“سأنهي كل أزمة دولية خلقتها الإدارة الحالية، بما في ذلك حرب روسيا وأوكرانيا، والتي لم تكن لتحدث أبداً لو كنت رئيساً”. هذا ما أعلنه دونالد ترمب في يوليو الماضي خلال خطاب قبول ترشيح الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية، ثم سرعان ما صوّر الملياردير الأميركي نفسه على أنه “بارع في عقد صفقات السّلام”، وقادر على وضع حد للصراعات في العالم “بمكالمة هاتفية” فقط.
في مقابلة مع الإعلامي الأميركي، تاكر كارلسون، في أكتوبر الماضي، قال ترمب، الذي سيتسلم مفاتيح البيت الأبيض في 20 يناير 2025: “الشيء الوحيد الذي لا أريد حدوثه أبداً أن تتّحد روسيا والصين”، مضيفاً: “سأضطر إلى فكّ وحدتهما، وأعتقد أنني أستطيع فعل ذلك”. وخلال حملته الانتخابية، وتعهد الرئيس المنتخب مراراً وتكراراً بأنه سيكون “أكثر صرامة مع الصين”، مما كان عليه الرئيس جو بايدن.
ويعود ترمب إلى البيت الأبيض في سياق مختلف عن عام 2016، عندما وصل لأول مرة إلى السلطة، إذ شهد العالم متغيّرات كبيرة، غدتها الحروب الإقليمية في الشرق الأوسط وأوروبا، والتي أظهرت محدودية “نفوذ” واشنطن في عدد من المناطق، مع بروز قوى جديدة باتت هي المتحكمة في مسارات الصراع، وهو ما يمثل تحدياً إضافياً للإدارة الجديدة، التي تركز على مبدأ “أميركا أولاً”.
ترمب قال بوضوح شديد خلال حملته الانتخابية، إنه يعتقد أن التغييرات الكبرى في سياسة الولايات المتحدة الخارجية “ضرورية”. وأضاف في حدث انتخابي بولاية ويسكونسن، في سبتمبر الماضي: “لقد عوملنا بشكل سيئ للغاية، وخاصة من قبل الحلفاء.. يعاملنا حلفاؤنا في الواقع بشكل أسوأ من أعدائنا، في الدفاع.. نحميهم، ثم يخدعوننا في التجارة. لن نسمح بحدوث ذلك بعد الآن”.
ويجمع خبراء تحدثوا إلى “الشرق” على أنه من المتوقع أن تؤدي عودة ترمب إلى البيت الأبيض، إلى إعادة تشكيل السياسة الخارجية، وضبط علاقاتها مع الحلفاء والخصوم، مما يعد بتحولات سياسية جذرية على جبهات متعددة.
وينعكس هذا الاتجاه في اختيار ماركو روبيو وزيراً للخارجية. ولطالما تبنى سيناتور فلوريدا، وهو خبير في السياسة الخارجية، موقفاً لا هوادة فيه تجاه الصين وروسيا وإيران. وقال لصحيفة “وول ستريت جورنال” في ديسمبر الجاري: “يجب على الولايات المتحدة أن تستمر في إظهار القوة التي تجلب الاحترام والردع”.
“فوضوي” مقيد بالتقاليد
تميزت الولاية الأولى لترمب باتخاذ قرارات مهمة في السياسة الخارجية، بدءاً من انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ إلى “اتفاقيات أبراهام”. وشملت التحولات السياسية الأوسع نطاقاً، التي من بينها استمرار إدارة ترمب في “التحول الأميركي نحو آسيا” الذي بدأته إدارة الرئيس الديمقراطي السابق باراك أوباما، والانسحاب من أفغانستان.
كما كان ترمب معادياً بشكل علني للاتحاد الأوروبي، الذي اعتبره منافساً. وهدّد مراراً وتكراراً بانسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي “الناتو”.
وخلال حملته الانتخابية في السباق نحو البيت الأبيض، تعهد ترمب بقطع المساعدات عن أوكرانيا، وإجبار كييف على إجراء محادثات سلام فورية، وترك حلفاء الناتو بلا دفاع، حال فشلهم في زيادة الإنفاق الدفاعي.
ويقول هاينز جارتنر، الخبير الأوروبي في الأمن والنزاعات ورئيس المجلس الاستشاري لجيش النمسا في تصريحات لـ”الشرق”، إن سياسات ترمب غالباً ما توصف بأنها “فوضوية”، ومع ذلك، فهو يظلّ مقيداً بـ”التقاليد الأميركية”، وبالتالي يمكن التنبؤ بتصرفاته أيضاً، لافتاً إلى أن شعارات “جعل أميركا عظيمة مرة أخرى” و”أميركا أولاً” تنبع من أرضية أيديولوجية وأخلاقية وأهداف متطرفة انعزالية وحمائية.
