تترقب أوروبا عاماً مفصلياً في 2025، في ضوء التغيّرات السياسية العميقة والتحديات التي تواجهها القارة العجوز. ومن بين أبرز الأحداث المنتظرة عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً، والتي ربما تعيد تشكيل الكثير من السياسات الأوروبية والأميركية بما يؤثر على تداخلات العلاقات والتحالفات التاريخية بين الجانبين.
كما تستمر القارة العجوز في مواجهة العديد من الأزمات الداخلية والخارجية على رأسها قضايا الهجرة، والتصعيد العسكري في أوكرانيا، والضغط على وحدة الاتحاد الأوروبي في ظل استمرار صعود تيارات قومية وشعبوية في بعض الدول. هذه القضايا قد تضع الاتحاد الأوروبي في موقف حرج، إذ يتعين عليه التأقلم مع تغيرات داخلية تهدد الاستقرار السياسي والاقتصادي، بالإضافة إلى دوره في السياسة العالمية.
تعقيدات ملف الهجرة واللاجئين
تستمر النزاعات في منطقة الشرق الأوسط، وشمال إفريقيا في دفع المزيد من اللاجئين والمهاجرين إلى السعي نحو أوروبا، ما يفاقم من التحديات التي تواجه القارة العجوز. ويمثل تزايد حالات الصراع والاضطرابات في العديد من الدول، مثل سوريا وليبيا وأفغانستان وهجرة جديدة من آسيا خصوصاً بنجلاديش، تحدياً حقيقياً لأوروبا، ما يدفع إلى استمرار تدفقات اللاجئين والمهاجرين بشكل كبير نحو القارة الأوروبية، ويطرح هذا التدفق من الهجرة غير النظامية تحديات معقدة على عدة أصعدة.
ويشكل تزايد أعداد اللاجئين والمهاجرين تحدياً أمنياً كبيراً لأوروبا، إذ يتطلب توفير الحماية الإنسانية والمعالجة القانونية لآلاف الأشخاص الذين يصلون بشكل مستمر. وفي ظل المخاوف من تسلل عناصر إرهابية أو متطرفين بين هؤلاء اللاجئين، يبقى الأمن الداخلي للدول الأوروبية موضوعاً حساساً يتطلب تنسيقاً متواصلاً بين الحكومات الأوروبية والوكالات الأمنية.
تعد الهجرة مصدراً إضافياً للتوترات الاجتماعية والثقافية في العديد من الدول الأوروبية. فالتنوع الثقافي الناتج عن تدفق اللاجئين من مناطق مختلفة، يتحدى الهويات الوطنية والتقاليد المحلية.
كما أن هناك قلقاً متزايداً في بعض الأوساط اليمينية من تأثير الهجرة على الهوية الثقافية الأوروبية، سواء من حيث القيم أو العادات أو اللغة. هذه التحديات تضع على المحك قدرة أوروبا على دمج المهاجرين بشكل فعال وتحقيق التوازن بين التنوع الثقافي والحفاظ على الهوية الوطنية، وسط أصوات متزايدة تطالب بإعادة المهاجرين واللاجئين إلى بلدانهم.
وفي هذا السياق، أكد رئيس الوزراء الهولندي ديك شوف، في تصريحات لـ”الشرق”، أن العامل الأهم في إعادة اللاجئين إلى بلادهم، هو تحقيق الاستقرار السياسي في تلك البلاد، وتشكيل حكومات مستقرة وقادرة على توفير الأمان لجميع مواطنيها.
وأشار شوف، إلى أن أحد التحديات الكبرى لعودة اللاجئين السوريين، على وجه التحديد، هو “ضرورة تشكيل حكومة شاملة تمثل جميع الأقليات”، بالإضافة إلى توفير بيئة آمنة للجميع، مؤكداً أنه بمجرد توفر الاستقرار والأمن، ستكون هناك خطط واضحة لعودة اللاجئين إلى أوطانهم، مع ضمان حقوقهم في العيش الآمن.
وأضاف رئيس الوزراء الهولندي، في تصريحاته لـ”الشرق”، أن “أوروبا بحاجة إلى العمل مع الأطراف الإقليمية والدولية لتحقيق هذا الاستقرار”، مشيراً إلى أن “العودة الطوعية للاجئين يجب أن تكون مضمونة ومبنية على أساس من الأمن والعدالة”.
ويبقى التحدي الجوهري، الذي يزيد من تعقيد هذا الملف، هو الخلافات الداخلية بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن سياسة اللجوء والهجرة. تختلف الدول الأوروبية في كيفية التعامل مع هذه القضية، حيث تتبنى بعض الدول مواقف أكثر انفتاحاً ومرونة، بينما ترفض دول أخرى استقبال المزيد من اللاجئين، مما يؤدي إلى توترات شديدة داخل الاتحاد.
هذه الخلافات تشكل تهديداً حقيقياً لوحدة الاتحاد الأوروبي، حيث يبرز تحدٍ خطير يتمثل في تصاعد النزعة السيادية لدى بعض الدول، التي تسعى إلى فرض سيطرتها الكاملة على سياستها في التعامل مع اللاجئين والمهاجرين.
