يحتفل أمازيغ العالم، الذين يمتدّ نطاقهم الجغرافي من واحة سيوة في مصر، إلى جزر الكناري في إسبانيا، مروراً بتونس وليبيا والجزائر والمغرب وموريتانا والنيجر ومالي، برأس السنة الأمازيغية 2975، في 12 يناير.
ولئن بلغ التقويم الميلادي عند المسيحيين 2025 سنة، والتقويم الهجري عند المسلمين 1446 سنة، فقد بلغ التقويم الأمازيغي سنته الخامسة والسبعين بعد القرن التاسع والعشرين، أي بزيادة تسعة قرون ونصف عن الأوّل، وخمسة عشر قرناً وربعاً عن الثاني، وهو بهذا يعدّ من أقدم التقويمات التي عرفتها البشرية.
أسطورة العنزة
تتوفر الميثولوجيا الأمازيغية، على أسطورة تفسّر وجود 31 يوماً في شهر يناير، في مقابل 29 يوماً فقط في شهر فبراير، ويسمى في التقويم الأمازيغي “فورار”، بأن عنزة حمقاء استعجلت نهاية شهر يناير، فخرجت تحتفل بنهاية ثلوجه وعواصفه، فطلب يناير من “فورار” أن يعيره يوماً منه ليؤدّب العنزة، فاستغل ذلك اليوم في إطلاق “أحواله” الباردة والمرعدة، بما قضى على العنزة التي تجرّأت عليه.
جذور تاريخية
يتأرجح التأصيل التاريخي للسنة الأمازيغية، بين انتصار الملك الأمازيغي “شيشناق” (950- 929) قبل الميلاد، على الفرعون المصري رمسيس الثالث، بما أسس لحكم 11 فرعوناً أمازيغياً لمصر، وبين البعد الزراعي للتقويم، أي بداية موسم حراثة الأرض لدى الأمازيغ، ومنه سمّيت السنة الأمازيغية بالسنة الفلاحية.
يقول أستاذ الفلسفة في جامعة الجزائر جمال الدين بغورة لـ “الشرق”: “إن ربط بداية التقويم الأمازيغي باعتلاء شيشناق لسدّة الحكم في مصر، معطى حديث الاعتماد، جاء ثمرة لنضالات النخب الأمازيغية، من أجل الاعتراف بالهوية والثقافة الأمازيغيتين، في مقابل إقرار دساتير دول شمال أفريقيا، في مقدّمها الجزائر، بالعربية هوية وحيدة لتلك الدول، بعد استقلالاتها الوطنية، فكانوا يحتاجون إلى واقعة تاريخية تدعم مقولتهم، حتى وإن كانت مثيرة للجدل التاريخي، إذ هناك من يشكّك في حدوثها أصلاً، أو ينفي تزامنها مع رأس السنة الأمازيغية على الأقل”.
يضيف: “أما إذا راعينا المخيال الأمازيغي، فإننا نجد الارتباط بالأرض وبالشجرة، وخصوصاً شجرة الزيتون، متجذّراً وله تجليات كثيرة في تفكير وسلوك وآداب وفنون وطقوس الإنسان الأمازيغي. وعليه فإن الميل إلى البعد الفلاحي في تأصيل هذا التقويم، أقرب إلى المنطق، وأبعد عن التجاذبات التاريخية والسياسية”.
نضالات متراكمة
ظلت حكومات ما بعد الاستقلال الوطني في الجزائر (1962)، تتعامل مع اللغة الأمازيغية بحذر وتوجّس، ومع مطالبات مناضلي الهوية الأمازيغية بصفتها مخالفة للدستور، الذي يجعل من العربية لغة وطنية وحيدة، ما ضاعف من تلك المطالبات، حتى وقع الصدام الأوّل بين الطرفين، في إطار ما عرف بالربيع الأمازيغي عام 1980.
حملت أحداث الربيع الأمازيغي الحكومة، على تقبّل الهوية واللغة الأمازيغية تدريجياً، فأطلقت قناة إذاعية ناطقة بالأمازيغية عام 1986، ثم أنشأت “المحافظة السامية للأمازيغية” عام 1995، وهي هيئة تابعة لرئاسة الجمهورية مباشرة، وتعنى بترقية اللغة الأمازيغية وآدابها.
بعدها تمّ اعتماد تدريس اللغة الأمازيغية التي تملك أبجدية خاصة بها تسمى “التفيناغ” في بعض المحافظات عام 2003، وجرى إطلاق القناة الأمازيغية للتلفزيون الجزائري عام 2009، ثم الاعتراف بالأمازيغية ضمن روافد الهوية الوطنية في دستور 2016، ثم إقرار رأس السنة الأمازيغية يوماً وطنياً وعطلة مدفوعة الأجر عام 2018، وتمّ ترسيم اللغة الأمازيغية لغة وطنية، إلى جانب اللغة العربية ضمن دستور 2020.