واعتبر جارتنر، أن ترمب “لديه سمات متناقضة”، فهو تارة “انعزالي”، وتارة أخرى يتدخل في شؤون دول بعيدة، “إنه ليس أسود أو أبيض. إنه بالتأكيد ليس رمادياً، إنه أسود وأبيض”.
يشرح الدكتور جارتنر في تصريحاته لـ”الشرق”: “يريد ترمب إبعاد الولايات المتحدة عن مناطق الصراع في جميع أنحاء العالم وحماية الاقتصاد الأميركي من المنافسة الأجنبية وعدم التورط في الحروب، لكنه كان دائماً قريباً منها، خصوصاً عندما أسقطت صواريخ إيران طائرة مسيرة أميركية في عام 2019، وعندما اغتال الجنرال الإيراني قاسم سليماني في يناير 2020، وعندما دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في سياسته الاستيطانية العدوانية في الأراضي الفلسطينية”.
وخلال ولايته الأولى، يضيف الخبير في الشؤون الأوروبية، هدّد ترمب زعيم كوريا الشمالية بـ”النار والغضب”. ودعم الحرب في اليمن، ووسّع نطاق ضربات الطائرات المسيرة في الشرق الأوسط. كما زود أوكرانيا بأسلحة فتاكة وفرض عقوبات على روسيا. وفرض تعريفات جمركية ضخمة على الصين.
وتتفق إليزابيث شيبارد، المتخصصة في الحضارة الأميركية والعلاقات الدولية والسياسة الأمنية في جامعة “تور” الفرنسية، في حديثها إلى “الشرق”، مع فكرة أن ترمب “قد يشكل خطراً كبيراً على العالم”، لكنها قالت إن التهديد الأكبر، الذي يشكله، هو “تهديد داخلي بالنسبة لملايين الأميركيين ومستقبلهم”.
وأشارت شيبارد، إلى أن عمل ترمب سيظل تحت إشراف المؤسسات السيادية “وهو ما يهدّد بحدوث صراعات داخلية كبرى بطبيعة الحال”. ومن المؤكد أن ذلك سيشكل مشكلة لأوروبا وحلف شمال الأطلسي، مضيفة أن “هناك مبالغة في قدرات ترمب، فالرئيس الأميركي ليس قوياً بشكل كاف، حتى لو رغب في إظهار ذلك”.
وتابعت: “لن يحصل ترمب على جزيرة جرينلاند، ولن يضم كندا أو يستولي على قناة بنما بالقوة. لكنه سيتفاوض حتى الموت للحصول على أفضل الظروف في القناة، وسيعاقب كندا بالتعريفات الجمركية.. ولديه أوراق نفوذ أخرى يمكن استغلالها”.
علاقات متشابكة
كان أحد الوعود الرئيسية التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية في عام 2024، فرض رسوم جمركية بنسبة 60% على جميع الواردات الصينية إلى الولايات المتحدة، وهي زيادة كبيرة مقارنة برفع إدارته السابقة للرسوم الجمركية على معظم المنتجات الصينية إلى 25%. وقال ترمب إن الرسوم الجمركية “هي أعظم شيء تم اختراعه على الإطلاق”، وستحمي التصنيع والشركات الأميركية.
كما وعد الرئيس المنتخب بإلغاء وضع الصين التجاري، والذي كان من المفترض أن يوفّر مزايا متبادلة، مثل التعريفات الجمركية المنخفضة وغيرها من المزايا التجارية.
ولسنوات ظل ترمب ينتقد الصين، ويصفها بأنها “السبب الأول لكل أنواع الأمراض في الولايات المتحدة”. كما أعرب عن أسفه للعجز التجاري الضخم لواشنطن مع بكين، وألقى باللوم على الصين في تفريغ قلب الصناعة الأميركية. وأصر على أن جائحة فيروس كورونا كانت خطأً من الصين. ومؤخراً، ألقى بمسؤولية أزمة المواد الأفيونية في الولايات المتحدة على بكين، متهماً الصين بـ”مهاجمة” الولايات المتحدة بالفنتانيل.
كما تمثل مطالبة بكين بـ”صين واحدة” من التحديات العديدة التي من المرجح أن يواجهها ترمب في السياسة الخارجية. خلال حملة عام 2024، قال إن تايوان يجب أن تبدأ في دفع الأموال للولايات المتحدة مقابل الدفاع عنها في مواجهة الصين، مما يجعل التزام ترمب بأمن تايوان غير مؤكد.
