“كان فشلنا الأكبر سياسياً، إذ لم أتمكن أبداً من إقناع الشعب الأميركي بأنني زعيم فعَّال وقوي”، هكذا قال الرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر، الذي توفي، الأحد، عن عمر ناهز 100 عام، عندما طُلب منه تقييم فترة رئاسته في فيلم وثائقي عام 1991.
فقد عانى الرئيس الـ39 للولايات المتحدة أثناء فترة رئاسته من الركود الاقتصادي وأزمة الرهائن في إيران، إلا أنه على الرغم من التحديات السياسية التي واجهها فإنه حظي بتقدير عالمي كبير بعد تركه منصبه، وذلك بفضل عمله المستمر في مجال حقوق الإنسان، إذ عُرف بتواضعه واهتمامه الكبير بالقضايا الإنسانية، كما ساهم في حل العديد من النزاعات الدولية، وكان له دور بارز في اتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل.
وقال تشيب كارتر، نجل الرئيس السابق: “كان والدي بطلاً، ليس فقط بالنسبة لي، ولكن لكل من يؤمن بالسلام وحقوق الإنسان والحب غير الأناني”.
وأضاف: “لقد شاركت أنا وإخوتي وأختي معه بقية العالم، من خلال هذه المعتقدات المشتركة، العالم هو عائلتنا بسبب الطريقة التي جمع بها الناس معاً، ونحن نشكرك على تكريم ذكراه من خلال الاستمرار في العيش بهذه المعتقدات المشتركة”.
مسيرة حافلة
وكان الديمقراطي كارتر، قد شغل منصب الرئيس من يناير 1977 إلى يناير 1981 بعد هزيمة الرئيس الجمهوري حينها جيرالد فورد في انتخابات الولايات المتحدة عام 1976، وبعد 4 سنوات، أطاح الناخبون بكارتر من منصبه، إذ أيد الناخبون منافسه الجمهوري رونالد ريجان، الممثل السابق وحاكم كاليفورنيا.
وعاش كارتر بعد انتهاء ولايته لفترة أطول من أي رئيس أميركي آخر، واكتسب سمعة كرئيس سابق أفضل مما كان عليه عندما كان رئيساً للولايات المتحدة.
وتميزت فترة رئاسته التي استمرت لفترة واحدة باتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 بين إسرائيل ومصر، والتي جلبت بعض الاستقرار إلى الشرق الأوسط، كما أن فترته الرئاسية عانت من الركود الاقتصادي، وتراجع الشعبية المستمرة، والحرج الناجم عن أزمة الرهائن في إيران التي استهلكت آخر 444 يوماً له في منصبه.
وفي السنوات الأخيرة، عانى كارتر من العديد من المشكلات الصحية بما في ذلك الورم الميلانيني، الذي انتشر إلى الكبد والدماغ.
وقرر كارتر تلقي رعاية المسنين في فبراير 2023 بدلاً من الخضوع لتدخل طبي إضافي، إذ توفيت زوجته روزالين كارتر في 19 نوفمبر 2023 عن عمر يناهز 96 عاماً، وعندما حضر حفل تأبينها وجنازتها بدا متراجعاً على المستوى الصحي على كرسي متحرك.
مراحل كارتر
وترك كارتر منصبه دون أن يتمتع بشعبية جارفة، ولكنه عمل بنشاط لعقود من الزمان في القضايا الإنسانية، ما مكنه من الحصول على جائزة نوبل للسلام عام 2002 تقديراً لـ”جهوده الدؤوبة لإيجاد حلول سلمية للصراعات الدولية، وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية”.
وكان كارتر من الوسطيين عندما كان حاكماً لولاية جورجيا وذا ميول شعبوية عندما انتقل إلى البيت الأبيض باعتباره الرئيس التاسع والثلاثين للولايات المتحدة.
وكان دخيلاً على واشنطن في وقت كانت فيه أميركا لا تزال تعاني من فضيحة “ووترجيت” التي دفعت الجمهوري ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة من منصبه كرئيس في عام 1974 وترقية فورد من منصب نائب الرئيس.
عندها وعد كارتر بابتسامة عريضة: “أنا جيمي كارتر وأنا أترشح لمنصب الرئيس. لن أكذب عليكم أبداً”.
في عام 1991، عندما طُلب منه تقييم رئاسته، قال كارتر في فيلم وثائقي: “كان أكبر فشل لدينا هو الفشل السياسي. لم أتمكن قط من إقناع الشعب الأميركي بأنني زعيم قوي وحازم”.
