لينا خلف تفاحة، الشاعرة والكاتبة الفلسطينية التي تعيش في واشنطن، تفوز بالجوائز الأدبية الرفيعة الواحدة تلو الأخرى، بيُسرٍ جميل، من دون أن تهادن في شعرها.
شِعر يستمدّ من أصولها العربية مقوّمات صلبة، تتعلق بموضوعات الهوية والعدل والحرية والمرأة، بأسلوب أدبي ذي غنائية معاصرة، وإيقاع شعري مبتكر.
أصدرت ثلاثة دواوين شعرية حتى اليوم، الأوّل “ماء وملح” (2017)، حاز جائزة الكتاب لولاية واشنطن سنة 2018، والثاني “كان وأخواتها” (2023)، والثالث “شيء ما بخصوص الحياة” (2024)، حاز في 20 نوفمبر الماضي، جائزة الكتاب الوطني الأميركي، في دورتها 75.
كما حاز الكتاب نفسه جائزة “أكرون” للشعر، ونال جائزة “جون فريدريك نيمز” التذكارية للترجمة من مؤسسة الشعر.
وألقت الشاعرة تفاحة كلمة مؤثّرة في حفل الجائزة، طالبت فيها “الإدارة الأميركية بوقف دعم إسرائيل بأسلحة الإبادة الجماعية”.
مليون طريقة للحب
وقالت لجنة تحكيم الجائزة الوطنية الأميركية عن الديوان: “يُفتَتح بعصفورٍ منفرد، وينتهي بوابلٍ من النيازك المُبهرة، وما بينهما توجد أعجوبة على شكل أغنية رصينة، تُكَهرب الأحاسيس، وتنبض بالاحتمالات، أغنية لوطنٍ ممزقٍ تحت الحصار”.
أضافت: “ديوان رائع يُعَدّ مثالاً دالاً بقوّة على الوفاء؛ تمّ تدبيجه ببراعة في أشكال مدهشة؛ إنه يعلمنا بعمق مليون طريقة للحب”.
والحق أن “شيئاً ما بخصوص الحياة”، ديوان الشاعرة الأخير، مرتبط أشدّ ارتباط بواقع يختلط فيه أزيز الرصاص اليومي، بأناشيد الفرح المؤجل، وذكريات الترحيل القسري الأليم، بذكريات حياة سابقة كانت تجري تحت ظلال طبيعة رحبة وحنونة. ديوان يتعالى فيه الإنسان من فوق الجراح والجثث والأنقاض.
مجلة “المتوسطيات” كتبت عن الديوان: “إنه عمل مؤثر كرّسته الشاعرة لفلسطين، البلد الذي وُلدت فيه، والذي يحتل كامل قلبها ويعبّر عن قناعاتها. تتناول فيه العنف الذي يعاني منه قطاع غزة، والواقع الاستعماري الذي فرضته إسرائيل، وكذلك معاناة الشتات المُبعد عن أرض جذوره منذ عقود”.
تخصيب للغة الآخر
ترتاد الشاعرة قارّة اللغة الأميركية ذات القاموس الغني الموروث عن أدبها، الذي نسجه كُتّاب وشعراء عظام، على غرار شاعرتها المُفضّلة جون جوردان، التي تحب ترديد مقولتها المأثورة: “يعني قول الحقيقة أنك أصبحتِ جميلة، وأنك شرعتِ في حب نفسك، وفي تقدير نفسك”.
لينا خلف تفاحة، من أولئك الذين تغنّوا بالحرية والمقاومة، والإعلاء من شأن الذات في وجه الظلم، فصاغت على نهجم شعرها، وكيّفت الثراء الأدبي الذي خلّفوه خالداً، للحديث عن الحياة الفلسطينية، عبر الكارثة وعقود التراجيديا المستمرّة من دون أفقِ نهاية.
لذا لا نندهش حين قالت يوم تَسلّمت الجائزة التي لم تكن تتوقّعها، بحسب ما ورد في جريدة “سياتل تايمز”: “هذا هو نوفمبر الثاني من الإبادة الجماعية، التي ترعاها الولايات المتحدة في فلسطين. آمل أن يحب كل واحد منا نفسه بما يكفي ليقف ويجعل هذا الأمر يتوقف”.
تقصد الشاعرة بكلامها الجانب الانساني فينا، الذي يساعدنا على إبداء الحب، حب ما هو إنساني في الآخر.