ومع ذلك، فإن اختيارات ترمب لمناصب الوزراء والمستشارين ترسل رسائل مختلفة. فهي تشمل مسؤولين يعتبرون من صقور الصين، مثل السيناتور ماركو روبيو والنائب مايكل والتز. قبل أن يختاره ترمب لقيادة وزارة الخارجية، قال روبيو إن ترمب “سيستمر في دعم تايوان”.
وبينما لم يحدد ما إذا كان سينشر قوات للدفاع عن تايوان ضد الصين، لكنه تعهد بالرد على الغزو الصيني، وفي هذا الإطار، قال الفريق أول المتقاعد، إتش آر ماكماستر، مستشار الأمن القومي السابق في عهد ترمب، لبرنامج “فرونت لاين”: “حقيقة.. أنا لست متأكداً مما إذا كان ترمب سيدافع عن تايوان”، مشيراً إلى أن ذلك قد يعقد الجهود الصينية للتنبؤ برد واشنطن.
وهي نفس الفكرة التي تدافع عنها إليزابيث شيبارد، إذ اعتبرت في تصريحاتها لـ”الشرق”، أن “عدم القدرة على التنبؤ بتصرفات ترمب، يمكن أن يزيد الضغط على الصين. وبالتالي فإن هذا الفصل الجديد يعد بمسار مضطرب، إذ ستلعب القدرة على التكيف دورا أساسياً”.
صانع صفقات
هاينز جارتنر رئيس المجلس الاستشاري لجيش النمسا، أشار في حديثه إلى “الشرق”، إلى أنه “على عكس بايدن، فإن ترمب لن يلتزم بالدفاع عن تايوان ضد هجوم محتمل من قبل الصين، لكنه سيلتزم بتسليح تايوان على نطاق واسع حتى تتمكن من مقاومة الصين بنفسها.
وقال إن ترمب يهدد الصين برسوم جمركية ضخمة، لكنه سيخفضها إذا فتحت الصين سوقها للمنتجات الأميركية برسوم جمركية منخفضة أو بدون رسوم، وهو ما يجعله “صانع صفقات” ومفاوضاً عظيماً.
ويعود المؤرخ الأميركي والباحث في العلاقات الدولية بنجامين واترهاس، في تصريحات لـ”الشرق”، إلى عام 2018، عندما فرض ترمب تعريفات جمركية على مجموعة من المنتجات من الصين، بما في ذلك الصلب والألومنيوم بشكل خاص، مما أدى إلى ارتفاع تكلفة تلك الواردات للمستهلكين الأميركيين على أمل تعزيز مبيعات المنتجات المصنوعة في الولايات المتحدة. ورداً على ذلك، فرضت الصين تعريفات جمركية على المنتجات التي تستوردها من الولايات المتحدة، مما أضر بمبيعات المصدرين الأميركيين.
وقال إن الحرب التجارية بين واشنطن وبكين تصاعدت، خلال عام 2019 قبل أن تتوصل إدارة ترمب وحكومة الصين إلى اتفاق خفف التوترات، وقد تلقى ترمب الثناء من بعض السياسيين لدفاعه عن الشركات المصنعة الأميركية، ولكن انتقادات من آخرين، من داخل حزبه وكذلك من الديمقراطيين، لإلحاق الضرر بالتجارة العالمية وزيادة التكاليف للمستهلكين الأميركيين.
الناتو وترمب.. التباعد يعزز الشكوك
قدمت الولايات المتحدة وأعضاء آخرون في حلف شمال الأطلسي لأوكرانيا، مئات المليارات من الدولارات في شكل مساعدات مالية وإنسانية وعسكرية لمساعدتها في الدفاع عن نفسها ضد التوغل الروسي.
وفي الوقت نفسه، تشارك الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي نفسها في تكثيف المناقشات بشأن زيادة الإنفاق الدفاعي رداً على غزو أوكرانيا؛ هذا العام، من المقرر أن يفي 18 من أصل 32 عضواً في التحالف بالتزامهم بإنفاق 2% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.
وتشعر الولايات المتحدة وحلفاؤها أيضاً بالقلق من تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين النووية، والتي أثارت المخاوف بشأن الاستخدام المحتمل للأسلحة النووية في أوروبا، فضلاً عن التطورات الروسية في صناعة الفضاء.