وعلى الرغم من الصعوبات التي واجهها في منصبه، لم يكن لدى كارتر سوى عدد قليل من المنافسين على الإنجازات كرئيس سابق.
جائزة نوبل للسلام
اكتسب كارتر شهرة عالمية كمدافع لا يعرف الكلل عن حقوق الإنسان، وصوت للمحرومين وزعيم في مكافحة الجوع والفقر، وفاز بالاحترام الذي أفلت منه في البيت الأبيض.
فاز كارتر بجائزة نوبل للسلام عام 2002 لجهوده في تعزيز حقوق الإنسان وحل النزاعات في مختلف أنحاء العالم، من إثيوبيا وإريتريا إلى البوسنة وهايتي. كما أرسل مركز كارتر التابع له في أتلانتا وفوداً دولية لمراقبة الانتخابات إلى مراكز الاقتراع في مختلف أنحاء العالم.
كان كارتر مدرساً في مدرسة الأحد التابعة للكنيسة المعمدانية الجنوبية منذ أن كان في سن المراهقة، وقد جلب معه إحساساً قوياً بالأخلاق إلى الرئاسة، حيث تحدث بصراحة عن إيمانه الديني، كما أنه سعى لتقليل بعض المظاهر الفخمة التي عادةً ما ترتبط برؤساء الولايات المتحدة، إذ ذهب إلى حفل تنصيبه عام 1977 مشياً على الأقدام.
وكان الشرق الأوسط محور السياسة الخارجية لكارتر، فقد أنهت معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، التي استندت إلى اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978، حالة الحرب.
دوره في اتفاق كامب ديفيد
واصطحب كارتر الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن إلى منتجع كامب ديفيد الرئاسي في ماريلاند لإجراء محادثات، وفي وقت لاحق، وبينما بدا أن الاتفاقيات تتفكك، أنقذ كارتر الموقف بالطيران إلى القاهرة والقدس للقيام بدبلوماسية مكوكية شخصية.
ونصت المعاهدة على الانسحاب الإسرائيلي من شبه جزيرة سيناء المصرية، وإقامة علاقات دبلوماسية.
وبحلول انتخابات عام 1980، كانت القضايا الرئيسية هي التضخم المزدوج، وأسعار الفائدة التي تجاوزت 20٪ وارتفاع أسعار الغاز، فضلاً عن أزمة الرهائن في إيران التي جلبت الإذلال لأميركا. وقد شوهت هذه القضايا رئاسة كارتر وقوضت فرصه في الفوز بولاية ثانية.
أزمة الرهائن
في الرابع من نوفمبر 1979، اقتحم ثوار تابعين لروح الله الخميني السفارة الأميركية في طهران، واحتجزوا الأميركيين الموجودين هناك، وطالبوا بإعادة الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي، الذي كان مدعوماً من الولايات المتحدة وكان يتلقى العلاج في مستشفى أميركي.
وفي البداية، احتشد الشعب الأميركي خلف كارتر، ولكن دعمه تلاشى في أبريل 1980 عندما فشلت غارة للقوات الخاصة في إنقاذ الرهائن، حيث قُتل 8 جنود أميركيين في حادث طائرة في الصحراء الإيرانية.
وكانت الإهانة الأخيرة التي لحقت بكارتر هو أن إيران احتجزت الرهائن الاثنين والخمسين، وأفرجت عنهم بعد دقائق من أداء ريجان اليمين الدستورية في العشرين من يناير 1981.
وفي أزمة أخرى، احتج كارتر على غزو الاتحاد السوفييتي السابق لأفغانستان عام 1979 بمقاطعة دورة الألعاب الأولمبية التي أقيمت في موسكو عام 1980، كما طلب من مجلس الشيوخ الأميركي تأجيل النظر في اتفاقية كبرى بشأن الأسلحة النووية مع موسكو، وعلى الرغم من ذلك، ظل السوفييت في أفغانستان لمدة عقد من الزمان.
موقف جيمي كارتر تجاه القضية الفلسطينية
يُعد موقف جيمي كارتر تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أحد أبرز الجوانب وأكثرها جدلاً في إرثه، حيث يعكس التزامه بالسلام وحقوق الإنسان. وفيما يلي تفاصيل موقفه وأثره ضمن إرثه العام:
اتفاقية كامب ديفيد (1978):
• كرئيس، توسط كارتر في اتفاقية كامب ديفيد، وهي معاهدة سلام تاريخية بين مصر وإسرائيل.