ولهذا أصبح ملف الهجرة أحد العوامل، التي ربما تؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي، إذ يتنامى الاتجاه نحو اتخاذ كل دولة مواقف مستقلة في هذا الشأن، ما يضعف من قدرة الاتحاد على اتخاذ قرارات موحدة بشأن ملف الهجرة واللاجئين.
ترمب و”الحلم الأوروبي”
على أعتاب عودة دونالد ترمب إلى الرئاسة مجدداً في الولايات المتحدة، يتعرض الاتحاد الأوروبي لعدة تحديات كبيرة، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، ما يلقى بظلاله على “الحلم الأوروبي”، الذي سعى الاتحاد إلى تحقيقه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
هذا الحلم، الذي يركز على التعاون بين الدول الأوروبية وتعزيز الوحدة والازدهار، بات مهدداً بشكل متزايد في ظل السياسات الانعزالية والحمائية، التي يسعى ترمب إلى تطبيقها في ولايته المقبلة، فضلاً عن شروطه القاسية وتعهداته بفرض مزيد من القيود الجمركية على الأوروبيين، إذا لم يتم إيجاد حل للعجز التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الذي تقدر قيمته بـ312 مليار دولار.
ومن أبرز التحديات التي ربما يواجهها الأوروبيون بعد وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً، هو الملف النووي الإيراني. وكان ترمب انسحب من الاتفاق النووي مع إيران (JCPOA) في عام 2018، وهو قرار لاقى معارضة قوية من معظم الدول الأوروبية، التي كانت تعتبر الاتفاق خطوة مهمة نحو الحفاظ على الاستقرار الإقليمي.
وبعد عودة ترمب إلى الرئاسة، من المُتوقع أن يعيد هذا الملف إلى الواجهة، ما قد يتسبب في توترات جديدة بين الولايات المتحدة وأوروبا في التعامل مع إيران.
وفي هذا السياق، قال دبلوماسي كبير في الاتحاد الأوروبي، فضل عدم كشف هويته، في تصريحات لـ”الشرق”، إن الملف النووي الإيراني ظل التعاطي معه هادئاً خلال الفترة الماضية، “لكن حتماً سنواجه تحديات في هذا الملف مع وصول ترمب إلى سدة الحكم. سيتعين علينا أن نبتكر مجموعة من الأفكار للتعامل مع هذا الملف الخطير والشائك”.
وعندما تولى دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة في عام 2017، بدأت العلاقات عبر الأطلسي، التي كانت تشكل حجر الزاوية للسياسة الخارجية الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، تشهد توترات غير مسبوقة. فترمب، الذي تبنى نهجاً انطوائياً وأحادياً في تعامله مع الدول الأخرى، وضع في إطار أولوياته تقليص الدور الأميركي في المؤسسات الدولية، وتحديداً تلك التي تشمل التحالفات العسكرية والسياسية مثل حلف شمال الأطلسي “الناتو”، والاتحاد الأوروبي، ومثل هذه الانسحابات، والإجراءات الحمائية للمصالح الأميركية وحدها، دون مراعاة حتى مصالح الحلفاء، تشكل تحدياً كبيراً للأوروبيين.
وحدة أوروبية “غير فعالة”
من جانبه، اعتبر جيرزي كواشنسكي، رئيس معهد “أوردو يوريس” Ordo Iuris ومقره وارسو، أن التحدي الكبير الذي يواجهه الأوروبيون يتمثل في “الوحدة الأوروبية”.
وبينما تحاول العديد من القوى السياسية توحيد الاتحاد الأوروبي تحت قيادة واحدة ودستور أوروبي موحد، استبعد جيرزي في تصريحات لـ”الشرق”، إمكانية تحقيق ذلك، مشيراً إلى أن “وحدة أوروبا غير فعالة” في منطقة تضم نصف مليار نسمة، وهويات متنوعة وثقافات متعددة، ما يجعل من الصعب توحيد القارة على المستوى القانوني، إذ أن ذلك يتطلب تعديلات دستورية واسعة.
وأضاف جيرزي: “إذا كانت هناك رغبة حقيقية في الوحدة، يجب أن تستجيب أوروبا للقرارات الوطنية، فمن الممكن أن تكون هذه الاستجابة أكثر فعالية”.
وأعرب عن اعتقاده بأن الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بعد وصوله إلى البيت الأبيض، سيسهل على الدول القومية الأوروبية أن تطوّر نهج مؤسس الاتحاد الأوروبي روبرت شومان، الذي كان يرى أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون اتحاداً بين الشعوب، وليس فرضاً للسيادة الأوروبية على القرارات الوطنية للدول الأعضاء.
وأكد جيرزي، أنه إذا كان الاتحاد الأوروبي يريد التخلص من التحديات التي يواجهها، فإنه يجب أن يتحول إلى منظمة دولية تخضع لرقابة صارمة من قبل الدول الأعضاء، بدلاً من محاولات فرض سيطرة شاملة على قرارات هذه الدول.