ومن بين أكثر من مليوني فرد من أفراد القوات العسكرية الأميركية اليوم، يتمركز أكثر من 228 ألف فرد في دول أجنبية، وتتمركز أكبر الوحدات في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية. كما تمتلك البحرية الأميركية أكثر من 12 منشأة دائمة في الخارج، بما في ذلك في الأميركيتين وأوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ والشرق الأوسط.
ومن المقرر أن يطالب ترمب حلف الناتو بأكثر من مضاعفة هدف الإنفاق البالغ 2%، والذي لا يلبيه حالياً سوى 23 من أصل 32 دولة عضو في التحالف، إلى 5%.
وكانت “فاينانشيال تايمز”، نقلت عن مصادر مطلعة على مناقشات أولية، أن أعضاء الناتو الأوروبيين يناقشون رفع الإنفاق الدفاعي إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، تحسباً لعودة ترمب. ولفتت إلى أن المحادثات قد تواجه معارضة شديدة من بعض الحلفاء، بما في ذلك التعهد قصير الأمد، بالوصول إلى 2.5% ثم 3%، بحلول 2030، وهي مناقشة ستجري في قمة الحلف يونيو المقبل.
وفي هذا الصدد، قال الخبير النمساوي هاينز جارتنر في حديثه مع “الشرق”، إن ترمب ليس الوحيد الذي طالب الأوروبيين برفع الانفاق، فقد سبقه إلى ذلك رؤساء كثر في البيت الأبيض، ومع ذلك، جمع ترمب بين هذا الطلب والتهديدات الروسية المتزايدة، بأنه لن يدافع عن الأوروبيين، ما جعلهم “في حالة الشك”.
وأضاف أن “طلب سحب الجنود الأميركيين من أوروبا لم يظهر مع ترمب، بل مع الرئيس أيزنهاور. وأشار إلى أن جميع الرؤساء الأميركيين كانوا يحذرون من التحالفات المتشابكة، مضيفاً أن تهديد ترمب بالتراجع عن التزامات حلف شمال الأطلسي إذا لم ينفق الأوروبيون المزيد على الدفاع هو بالتالي “تقليد أميركي جيد”.
ويرى جارتنر، أن لدى ترمب أيضاً فرصة لتجربة حلول إبداعية. فهو يرى نفسه “صانع صفقات” ومفاوضاً عظيماً، والنتيجة التفاوضية ليست مطلقة أبداً. تساعد نظرية العلوم السياسية “المكاسب النسبية” في فهم هذا، والتي تنص على أن جميع الأطراف المعنية يمكن أن يكون لها مكاسب مطلقة، لكن يمكن لشريك واحد أن يكسب أكثر من الآخرين. ويبدو أن ترمب يدافع عن هذا المبدأ. لقد فرض رسوماً جمركية على الصلب الأوروبي، على سبيل المثال، لكنه يرحب بالشركات الأوروبية التي تستثمر في الولايات المتحدة.
ولفت جارتنر الانتباه إلى “أنه إذا مارس ترمب ضغوطاً على الأوروبيين، فيمكنه أيضاً تهديد روسيا بتسليح أوكرانيا على نطاق واسع إذا لم ترغب في التفاوض”.
الاتحاد الأوروبي.. حليف “مؤقت”
وبشأن مخاوف الأوروبيين من عودة ترمب وتأثيرات ذلك على الأمن والاقتصاد، قال أولوف جيل، المتحدث باسم مفوضية الاتحاد الأوروبي، في تصريحات لـ”الشرق”، إن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يتمتعان باقتصاد متكامل بشكل عميق، مع توازن التجارة والاستثمار بشكل عام. ونحن على استعداد لمناقشة مع الرئيس المنتخب ترمب كيف يمكننا تعزيز العلاقة القوية بالفعل، بما في ذلك من خلال مناقشة مصالحنا المشتركة في قطاع الطاقة”.
وشدد على أن الاتحاد الأوروبي ملتزم بالتخلص التدريجي من واردات الطاقة من روسيا وتنويع مصادر إمداداتنا.
بدوره قال ماتياس ماتجيوس، المحلل الأميركي والمتخصص في الاقتصاد السياسي، إنه بالنسبة لأوروبا، فإن عودة ترمب إلى السلطة تعني “نهاية أوهامها الكبرى”. فقد انتهى الزواج التقليدي بين أوروبا والولايات المتحدة، وسيفتح ترمب المجال أمام “المعاشرة التعاقدية”، وفق تعبيره.
وأضاف: “منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تشجع دائماً الوحدة الأوروبية. لقد ضمن الأميركيون، وهم حلفاء لا غنى عنهم، أمن أوروبا بفضل (المظلة النووية) للناتو. وهكذا أصبحت القارة القديمة محمية من التهديد العسكري السوفيتي، الذي سمح للدول الأعضاء الأوروبية ببناء دول الرفاهية الخاصة بها”.
