بينما تستعد إدارة بايدن لمغادرة البيت الأبيض، فإنها تبذل جهوداً أخيرة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، لكن السياسة الأميركية تجاه غزة تحت إدارة جو بايدن، أدت إلى معارضة واسعة النطاق في وزارة الخارجية، حيث تساءل البعض عن المدى الذي قد تذهب إليه واشنطن في دعمها لإسرائيل، حسب شبكة CBS الأميركية.
وفي دراسة نشرت في أواخر الأسبوع الماضي، قالت المجلة الطبية الرائدة “لانسيت” إن عدد ضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع ربما تجاوز 70 ألف شخص.
وأدت هذه الحرب إلى توجيه اتهامات لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية، فيما تفيد التقارير بأن هذا المجهود الحربي تم تمويله بواسطة الأسلحة والأموال الأميركية.
وقدَّم ثلاثة عشر مسؤولاً بالفعل استقالتهم، بما في ذلك من وزارة الخارجية والبيت الأبيض والجيش احتجاجاً على الدور الأميركي. ويعتقد الكثيرون أن السياسة الأميركية تجاه غزة تتعارض مع القيم الأميركية وتهدد الأمن القومي.
واستقال جوش بول، الذي كان أحد المسؤولين عن التوقيع على صفقات الأسلحة الكبرى لحلفاء الولايات المتحدة، بعد 10 أيام فقط من اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023.
وقال بول لـCBS: “هناك ارتباط بين كل قنبلة يتم إسقاطها في غزة والولايات المتحدة، لأن كل قنبلة يتم إسقاطها، يتم إسقاطها من طائرة أميركية الصنع”.
وقدمت الولايات المتحدة 18 مليار دولار كمساعدات عسكرية أميركية لإسرائيل منذ بدء الحرب، معظمها في شكل أسلحة ممولة من دافعي الضرائب. وقال بول، الذي قضى 11 عاماً كمدير في مكتب الشؤون السياسية والعسكرية بوزارة الخارجية، إن معظم القنابل وجميع الطائرات المقاتلة تأتي من الولايات المتحدة.
وبعد 7 أكتوبر، قال بول إن رسائل البريد الإلكتروني التي تمر عبر وزارة الخارجية كانت تحتوي على توجيهات واضحة. لم يكن هناك نقاش. لقد تم إبلاغهم بالطلبات الإسرائيلية، وأُمروا بالموافقة عليها بسرعة. وأوضح بول: “جاء هذا من الرئيس ومن الوزير (أنتوني بلينكن) ومن حولهم”.
ومن بين الأسلحة التي طلبتها إسرائيل من الولايات المتحدة قنابل تزن 2000 رطل، تستخدم عادة لتدمير أهداف كبيرة مثل مستودعات الأسلحة.
وبعد ما يقرب من ثلاثة أسابيع من هجمات السابع من أكتوبر، نشر الجيش الإسرائيلي مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لغارة جوية في مدينة غزة، زعم أنها استهدفت نفقاً لـ”حماس”.
ولقي أكثر من 100 شخص حتفهم في هذا الهجوم، من بينهم 81 امرأة وطفل، وفقاً لمنظمة Airwars، وهي منظمة بريطانية غير ربحية تراقب الأضرار المدنية في الصراع، وقالت مصادر لـCBS إن قنابل أميركية زنة 2000 رطل استخدمت في هذه الضربة.
وبعد شهرين، وصف الرئيس بايدن القصف الإسرائيلي بأنه عشوائي. وفي مايو الماضي، أوقف شحنة من القنابل التي يبلغ وزنها 2000 رطل. وكانت هذه الأسلحة تُستخدم لاستهداف الأفراد في المناطق المكتظة بالسكان، وفقاً لأندرو ميلر، نائب مساعد وزير الخارجية السابق للشؤون الإسرائيلية الفلسطينية.
واستقال ميلر في يونيو الماضي، قائلاً إنه لم يفعل ذلك احتجاجاً، ولكن لقضاء المزيد من الوقت مع عائلته. وأصبح أعلى مسؤول في إدارة بايدن يعبر عن مخاوفه بشأن دور الولايات المتحدة في الحرب.
“خطوط حمراء”
وبينما كانت هناك محادثات تدور منذ بداية الحرب حول ما تنتظره الولايات المتحدة من إسرائيل، قال ميلر إنه لا يعلم بأي خطوط حمراء تم فرضها تتجاوز “اللغة العادية” حول الامتثال للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وقانون الصراعات المسلحة.
وقال ميلر: “الرسالة التي تلقاها رئيس الوزراء نتنياهو هي أنه كان في مقعد السائق، وكان يتحكم في هذا، وكان الدعم الأميركي موجوداً، وكان بإمكانه اعتبار ذلك أمراً مفروغاً منه”.
ورأى ميلر أن هناك خطراً يتمثل في أن وقف الولايات المتحدة لتوريد الأسلحة إلى إسرائيل، قد يدفع حزب الله و”حماس” وإيران إلى رؤية ذلك كـ”فرصة لمهاجمة إسرائيل”.
في مايو، نشرت الخارجية الأميركية تقريراً قالت فيه إنه “من المعقول أن نقيم” أن إسرائيل ربما استخدمت أسلحة أميركية في انتهاك للقانون الدولي. لكنها قالت أيضاً إنها لا تستطيع ربط الأسلحة الأميركية بشكل قاطع بحالات محددة.
وأضاف ميلر: “من الصعب الحصول على هذه المعلومات في منطقة قتال نشطة. لكنني أود أيضاً أن أقول إننا لم نعمل بجدية كبيرة لمحاولة الحصول على المعلومات”.
