يحب السياسيون الكلام كثيراً على المنابر وأمام الميكروفونات، ويأخذ الكلام هنا معنى الخطابة والإدلاء بالتصريحات، يساعدهم في ذلك وسائل التواصل الحديثة، التي تسهّل عليهم مهامهم، وخصوصاً أنها تزدحم بالأخبار العاجلة على مدار اليوم.
لكن ما الهدف من كل هذا الهَوس بالقول؟ وهل لما يقولونه فائدة ترجى، كقول يروم التأثير في الأحداث العالمية، وتغيير أمور الناس نحو الأفضل؟
الجواب واضح بالنسبة للكاتب كليمان فيكتوروفيتش، الأكاديمي المحاضر في العلوم السياسية في جامعات باريس، والمختصّ بالبلاغة السياسية، التي أفرد لها كتاباً مهماً قبل سنوات. وهو إلى جانب ذلك، مُحلّل سياسي في القنوات الإخبارية “كنال” و “مونتي كارلو” و”فرانس إنفو”، وعلى قنوات “اليوتيوب”.
يوجز إجابته عن السؤال المطروح، بأن خطاب السياسيين الحاليين، هو مجرد كلام ينتمي إلى استراتيجية التواصل، كما يتعلمونها على أيدي مختصّين إعلاميين في مجال التواصل، من أجل سرد حكايات مُختلفة، لا يهمّ أن يُصدّقها الناس أو لا، بل الغرض منها أن تترك أثراً في أذهانهم، كما لا يهم إن كانت مبنية على أكاذيب، فهي قبل كل شيء إنشاء بلاغي محبوك بدقّة، يلعب بالكلمات والتعابير، ويعتمد على فن الإلقاء وتنميق الكلام، بتقنيات لغوية “ساحرة”.
إنه تحديداً ما معناه: شخص يتكلم من دون أن يكون لديه ما يقوله.
تفكيك الخطاب السياسي
بكثير من السخرية اللاذعة، خرج كتاب “فن قَول لا شيء”، عن دار لوسوي في سبتمبر 2024، في 168 صفحة مؤلفة من جزأين. الأوّل هو عبارة عن نصّ أدبي مسرحي، كتبه بالتعاون مع المخرج فردينان باربي، ويقوم بلعبه على خشبة المسرح بنفسه.
والجزء الثاني بعنوان “مقالات في تدمير اللغة”، يعرض فيه أكاذيب مُنتقاة من الأخبار الفرنسية والعالمية، على لسان رجال سياسة مشهورين، بين أبريل 2016 ومايو 2024.
يقدّم كتابه شارحاً: “قمت بتحليل التغيّرات التي طرأت على الخطاب السياسي في فرنسا، منذ أكثر من 15 عاماً حتى الآن، ورأيت أن الخطاب العام في السنوات الأخيرة اضطرب بسبب كثرة تداول تعابير جديدة مؤسفة”.
يعتبر الكاتب أن “المفاهيم التي كانت ذات يوم كثيفة المعنى ودقيقة المضمون، أُفرغت من معناها. وسيطرت الأكاذيب الفجّة من دون أن ينزعج منها مرتكبوها، وهي تتناقض مع الواقع لدرجة أنه لم يعد من الممكن حتى وصفها بـالأكاذيب، لأن الكذب يعني الرغبة في الإخفاء”.
مطرود بسبب شَعره
هذه الأكاذيب هي موضوع المسرحية، وتروي كيف ساهم مستشار إعلامي، في نجاح نائب برلماني في الوصول إلى سدّة الحكم، بفضل نصائحه في السلوك واللباس والتأنّق والخطابة، التي تؤثر في المجتمع السياسي وفي المواطنين والناخبين عموماً، أي كل ما له علاقة بالتواصل السياسي والاجتماعي والخطابي.
لكن هذا المستشار تعرّض للطرد من منصبه، بعد أن ارتكب “خطأ بسيطاً”، حين انتشر في وسائل الإعلام خبر عن ميزانية حلاقة الشعر المخصَصة له.
يقول في فصل بعنوان “بيجماليون” بعبارات ساخرة: ” شَعري هو الذي تسبّب بضياع منصبي كمستشار، نعم شَعري. إن صَرف مبلغ 13 ألف يورو لحلاقة شَعري على نفقة دافعي الضرائب، لن يغفروها لي. إنه مبلغ قليل تافه، قطرة في محيط الفواتير الرئاسية، لكنه السبب الذي جعل الرئيس يطردني”.