ومن جانبه، لا يستفيد ترمب كثيراً من “مجتمع القيم” في الغرب، وكثيراً ما يعتبر الاتحاد الأوروبي “عدواً”. وبعد الصين، فإن ألمانيا بشكل خاص هي التي تقع في مرمى اهتمامه اقتصادياً.
روسيا.. عدو استراتيجي لترمب؟
اتخذت إدارة ترمب الأولى نهجاً مختلفاً تماماً في التعامل مع علاقاتها مع روسيا مقارنة بأي إدارة أخرى منذ اندلاع الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية.
كما أشاد ترمب ببوتين باعتباره زعيماً قوياً خلال الحملة الرئاسية. وأثارت الاتهاماتبشأن تورط الاستخبارات الروسية في اختراق اللجنة الوطنية الديمقراطية وشاركوا في جهود دعائية أخرى لمساعدة ترمب في انتخابات عام 2016، الشكوك حول علاقة ترمب بالزعيم الروسي. كما أدى إصرار ترمب على إبقاء تفاصيل محادثاته الشخصية مع بوتين سرية إلى زيادة الشكوك.
وستمثل الحرب في أوكرانيا القضية الأكبر بين الرجلين والذي وعد ترمب بإنهائها خلال 24 ساعة. لكن بوتين وضع شروطاً صارمة لأي اتفاق، بما في ذلك إبقاء أوكرانيا خارج الناتو بشكل دائم، وخفض قوتها العسكرية بشكل كبير، والتمسك بالأراضي الأوكرانية.
ودأب ترمب على انتقاد الدعم العسكري والمالي الذي يقدمه جو بايدن لأوكرانيا، والذي تبلغ قيمته نحو 85 مليار يورو منذ 24 فبراير 2022 بحسب معهد كيل للدراسات الاستراتيجية.
ويشير جارتنر إلى أنه من منظور بعيد المدى، خسرت روسيا صراع القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين وروسيا بالحرب في أوكرانيا، لكنها حققت مكاسب إقليمية على ساحة المعركة في أوكرانيا.
وشدد على أن موسكو فقدت مكانتها الرائدة في الجغرافيا السياسية العالمية، وهي الآن محاطة بدول أعضاء الناتو، كما ضاق حيز المناورة الإقليمي لها. وعلى الصعيد العالمي، أصبحت روسيا الشريك الأصغر للصين. وظهرت التبعيات الاقتصادية. وعلى الصعيدين السياسي والدبلوماسي، تولت الصين زمام الأمور على الساحة العالمية وفي الشرق الأوسط. ومن المرجح أن يعاني اقتصاد روسيا من أضرار طويلة الأمد ودائمة نتيجة للعقوبات ونقص الاستثمار الغربي.
واعتبر الخبير الأوروبي، أن “روسيا لم تعد قادرة على منع سقوط حليفها الأكثر أهمية، بشار الأسد، في سوريا في نهاية عام 2024 بسبب تورطها العسكري في أوكرانيا. كما فقدت حليفتها الأخرى، إيران، أهميتها بسبب إضعاف وكلائها وأبرزهم (حزب الله) في لبنان. وتتجه إيران الآن نحو التحالف بشكل أكبر مع الصين، كما تريد الانفتاح بشكل أكبر على الغرب قبل عودة ترمب”.
بدوره قال خبير السياسات الأميركية وليد فارس في تصريحات لـ”الشرق”، إن الحرب في أوكرانيا هي حرب بين أطراف غير أميركية، وهي خلاف على أراضي تقول روسيا إنها تعود لها تاريخياً، وهي بذلك تحاول استرجاعها فيما يدعم الغرب أوكرانيا. لافتاً إلبى أن ترمب التزم بإنهاء هذه الحرب، “لكن ذلك لن يحصل بين ليلة وضحاها، وحتى الآن نتائج حملة ضغط التي قادها ترمب، حتى قبل أن يلج إلى البيت الأبيض، تبدو جيدة، فبوتين قال إنه مستعد للتكلم مع ترمب وزيلنيسنيكي قال إنه يعرف أنه سيكون هناك ثمن للسلام وأنه يريد المفاوضات”.
