعتبر صواباً”.
اللامبالاة وراء جدار برلين
توقفت كتابات وتحليلات عدّة عند حكاية أنجيلا ميركل في القسم الأول، عن طفولتها السعيدة في كنف أمها المعلمة، ووالدها القسّ الذي كان يمارس عمله، كي يملأ فراغاً ويعوّض النقص من حيث رجال الدين، تحت نظام شيوعي مضاد للتديّن.
تقول: “والديّ بذلا كل ما في وسعهما لتوفير مساحات حماية لي ولإخوتي، سأكون ممتنّة لهما دائماً”.
لم يفُت أنجيلا ميركل الحديث عن كون العيش في ألمانيا الشيوعية آنذاك، كان يعني “الحياة باستمرار على حافة الهاوية. كان كل شيء يمكن أن يتغيّر خلال ثوانٍ، حالما يتم تجاوز الحدود السياسية”.
ترى المستشارة الألمانية السابقة، “أن ما جنّبها الخطر، هو شخصيتها التصالحية ونهجها العملي”، وتستعيد اللحظة التي ضُبطت فيها، عندما كانت طالبة، وهي تنجز تمريناً في الفيزياء، بدَل الاستماع إلى تكوين إجباري حول الماركسية اللينينية، فطُردت من المدرج وقطعت المسافة نحو الخارج في صمتٍ مطبق.
تقول عن تلك الواقعة: “لاحظت أن ركبتي كانتا ترتجفان، كان الأمر مهيناً”. ومع ذلك، تشهد بأن “هذه الدولة، وعلى الرغم من كل شيء، لم تنجح في حرماني مما كان يجعلني أعيش حياتي وأحاسيسي الشخصية، ألا وهي اللامبالاة”.
دروس السياسة
ضمّت أنجيلا ميركل في القسم الثاني من كتابها، خلاصة نشاطها السياسي الذي استمرّ 31 عاماً، وتضمّن خيارات سياسية واضحة، داخل حزب مسيحي الهوى، رأسمالي التوجه، يتبع قيم السوق، ويحافظ على مستوى المجتمع والأخلاق.
نجحت ميركل في الوصول إلى سدّة الرئاسة في الحزب في وقت قصير، ومن ثم رئاسة الدولة الألمانية، لأنها كانت تحمل “بطاقة الاتصال السياسية الفريدة، التي تتجلى في قدرتها على الرؤية الثاقبة، خلال مواجهاتها مع السياسيين المنتمين إلى المعارضة؛ رؤية تعتمد على فهم المناطق الفكرية والأيديولوجية التي تحركهم”، بحسب صحيفة الغارديان البريطانية.
هذا الفهم الواسع لمكوّنات الحياة السياسية في ألمانيا، ساعدها في إدارة أزمات كبرى، من قبيل الأزمة المالية العالمية سنة 2008، التي كانت تنذر بالإفلاس، وتفكك منطقة اليورو؛ وسماحها بمرور أكثر من مليون مهاجر، بل مليون نازح إلى حدود أوروبا عام 2015، وإن جرّ ذلك عليها سخطاً أوروبياً، لكنها أسعدت مهاجرين عرباً ومسلمين، فأطلقوا عليها تحبباً لقب “ماما ميركل”.
خرجت ميركل من الأزمات سالمة، لكنها أثارت انتقادات كثيرة من لدن الصحافة الألمانية، التي لم تستسغ أن يخلو كتابها من أي إشارة إلى ندم أو نقد ذاتي حول ممارستها السياسية.
كتبت بهذا الصدد صحيفة “فرانكفورتر ألجماين تسايتونج” : “لا تشعر ميركل بأي ندم [..] عندما تصف مشوارها الصعب نحو القمّة، هناك القليل من النقد الذاتي. إن ما قد تندم عليه ميركل ليس موجوداً إطلاقاً في الكتاب”..
بوتين.. اليقظ دائماً
كتبت ميركل عن جورج دبليو بوش، وحرب العراق، ورأت “أن حربه هذه كانت خطأ، شنّها على أساس معتقدات خاطئة”.
وكتبت عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أنه كان يتقن اللغة الألمانية، الأمر الذي سهّل محادثاتهما. ووصفته بأنه “رجل يقظ على الدوام، ويخشى التعرّض لمعاملة غير مرضية، ومستعد دائماً لتوجيه اللكمات”.
كما تصف اللقاء الأوّل بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، بأنه “لم يترك لديها شعوراً جيداً”. وتصفه بأنه “يتصرّف مثل رجل الأعمال العقاري، هدفه الوحيد الحصول على قطعة أرض”، بحسب التلفزيون السويسري.
نقتطف من الموقع نفسه ما كتبته ميركل عن لقائها المميز مع البابا فرانسيس، عندما سألته: كيف تتعامل مع أي شخص مهم لديه آراء مختلفة؟ فأجابها البابا: “أجعله ينحني، أجعله ينحني، مع توخي الحيطة في ذات الوقت من أن ينكسر”.
السترات الملوّنة
ما أثار انتباه الكثيرين بالنسبة لأقوى امرأة في العالم، هو طريقة تعاملها الهادئة التي اشتهرت بها، وفسّرت ذلك بأنها، كما هو الحال في كثير من الأحيان، تلتزم بالقاعدة الأرستقراطية الإنجليزية ومفادها “لا تشرح أبداً، لا تشتكي أبداً”.
وحول زيّها الأبدي المؤلف من سترات طويلة وملوّنة، قالت: “يعود تفضيلي للسترات الملوّنة إلى تجربتي الأصلية في ألمانيا الشرقية، التي غالباً ما كنت أفتقد فيها الألوان الزاهية في الحياة اليومية”.