• أصبحت مصر أول دولة عربية تعترف رسمياً بإسرائيل.
• في المقابل، انسحبت إسرائيل من شبه جزيرة سيناء، التي كانت قد احتلتها خلال حرب الأيام الستة عام 1967.
• بينما حظيت الاتفاقية بإشادة واسعة، لم تُسفر محاولات كارتر لإدراج إطار لمعالجة القضية الفلسطينية عن إجراءات ملموسة خلال رئاسته، ما ترك التوترات مستمرة.
دعم حل الدولتين:
• بعد انتهاء رئاسته، أصبح كارتر من أبرز المؤيدين لحل الدولتين كطريق لتحقيق السلام، ودعا الطرفين إلى التفاوض من أجل تسوية سلمية تحترم حقوق وأمن الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.
انتقاد سياسات إسرائيل:
• في كتابه الصادر عام 2006 “فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري”، وجه كارتر انتقادات حادة لسياسات إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقارن بعض جوانب الاحتلال بنظام الفصل العنصري.
• جادل بأن استمرار توسيع المستوطنات ومعاملة الفلسطينيين يقوض فرص السلام.
• أثارت هذه التصريحات ردود فعل عنيفة، خاصة من الجماعات المؤيدة لإسرائيل وبعض السياسيين الأميركيين، الذين اعتبروا أن لغته كانت مثيرة للجدل أو غير عادلة.
دعم حقوق الفلسطينيين:
• أكد كارتر أهمية معالجة حقوق الإنسان للفلسطينيين من خلال حق تقرير المصير كجزء أساسي من شروط تحقيق السلام.
• سلط الضوء على معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال ودافع عن حقهم في تقرير المصير.
• غالباً ما وضعته هذه المواقف في خلاف مع الحكومات الإسرائيلية وحلفائها في الولايات المتحدة، لكنها لاقت صدى لدى العديد من الأطراف في المجتمع الدولي التي تسعى إلى نهج أكثر توازنًا للصراع.
نقل قناة بنما
وفي عام 1978، فاز كارتر بموافقة مجلس الشيوخ بأغلبية ضئيلة على معاهدة لنقل قناة بنما إلى سيطرة دولة بنما، على الرغم من المنتقدين الذين زعموا أن الممر المائي حيوي للأمن الأميركي، كما أكمل المفاوضات بشأن العلاقات الأميركية الكاملة مع الصين.
وأنشأ كارتر وزارتين جديدتين في مجلس الوزراء الأميركي “التعليم والطاقة”.
وعندما شهدت أسعار الغاز ارتفاعاً قال إن “أزمة الطاقة” في أميركا كانت “المعادل الأخلاقي للحرب” وحث البلاد على تبني الحفاظ على البيئة. وقال للأميركيين في عام 1977: “إن أمتنا هي الأمة الأكثر إسرافاً على وجه الأرض”.
وفي عام 1979، ألقى كارتر ما أصبح يُعرف بخطاب “الضيق” للأمة، على الرغم من أنه لم يستخدم هذه الكلمة أبداً.
وقال في خطاب: “بعد الاستماع إلى الشعب الأميركي، تذكرت مرة أخرى أن كل التشريعات في العالم لا يمكنها إصلاح ما هو خطأ في أميركا”.
وأضاف:” إن التهديد يكاد يكون غير مرئي في الطرق العادية. إنها أزمة ثقة. إنها أزمة تضرب قلب وروح إرادتنا الوطنية. إن تآكل ثقتنا في المستقبل يهدد بتدمير النسيج الاجتماعي والسياسي لأميركا”.
شعور بالحرج
وبصفته رئيساً، كان كارتر المتزمت يشعر بالحرج من سلوك شقيقه الأصغر بيلي كارتر الذي كان يشرب الخمر بشراهة، والذي كان يتفاخر: “لقد حصلت على رقبة حمراء وجوارب بيضاء وبيرة بلو ريبون”.
وصمد جيمي كارتر في وجه التحدي الذي فرضه عليه السيناتور إدوارد كينيدي من ماساتشوستس للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة عام 1980، ولكن شعبيته السياسية تراجعت قبل معركته الانتخابية العامة ضد خصم جمهوري قوي.