الشرق الأوسط وإيران.. أوراق ضغط يجيد ترمب استغلالها
في المكتب البيضاوي، ستكون تقلبات الشرق الأوسط أيضاً، قضية ساخنة بالنسبة لترمب. وبينما كانت واشنطن أهم حليف لإسرائيل منذ بداية الحرب على غزة، كما يتضح بشكل خاص من خلال حزم المساعدات العسكرية المتعاقبة، وعد ترمب بتقديم “دعمه الكامل” لإسرائيل مباشرة بعد تنصيبه.
وخلال حملته الانتخابية، تعهد ترمب بـ”إحلال السلام” في الشرق الأوسط، مما يعني أنه سينهي الحرب الإسرائيلية على غزة، والحرب في لبنان. فيما قال مراراً وتكراراً، إنه لو كان في السلطة بدلاً من جو بايدن، لما هاجمت “حماس” إسرائيل.
خلال فترة ولايته الأولى، قام ترمب، في عمل رمزي، بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، مستجيباً بذلك طلباً قديماً من اليمين الإسرائيلي؛ كما دعم “اتفاقيات أبراهام”.
ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ترمب، بأنه “أفضل صديق لإسرائيل على الإطلاق في البيت الأبيض”. لكن المنتقدين يزعمون أن سياسته كان لها تأثير مزعزع للاستقرار في المنطقة.
ويشير الخبير في السياسات الأميركية وليد فارس في تصريحات لـ”الشرق”، إلى أن الرئيس المنتخب مؤمن بنظرية إنهاء الحروب الطويلة، والحروب الهامشية وغير الضرورية unnecessary wars، منطلقاً من فكرة مفادها أنه “لإنهاء الحروب يجب أولاً إنهاء أسبابها”.
وأوضح أن “عقيدة إنهاء الحروب عند ترمب ترتكز على 3 مراحل؛ أولاً، إطلاق مفاوضات مكثفة وإشراك كل الأطراف المعنية للوصول إلى صيغة توافقية، فهو محب للمفاوضات ويحب إيجاد الحلول السلمية الدبلوماسية المختلفة سواء في البلقان أو الشرق الأوسط، ومنع أي مواجهات مستقبلية في شرق أسيا، سيما بين الصين والدول الحليفة للولايات المتحدة، ثم ثانياً، استخدام الضغط في حال فشل الدبلوماسية، من خلال استهداف الراديكاليين وأصحاب الحروب العقائدية وبعد ذلك بدء مفاوضات مع أطراف التي تأتي لتقود الأطراف الراديكالية السابقة”.
وشدد على أن “ترمب سيشن حملات ضغط قوية لإنهاء جميع الأسباب التي تقود إلى نشوب الحروب، وهذا مركز بالأساس على إيران، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثالثة، التي ترتكز على عقد سلسلة من المعاهدات على المدى الطويل، وهي بالأساس معاهدات سلام ستبني علاقات سياسية سلمية”.
وتابع: “هذه ولايته الأخيرة (ترمب) وهو يريد أن يخرج من البيت الأبيض كصاحب مشروع سلام ومحققاً للنجاح الاقتصادي”. وبشأن إيران، قال فارس: “إما أن تكون هناك إصلاحات جذرية داحل إيران، أو تحريك أوراق الضغط الداخلية من خلال الشعب الإيراني، وليس بطريقة مباشرة”.
هل يرسل ترمب قوات إلى الشرق الأوسط؟
يقول هاينز جارتنر، الخبير الأوروبي في الأمن والنزاعات، إن الرئيس ترمب، لن يكون، في عجلة من أمره بشان إرسال المزيد من القوات إلى الشرق الأوسط بعد سقوط نظام الأسد في سوريا. في الوقت الحالي، سيعود ترمب إلى سياسة “الضغط الأقصى” تجاه إيران. وبذلك، فإنه يفي أيضاً برغبات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو. سيفرض المزيد من العقوبات ويحاول وقف تجارة إيران مع الصين من خلال تهديد الشركات الصينية بالعقوبات إذا تعاملت مع إيران.
ومع ذلك، إذا استغلت إسرائيل ضعف إيران بعد سقوط النظام في سوريا وقصفت المنشآت النووية الإيرانية، على سبيل المثال، فقد تطلب إسرائيل المساعدة من الولايات المتحدة. “لن تتمكن إسرائيل من القيام بذلك بأسلحتها التقليدية وحدها. ومع ذلك، لن تهاجمها الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترمب بمبادرة منها”، وفق البروفيسور جارتنر.