ويحظر القانون الأميركي إرسال المساعدات العسكرية إلى البلدان التي تقيد تسليم المساعدات الأميركية، مثل الغذاء والدواء. ووجد الخبراء الذين يتتبعون المساعدات، بما في ذلك من منظمات دولية متعددة ووزارة الخارجية نفسها، أن إسرائيل منعت باستمرار المساعدات لسكان غزة.
ورفض بريت ماكجورك، منسق البيت الأبيض للشرق الأوسط وأحد أقرب مستشاري الرئيس بايدن، طلباً من برنامج “60 دقيقة” الذي تبثه شبكة CBS لإجراء مقابلة. لكن مسؤولاً كبيراً في البيت الأبيض قال لبرنامج “60 دقيقة” إن محامي الحكومة “لم يقرروا أن إسرائيل انتهكت قوانين الصراع المسلح، وبالتالي استمرت الأسلحة الأميركية في التدفق”.
وذكر المسؤول أن “حماس” قد تنهي الحرب بإعادة 95 رهينة ما زالوا في غزة. لكن ميلر يرى أن الحرب ستنتهي عندما تقول إسرائيل إنها انتهت. واعتبر أنه “في غياب تدخل الولايات المتحدة أو تدخل أي شخص آخر لإجبار أو فرض قرار، ستنتهي الحرب عندما يقول نتنياهو إنها انتهت”.
“بصمة أميركية”
وتقول CBS إن البصمة الأميركية موجودة في كل مكان في غزة المدمرة. وتعتقد هالة غريط، وهي دبلوماسية أميركية استقالت احتجاجاً، أن ما حدث في الشريط الذي يبلغ طوله 25 ميلاً من الأرض كان ليكون مستحيلاً بدون الأسلحة الأميركية.
وأمضت غريط ما يقرب من عقدين من الزمان في آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، حيث عملت في مجال حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب. كانت تعمل في دبي كنائبة لمدير الإعلام الإقليمي عندما اندلعت الحرب. وكان جزءاً من وظيفتها في ذلك الوقت مراقبة الصحافة العربية ووسائل التواصل الاجتماعي لتوثيق كيف يُنظر إلى دور أميركا في الحرب في الشرق الأوسط. وكانت ترسل تقارير يومية إلى كبار القادة في واشنطن تحتوي على صور وتحذيرات مروعة.
وقالت غريط: “كنت أظهر التواطؤ الذي لا جدال فيه. شظايا القنابل الأميركية إلى جانب مذابح معظمها أطفال. وهذا هو الدمار”. وذكرت أنه في بعض الحالات كانت يتم إسكاتها، عندما حاولت التحدث.
وأضافت: “كنت أعرض صور أطفال يموتون جوعاً”، مشيرة إلى أنها في إحدى المرات، تعرضت لـ”توبيخ شديد”، وقال لها المسؤولون: “لا تضعي هذه الصورة هناك. لا نريد أن نراها. لا نريد أن نرى الأطفال يموتون جوعاً”. لكن آخرين أخبروها بأن تحتفظ بالصور، مؤكدين ضرورة رؤيتها.
“صورة أميركا في الخارج”
في البيت الأبيض، يعتقد البعض أن قطع الأسلحة عن إسرائيل من شأنه أن يؤدي إلى صراع أطول وأكثر فتكاً، وأن الدعم العسكري والدبلوماسي الأميركي هو الذي منع حرباً أوسع في الشرق الأوسط.
لكن مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي كريستوفر راي أخبر الكونجرس في نوفمبر 2023 أن الحرب في غزة أثارت خطر وقوع هجوم إرهابي في الداخل.
وقال القائم بأعمال مدير المركز الوطني لمكافحة الإرهاب، بريت هولمجرين، لبرنامج “60 دقيقة” إن المشاعر المعادية لأميركا التي تحركها الحرب في غزة وصلت إلى مستوى لم نشهده منذ حرب العراق. وقال هولمجرين إن جماعات مثل القاعدة وداعش تجند على هذا الأساس، وتصدر الدعوات لشن هجمات على أميركا.
واعتبرت غريط أن الغضب في جميع أنحاء العالم العربي وخارجه ملموس. وقد وثقت الاحتجاجات وحرق الأعلام الأميركية. وقالت “إن هذا مهم للغاية لأننا عملنا بجد بعد الحرب على الإرهاب لتعزيز العلاقات مع العالم العربي”.
وتعتقد غريط أن دعم الولايات المتحدة لإسرائيل جعل من أميركا هدفاً.
وتابعت: “أنا أقول هذا بصفتي شخصاً نجا من هجومين إرهابيين. وأقول هذا بصفتي شخصاً عمل بشكل مكثف على هذه القضايا وراقب المنطقة بشكل مكثف لمدة عقدين من الزمن”.
وبعد ثلاثة أشهر من بدء الحرب، تقول غريط إنها أُبلغت بأن تقاريرها لم تعد ضرورية. واستقالت في أبريل الماضي. وقالت إن إحدى نقاط تحولها كانت وفاة طفلة صغيرة تدعى سناء الفرا، والتي أدرجت صورتها في أحد تقاريرها – وهي واحدة من آلاف الأطفال الذين لقو حتفهم في غزة.
وتقول غريط: “كانت ترتدي فستان الأميرة، وكانت في الصورة تلوح بعصاها السحرية بابتسامة كبيرة وجميلة. لقد رأيت طفلتي في تلك الطفلة”.