وأبقى ريجان، المحافظ الذي أظهر قوة شخصيته، كارتر في حالة من عدم التوازن أثناء مناظراتهما قبل انتخابات نوفمبر 1980.
وقال ريجان لكارتر باستخفاف: “ها أنت ذا مرة أخرى”، عندما شعر المنافس الجمهوري أن الرئيس قد أساء تمثيل آراء ريجان خلال إحدى المناظرات.
وخسر كارتر انتخابات عام 1980 أمام ريجان، الذي فاز بـ 44 ولاية من أصل 50 ولاية وحقق فوزاً ساحقاً في المجمع الانتخابي.
حياته الشخصية
ولد جيمس إيرل كارتر في الأول من أكتوبر عام 1924 في بلينز بولاية جورجيا، وكان أحد أربعة أطفال لمزارع وصاحب متجر، وتخرج من الأكاديمية البحرية الأميركية عام 1946، وخدم في برنامج الغواصة النووية، ثم غادرها لإدارة أعمال العائلة في زراعة الفول السوداني.
تزوج من روزالين في عام 1946، وهو الزواج الذي وصفه بأنه “أهم شيء في حياتي”. وأنجبا ثلاثة أبناء وبنت.
وأصبح كارتر مليونيراً، وعضواً في الهيئة التشريعية لولاية جورجيا وحاكماً لولاية جورجيا من عام 1971 إلى عام 1975.
وخاض محاولة للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة عام 1976، وتفوق على منافسيه في انتزاع فرصة مواجهة فورد في الانتخابات العامة.
ومع ترشيح والتر مونديل لمنصب نائب الرئيس، تلقى كارتر دفعة قوية بسبب خطأ فادح ارتكبه فورد أثناء إحدى مناظراتهما.
فقد قال فورد “لا توجد هيمنة سوفييتية على أوروبا الشرقية ولن تكون هناك هيمنة سوفييتية أبداً تحت إدارة فورد”، على الرغم من عقود من مثل هذه الهيمنة.
وتفوق كارتر على فورد في الانتخابات، على الرغم من فوز فورد في الواقع بعدد أكبر من الولايات – 27 مقابل 23 لكارتر.
سوء تقدير
ولم تحظ كل أعمال كارتر بعد تركه منصبه بالتقدير، إذ كان يُقال إن الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش ووالده الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، وكلاهما من الجمهوريين، كانا مستائين من الدبلوماسية المستقلة التي انتهجها كارتر في العراق وأماكن أخرى بعد مغادرة البيت الأبيض.
وفي عام 2004، وصف كارتر حرب العراق التي شنها بوش الابن في عام 2003 بأنها واحدة من “أكثر الأخطاء الفادحة والمدمرة التي ارتكبتها أمتنا على الإطلاق”.
ووصف إدارة جورج دبليو بوش بأنها “الأسوأ في التاريخ”، وقال إن نائب الرئيس ديك تشيني كان “كارثة لبلدنا”.
في عام 2019، شكك كارتر في شرعية الجمهوري دونالد ترمب كرئيس، قائلاً “لقد تم وضعه في منصبه لأن الروس تدخلوا نيابة عنه”. ورد ترمب بوصف كارتر بأنه كان “رئيساً فظيعاً”.
رحلته إلى كوريا الشمالية
كما قام كارتر برحلات إلى كوريا الشمالية الشيوعية، إذ أدت زيارة عام 1994 إلى نزع فتيل أزمة نووية، حيث وافق الرئيس كيم إيل سونج حينها على تجميد برنامجه النووي مقابل استئناف الحوار مع الولايات المتحدة.
وأدى ذلك إلى اتفاق تعهدت فيه كوريا الشمالية، مقابل المساعدات، بعدم إعادة تشغيل مفاعلها النووي أو إعادة معالجة الوقود المستنفد للمحطة.
لكن كارتر أزعج إدارة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، بإعلانه عن الصفقة مع زعيم كوريا الشمالية دون الرجوع أولاً لواشنطن.
وفي عام 2010، نجح كارتر في إطلاق سراح مواطن أميركي حُكم عليه بالسجن ثماني سنوات مع الأشغال الشاقة لدخوله كوريا الشمالية بشكل غير قانوني.
وكتب كارتر أكثر من 20 كتاباً، تتراوح من مذكرات رئاسية إلى كتاب للأطفال وشعر، بالإضافة إلى أعمال في الدين والدبلوماسية. ونُشر كتابه “الإيمان: رحلة للجميع” في عام 2018.