وقال جارتنر، إن الرئيس ترمب قد يكون في ورطة إذا قصفت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية، وهي الخطوة التي من المرجح أن تتطلب دعم الولايات المتحدة ما لم تلجأ إسرائيل إلى استخدام أسلحتها النووية، وهو السيناريو الذي قد يكون كابوساً بالنسبة للولايات المتحدة. ولكن إذا استغلت إسرائيل الموقف لإضعاف إيران أكثر وقصفت منشآتها النووية، فمن المرجح أن يدفع هذا إيران إلى الرد، وهو ما قد يجبر الولايات المتحدة على التدخل لمساعدة إسرائيل.
خيار آخر، يقدمه جارتنر في تعامل ترمب مع إيران، وهو ممارسة أكبر قدر من الدبلوماسية، والابتعاد عن “الضغوط القصوى”، التي ميزت ولايته الأولى. وقد يفضل ترمب تجنب التورط في الشرق الأوسط. ومن غير المرجح أن يسعى إلى صراع عسكري مع إيران وقد يفكر في التفاوض على اتفاق نووي جديد.
فرصة لإيران؟
اعتبر جارتنر، أن الوضع الجديد في الشرق الأوسط قد يمثل فرصة لإيران، فقد سئمت طهران أيضاً من دعم الجماعات المسلحة، مالياً وعسكرياً. وكان هناك دوماً خطورة بشأن جر هؤلاء الحلفاء لإيران إلى حرب مباشرة مع إسرائيل. وقد تعطي إيران الأولوية للدبلوماسية مرة أخرى على التهديدات بالانتقام، كما قد تسعى إلى التوصل إلى اتفاق نووي جديد.
وقال الخبير النمساوي جارتنر، إن إيران التي من المقرر أن تعزلها “اتفاقيات أبراهام” إقليمياً، قد تغتنم الفرصة للدخول في حوار مع جيرانها العرب على أساس “خطة السلام العربية”.
في المقابل، يرى الخبير الإيراني صالح القزويني، أن “ترمب سيحاول ممارسة مزيد من الضغط على إيران كما فعل خلال ولايته الأولى، عندما حاول دفع إيران لقبول “صفقة القرن وتطبيع العلاقات مع اسرائيل”، وهو ما رفضته طهران.
وحسبما يرى القزويني في حديثه لـ”الشرق”، فإن ترمب سيحاول الضغط على إيران ليس من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وإنما من أجل خلق توترات جديدة في المنطقة ودفع طهران إلى الانخراط في دينامية حرب مدمرة. وتابع: “هذه السياسة ستخدم شركات السلاح الأميركية، التي ستحصل على عائدات مالية ضخمة”.
واستبعد المحلل الإيراني نفسه، تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران خلال ولاية ترمب، مستبعداً أيضاً أن يشن ترمب حرباَ مباشرة ضد إيران.
ملف سوريا
الكاتب الأميركي توماس فريدمان، اعتبر في مقال رأي، نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، أن المشكلة السورية “ستكون نموذجاً مصغراً للتحدي الرئيسي الذي سيواجهه فريق السياسة الخارجية لترمب على مستوى العالم”، “خصوصاً كيفية إدارة الضعف، وليس القوة”. وكيفية إدارة الدول المنهارة التي تهدد العالم بانهيارها، وليس الدول الصاعدة التي تهدد العالم بقوتها.
وشدد على أن التحدي المركزي الذي يواجه فريق ترمب سيكون كيفية بناء سوريا أو إصلاحها بتكلفة سيتحملها الشعب الأميركي، مشيراً إلى تقديرات الإعلامي المتخصص في الاقتصاد والمحرر في صحيفة “هآرتس” ديفيد روزنبرج: “ستكون فاتورة إعادة الإعمار سبعة أضعاف حجم الاقتصاد السوري بأكمله، وسيتطلب العمل نفسه نوع الخبرة الفنية التي لا تستطيع سوى قِلة من البلدان توفيرها”.
ويضيف فريدمان، أن المشكلة هي أن “سوريا مفلسة”، ومن غير المرجح أن يزودها ترمب بأموال مساعدات كبيرة. كما أنها تخضع للعقوبات الغربية التي يتعين على ترمب رفعها، لكي تتعافى سوريا وتعيد بناء نفسها.
اليابان والكوريتين
لا تزال الولايات المتحدة وكوريا الشمالية في حالة حرب من الناحية الفنية، حيث انتهت الحرب الكورية بهدنة وليس معاهدة سلام. وعلاوة على ذلك، انهارت كل اتفاقية سابقة لنزع السلاح النووي بين البلدين. وحتى بعد تولي ترمب منصبه في عام 2017، تراوحت تفاعلاته مع كيم بين الإهانات والتهديدات.