“عشاء يناير”
يقول العم مولود (76 عاماً) من بلدية حرازة في محافظة برج بوعريريج، إن أسرته “تستعدّ لاحتفالات رأس السنة الأمازيغية، قبل أسبوع من كل عام، فنشتري التوابل والمكوّنات الخاصة بأطباق الاحتفال وعلى رأسها “الشرشم”، وهو غلي سبعة حبوب في الماء، منها القمح والفول والحمص والذرة، حتى يكون الموسم الفلاحي وفيراً”.
يضيف: “تقوم العائلة بطلاء البيت أو تنظيفه، حتى يكون عاماً خالياً من الأمراض، وبتجديد أواني الفخار، حتى يكون عاماً خالياً من الروتين، وتحنية أيادي الأطفال، وتهيئة ألبستهم التي تتوفر على الألوان الزاهية، حتى تكون علاقتهم بالفرح متجذّرة، أما الديوك البلدية، فتكون في طليعة ما يُذبح في “عشاء يناير”.
ويؤكد أن الطعام واللباس والأهازيج المرافقة للاحتفال، “هي وجه من أوجه الثقافة، ونحن بذلك نبرز هويتنا الثقافية الأمازيغية الجزائرية من جهة، ونعزّز تماسكنا الاجتماعي من جهة ثانية. وإنني أندهش ممن يعتبر ذلك منافياً للتعاليم الدينية الأخرى”.
مخيال مشترك
تختلف طقوس وتعابير الاحتفال من محافظة جزائرية إلى أخرى، بحسب طبيعة السكان، عرباً كانوا أم أمازيغ، لكنها كانت وما تزال معممة في المحافظات الثماني والخمسين؛ وتشترك فيها الأوساط الشعبية والحكومية معاً.
الكاتب والناشط إبراهيم تازاغارت، الذي يملك داراً لنشر الكتاب الأمازيغي، وكانت روايته “سالاس ونوجة” أوّل رواية مكتوبة باللغة الأمازيغية تترجم إلى العربية، يقول: “إنه من دواعي اشتراك الجزائريين عرباً وأمازيغ، في الاحتفال برأس السنة الأمازيغية، أنهم كانوا يرفضون الاحتفال برأس السنة الميلادية، خلال الاحتلال الفرنسي (1830. 1962)، حتى يتميزّوا عن الفرنسيين، إذ كانوا يسمونه “رأس عام النصارى”، وجعلوا الاحتفال برأس السنة الأمازيغية بديلاً له، وسمّوه “رأس عام العرب”، إذ كانت أدبيات الاحتلال الفرنسي تقسّم السكان، إلى نصارى وعرب، حتى وإن كانوا من الأمازيغ”.
ويشرح ذلك بأن بدايات السنة الأمازيغية، “ارتبطت بعلاقة الإنسان الأمازيغي بالأرض، وبعقله الفلاحي الصميم، وتكرّست بصفتها مظلة جامعة للجزائريين، خلال الاحتلال، حتى يسترجعوا أرضهم”.
تجليات ثقافية
حضرنا في بلدة آث خليفة، حفلاً شعبياً نظّمه تحالف الجمعيات المدنية في المنطقة، ضمّ معارض للحلي والمنتجات الزراعية، منها التين المجفّف وزيت الزيتون، واللباس الأمازيغي في مقدّمته البرنس، وجرى تنظيم مسابقات في أفضل لباس أمازيغي يرتديه الأطفال، وأفضل طبق شعبي، وأفضل حلويات تقليدية.
شهد الحفل جلسات توقيع لكتب باللغة الأمازيغية، ومعارض للصور والفن التشكيلي الذي يشتغل على رموز الثقافة الأمازيغية، وقراءات شعرية، بالإضافة إلى الموسيقى والغناء الأمازيغيين، اللذين بات لهما حضور عالمي، من خلال أصوات عدّة، منها لونيس آيت منغلات وإيدير، الذي ترجمت أغنيته “أبابا ينوفا”، وهي تحكي عن قساوة الشتاء في جبال الأمازيغ، إلى عشرات اللغات في العالم.
يقول الناشط الثقافي حكيم شرفي، “إن هذه التجليات الثقافية والأدبية في احتفالات يناير، هي تأكيد على أنه حان لنا أن نركز على ما هو أدبي وفني وجمالي، في الثقافة الأمازيغية، بعد عقود من الاكتفاء بما هو شفوي، إذ كانت تعاني فراغاً في ما يتعلق بما هو مكتوب، في ظل تهميشها والتقليل من قدراتها على الإبداع”.
يضيف: “أصبح هناك الكثير من كتب الشعر والسرد والقانون والفلسفة والإنسانيات باللغة الأمازيغية، وباتت لها دور نشر، وجوائز تحتفي بمنتوجها الأدبي والفكري، ومنها جائزة رئيس الجمهورية للأدب واللغة الأمازيغية التي تشرف عليها “المحافظة السامية للأمازيغية”، وهي تعمل على مدّ جسور بين آداب اللغتين الوطنيتين، من خلال الترجمة والتظاهرات الثقافية المشتركة”.