توترات داخلية
وفي ظل التوترات الداخلية في الاتحاد الأوروبي، يبدو أن الاختلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تشهد تبايناً في المواقف بشأن عدة قضايا أساسية مثل المهاجرين، حقوق الإنسان، التنوع الثقافي، الاقتصاد، والبيئة. هذا التنوع ربما يعرقل اتخاذ قرارات موحدة، ويؤدي إلى استمرار الانقسامات بين الدول الأوروبية.
رغم أن الاتحاد الأوروبي شهد تعافياً جزئياً من تداعيات جائحة فيروس كورونا، لكنه لا يزال يواجه تحديات كبيرة في مجال الاستدامة الاقتصادية. من أبرز هذه التحديات التضخم المرتفع، وارتفاع تكاليف الطاقة، إضافة إلى أزمة سلاسل التوريد التي لم تُحل بشكل كامل.
كما أن هناك تبايناً كبيراً بين اقتصادات الدول الأعضاء، ما يجعل من الصعب وضع سياسات اقتصادية مشتركة تتناسب مع كافة الدول.
وبعد ضخ مئات المليارات من اليورو في اقتصادات الدول الأعضاء لدعم التعافي من آثار الجائحة، أصبحت مستويات الديون العامة تشكل مصدر قلق كبيراً، خصوصاً في دول مثل إيطاليا وإسبانيا. هذا الوضع يزيد من الضغوط على قدرة الاتحاد الأوروبي في وضع سياسات اقتصادية فعالة توازن بين التعافي والاستدامة المالية.
وإلى جانب تصاعد الحركات القومية الشعبوية في العديد من الدول الأوروبية، مثل المجر وبولندا وإيطاليا وفرنسا، ربما تزداد التحديات السياسية الداخلية للاتحاد الأوروبي. وربما يؤدي صعود هذه الحركات إلى ضغوط على مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وبالتالي على فكرة الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة.
طموح تركيا المعقد
تتزايد الضغوط على الاتحاد الأوروبي لتطوير سياسة أكثر حسماً تجاه تركيا، خاصة مع استمرار قضايا مثل حقوق الأكراد، وحرية التعبير، و”قمع” المعارضة السياسية. كما أن ملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، سيظل معلقاً في ظل الجمود الطويل، الذي شهدته مفاوضات انضمام أنقرة للكتلة الأوروبية، وهو ما قد يثير غضب تركيا ويزيد من الشعور بالإحباط في أنقرة.
من جهة أخرى، ربما تلجأ تركيا إلى تعزيز علاقاتها مع قوى أخرى مثل روسيا أو الصين، ما يخلق تحديات جديدة أمام أوروبا، التي قد تجد نفسها مضطرة لإعادة تقييم موقفها السياسي والاستراتيجي تجاه أنقرة.
وتعد قضية حقوق الغاز والنفط في المناطق البحرية المتنازع عليها في البحر الأبيض المتوسط أحد العوامل الرئيسية التي ستزيد من التوتر بين تركيا والكتلة الأوروبية في المستقبل القريب. ففي منطقة الحدود البحرية وحقوق التنقيب، تظل الخلافات كبيرة بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، وبشكل خاص اليونان وقبرص. وتكمن المشكلة في اختلاف هذه الدول في تفسير القوانين الدولية المتعلقة بالحدود البحرية وحقوق التنقيب، ما يفاقم من تعقيد المواقف السياسية والعسكرية في المنطقة.
وفي حال استمر التصعيد في هذه المناطق المتنازع عليها، فإن ذلك سيشكل تحدياً أمنياً كبيراً للاتحاد الأوروبي.
المستشار النمساوي كارل نيهايمر أكد في تصريحات لـ”الشرق”، أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أبلغت دول الاتحاد الأوروبي بتفاصيل لقائها الأخير في أنقرة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذ تجري مناقشات بشأن إمكانية التوصل إلى تفاهمات مستقبلية بين أنقرة وبروكسل.
وأشار نيهايمر إلى أن “تأثير تركيا المتزايد في المنطقة أصبح أمراً واقعاً لا يمكن تجاهله”، مؤكداً أن أوروبا بحاجة إلى تركيا كشريك استراتيجي في المستقبل.
لكن المستشار النمساوي وضع العلاقة بين الطرفين في إطار ضبابي، قائلاً: “لنرى كيف سيكون الأمر”، مما يثير الشكوك بشأن مستقبل هذه العلاقة. وكأنه بذلك يعبر عن تحديات كبيرة ربما تواجه الاتحاد الأوروبي في تعاطيه مع تركيا. ورغم ذلك، دعا نيهايمر الطرفين إلى الانفتاح على الحوار، والعمل المشترك من أجل تحديد مستقبل واضح للطرفين.
وأشار نيهايمر في تصريحاته لـ”الشرق”، إلى ضرورة فتح قنوات حوار بشأن القضايا الإقليمية، بما في ذلك ملف سوريا، والتعاون مع الفاعلين الدوليين في المنطقة.