نقرأ في قصيدة “شكل زَلِق”:” كنت وحيدة ذاك الصباح الأوّل/ حين أهداني الطائر الطنّان أزهار لَيلك/ وحين مرّرت النافذة المفتوحة عطراً معتّقاً، والبحر، ومطراً على وشك الهطول/ فأي دعواتٍ منزلقة يجب على المرأة أن تقولها بجسدها/ للانعتاق من هكذا مأزق/ أن أكتب عن الحرب، مرّة بعد الأخرى، أن أكتب جراحاتها..
يحلّ شهر مايو بعاصفة من الأسئلة/ من هم الأطفال الذين سنفقدهم عند الحدود؟ ما جدوى تذكّر ما لا ينتهي أبداً، وما الفائدة من رثاء الطريقة التي من خلالها جاء إيماننا الشديد؟”
هكذا تزاوج الشاعرة بين ميلاد يوم رائق والخيبات التي تتسلل إلى الذات، جرّاء أخبار الحرب هناك، في ذلك الشرق البعيد، الذي يُجبر الناس على النزوح والابتعاد.
حرب لا تتردّد الشاعرة، في دعوة الكُتّاب لفضحها، ليس بصفتهم كُتّاباً فقط، بل أناساً حيثما وجدوا، وخاصة في الفضاء الذي يتواجد فيه شيء يستحق المخاطرة، وحيث الشجاعة تكون مكلفة. إنها دعوة صريحة للانخراط الكلي في دعم هذا الشعب، وليس الاكتفاء بإلقاء الشعر فقط.
في ديوانها الأوّل “ماء وملح” تقول: “خلف جدران سجونكم ننتظر، خلف جدران سجونكم تُسمع دقّات قلوبنا الآن، دقّات مكتومة فوق تيار الدم الذي يجري في تيارات نيلية رقيقة، تنبض بصوت عالٍ تحت جلد يحتكّ خشناً مثل الجدران الحجرية التي تحيط بنا.. نُطالب بالحرية، لنحوِّل الحجر إلى ضوءِ شمس يتدفق من خلال سجونكم، لنرتشفَ الماء والملح مثل قربانٍ مقدس”.
شيء آخر في غزة
الجميل أن لينا تفاحة عندما تبدع القصيدة، تضعها في قالب المتعة الشعرية الخالصة، التي تتأسس على عمق الإيحاء واختيار الموسيقى الجزلة، لعبارات لا يمكن نسيانها.
هذا ما يقوِّي المضمون الفلسطيني، ويجعله حاضراً لدى قرّاء اللغة الإنجليزية. إنها عكس الكثير من شعراء القضية، الذين تخيّروا اللغة المباشرة والغنائية الحماسية، لشحذ الهمم والصراخ بصوت مرتفع. هي تفعل من داخل الشعر، ولا شيء غيره.
تكتب في قصيدة “في يوم الجمعة الثلاثين، ننحاز إلى صيغة الجمع”: “عند الحدود، هناك جمعٌ من الصحفيين/ تحت خيام النزهة جنازة عائلات/ كيف نصير شيئاً آخر في غزة/ إذا لم نجعل أصواتنا تصل إلى حافة الموسى”.
وأَوصَت مجلة “سؤال الشعر”، بضرورة قراءة ديوان “شيء ما بخصوص الحياة”، وإقراره في كل فصل دراسي وفي كل مكتبة. لأنه “صرخة حاشدة بأكثر الأشكال غنائية وتأثيراً”.
اللغة مسكن الكائن
من المراّت القليلة التي يصل فيها الشعر بلغة غير عربية، وباللغة الأكثر تداولاً في كل بقاع العالم، إلى مستوى الحديث عن الهمّ الفلسطيني في تعالقٍ لا يدع مجالاً لأي تأويل خارج ما هو أدبي.
إن ذلك هو عكس ما يحدث حين يتعلق الأمر بالأدب السردي أو بالفكر العربي، الذي يتّهم النقّاد الغربيون كتّابه بالانحياز أو تغليب سردية على أخرى، وعدم تحقيق الموضوعية والتوازن.
في الواقع لا يعرف الشعر هكذا انحياز لأنه ينبع من القلب، ولأن كل قصيدة تبدع لغتها الخاصة، تلك اللغة التي قال عنها الفيلسوف مارتن هيدغر بأنها “مَسْكَن الكائن”.
إنها هنا في أشعار لينا خلف تفاحة، تجد مسكناً للكائن الفلسطيني، الذي حملته معها في عروقها، حين هاجر والدها ذات زمن إلى أميركا.