المُضحك هو أن أوّل مرحلة بدأ بها المستشار الإعلامي المطرود مهمّته، هي تلقين الرئيس أسرار الحلاقة المناسبة لطموحه، والأناقة الخفية التي تقرّبه من الجماهير، فلا يظهر فاحش الغنى، وفي الوقت نفسه لا تُبعده عن الدوائر العليا المتحكّمة بالسياسة.
هكذا قرّر الانتقام بتنظيم محاضرة، اختار أن يكشف فيها ما يجري وراء الكواليس، من الحِيل والمقالب والألاعيب التي استخدمها في وظيفته لكتابة خطاباته، والتكفّل بكل مراحل التواصل الخاصة به، من أجل الفوز بالسلطة.
نرى ذلك بالتفصيل في الصفحات الخمسين المخصّصة للمسرحية، ما يعرّفنا بأسلوب إلقائي حاد، مع قدرة فائقة على تحوير مقاصد الكلمات، حين تهدف إلى أسر الناس بقوة إيحائها، “فاللغة تعويذة” بحسب ما تقوله الشخصية في المسرحية.
ويبرّر لجوؤه إلى فضح الأمور “بأن الهدف هو إظهار مدى التطوّر الكارثي الذي وصل إليه التواصل السياسي، الذي باي يهدّد الآن ما نزال نسمّيه ديمقراطيتنا”.
ولاية دونالد ترمب الأولى
يحاول الكاتب أن يبرهن كيف شوّه السياسيون علاقتهم بالحقيقة، ويطلعنا على سجلّ من الصيغ المضادة للحقائق، التي نطقت بها مجموعة من الشخصيات في مواقع المسؤولية، خلال السنوات الأخيرة، في أميركا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والبرازيل.
ويُحدّد فيكتوروفيتش بداية التحوّل في الخطاب السياسي سنة 2014، مع وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة في الولايات المتحدة.
يحصي الكاتب أكثر من 30 ألف كذبة تفوّه بها ترمب خلال فترة ولايته الأولى. يقول في حوار عنه مع جريدة “ليست ريبيبليكان”: “إنه منفصل عن الواقع، إنه يكذب، ويقدّم خرافات وقصص وروايات. لا يوجد أدنى تلميح للحقيقة فيها، وهي مقَنّعة. في الولايات المتحدة، دخل النقاش عصر ما بعد الحقيقة. والأميركيون غير مبالين بالحقيقة والباطل، طالما أن الحالة تعجبهم”. (29/12/2024).
عصر ما بعد الحقيقة
هو عبارة عن سطو ونهب للغة، وإفراغ للكلمات من محتواها، ما يجعلها منفصلة عن الواقع، ولا تعكس الحقيقة كما يجب أن تُقال. ومن النصائح التي أسداها المستشار الإعلامي للرئيس قوله: “نحن لا نحاول أن ننجح في الانتخابات للدفاع عن الأفكار، بل نسعى لإيجاد الأفكار التي ستجعلنا ننتصر في الانتخابات”.
كما يقول في موقع آخر: “في الانتخابات، إذا قلت ما تريده بإنصاف وعن حق، فإنك تخاطر بإغضاب الناس، وهذا ترف لا يمكننا تحمّله”.
المقصود هو البحث عن السلطة، ولو استوجب ذلك الاحتفاظ بالحقيقة أو مداراتها، وعدم إظهار النوايا الحقيقية. الخطير في الأمر، أن هؤلاء السياسيين لا يُعاقَبون ولا يتابعون على اقتراف الكذب.
ما يؤسس لما سُمّي بعصر ما بعد الحقيقة، بحسب الكاتب، هو طغيان الشكل على الجوهر، والطريقة على المحتوى والمغزى. يقول: “عندما لا يتحمّل من يتفوّه بما يقوله مسؤولية قوله، وعندما لا تتحمّل الحكومة تبعات قراراتها وعواقبها، وعندما يمكن قول أي شيء بغض النظر عن ماهيته، عندها يمكن قول أي شيء، ويمكن أن يحدث أي شيء، حتى الأسوأ”.
تدريس الخطاب السياسي
إن أثر تدمير اللغة يذهب بعيداً، بحيث يصعب على الناس تكوين رأي موضوعي إن هم اعتمدوا فقط على ما يقوله السياسيون. وبرأيه فإن “الحوار السياسي بعد الانتصار الانتخابي، وبعد هذا الفراغ اللغوي، لن يكون حوار صُمّ بل نقاش بُكْم”.
وبالتالي حتى النقاش العمومي بين السياسيين فيما بينهم، ومع الجمهور يصير مغلوطاً، ما دام لا يستند على الحقائق. لهذا يعتقد الكاتب أن “هناك حاجة ماسّة إلى تدريس الخطاب السياسي لرفع من مستوى الوعي بالمشكلة”.