في 30 يونيو 2019، أصبح ترمب أول رئيس أميركي في السلطة يضع قدمه في كوريا الشمالية، برفقة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون. اتفق الزعيمان على استئناف مفاوضيهما للجهود نحو تحقيق ما كان منذ فترة طويلة صفقة نووية بعيدة المنال.
وظهرت تكهنات بشأن تحول محتمل في سياسة ترمب تجاه كوريا الشمالية خلال ولايته الثانية المقبلة. وهذا التحول يستلزم التخلي عن الجهود الرامية إلى إقناع كيم بتفكيك ترسانته النووية بالكامل، والسعي بدلا من ذلك إلى إقناع بيونج يانج بتجميد برنامجها النووي ووقف تطوير أسلحة جديدة، وفق ما نقلت مجلة Diplomat المتخصصة في شؤون آسيا.
وفي المقابل، ستحصل كوريا الشمالية على تخفيف العقوبات الاقتصادية وربما أشكال أخرى من المساعدات. والسبب وراء هذا التحول عملي؛ تجنب محادثات نزع السلاح غير المجدية للتركيز على الهدف الاستراتيجي الأوسع المتمثل في التنافس مع الصين. ومع ذلك، نفى ترمب بشدة مثل هذه الادعاءات. وفي منشور على موقع تروث سوشال، رفض التقارير التي تتحدث عن موقفه المخفف من الأسلحة النووية لكوريا الشمالية ووصفها بأنها ملفقة. لكن ترمب يعرف أنه من أجل نجاح سياسته تجاه كوريا الشمالية في فترة ولايته الثانية، فسوف يحتاج إلى إحياء الدبلوماسية الخلفية، وفق المجلة.
وفي ظل القيادة المحافظة للرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول، الذي ساهم موقفه المتشدد ضد بيونج يانج في الجمود الدبلوماسي، وصلت العلاقات بين الكوريتين إلى طريق مسدود. وتصاعد التوتر إلى الحد الذي جعل 71% من الكوريين الجنوبيين يؤيدون الآن تطوير الأسلحة النووية المحلية، حسبما نقلت مجلة Diplomat.
وفي ظل هذه الخلفية القاتمة، قد تقدم جهود ترمب لإعادة إحياء المحادثات مع بيونج يانج، مساراً لتخفيف التوتر في العلاقات بين الكوريتين. ويشير نجاحه السابق في بدء الحوار مع كوريا الشمالية خلال فترة ولايته الأولى إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق متجدد يشجع بيونج يانج على اتخاذ خطوات نحو نزع السلاح النووي.
وعلاوة على ذلك، قد تعطي التغييرات في السياسة في كوريا الجنوبية زخماً للدبلوماسية بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، خصوصاً مع تعيين رئيس جديد خلفاً للرئيس السابق يون سوك يول.
وفي ما يخص اليابان، تستضيف طوكيو، وهي حليفة رئيسية للولايات المتحدة في عصر المنافسة مع الصين، أكثر من 50 ألف جندي أميركي. خلال فترة ولايته الأولى، حاول ترمب دفع اليابان إلى مضاعفة مساهمتها في تكاليف تمركز القوات إلى 8 مليارات دولار سنوياً، لكنه فشل في النهاية في انتزاع المزيد من البلاد. ومن المقرر إعادة التفاوض على الاتفاقية بحلول عام 2026، عندما من المتوقع إبرام صفقة أخرى مدتها خمس سنوات.
في مؤتمر صحافي عقد في السادس عشر من ديسمبر، أعرب ترمب عن استعداده للقاء رئيس الوزراء الياباني شيجيرو إيشيبا، الذي كان يسعى إلى لقاء الرئيس المنتخب، قبل توليه للمنصب، لكن على الرغم من ذلك تتمتع اليابان بفائض تجاري مع الولايات المتحدة، وهو ما قد يضعها على قائمة الأولويات لرسوم ترمب الجمركية.
تتباين أطياف العلاقات السياسية بين الولايات المتحدة ومختلف دول العالم، فبينما يتأهب الخصوم لـ”معارك صفرية” مع إدارة ترمب المرتقبة، لا يخلو الأمر من من فرص بشأن “صفقات محتملة”، كانت السمة الغالبة على سياسة الرئيس الأميركي المنتخب في ولايته الأولى.
أما فيما يخص الحلفاء، فتظل الأجندة الخاصة بترمب والتي تضع الأولوية لـ”أميركا أولاً” هي المحرك الأساسي لضبط إيقاع تلك العلاقة، مما يزيد من الغموض بشأن التحديات التي قد يواجهها حلفاء واشطن خلال السنوات الأربع المقبلة.