في الوقت الذي يحاول فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العثور على رئيس وزراء جديد ليحل محل ميشيل بارنييه، الذي خسر تصويتاً بحجب الثقة الأربعاء، فإن اختياراته ستستند إلى ما إذا كان بإمكانه تأمين موافقة الجمعية الوطنية (البرلمان)، على اختياره.
وصوتت الجمعية الوطنية على سحب الثقة من حكومة بارنييه بأغلبية 331 من أصل 574 عضواً، لتصبح بذلك أول حكومة فرنسية تُحجب عنها الثقة منذ عام 1962.
وأكدت أغلب التيارات السياسية القريبة من معسكر الرئيس ماكرون، أن حجب الثقة كان بمثابة “كارثة حقيقية غير مسبوقة على الشعب الفرنسي”، وأنها تنذر بـ”مستقبل اقتصادي وسياسي سيء على الجمهورية”.
واشتدت الخلافات خلال الأسابيع الماضية بشأن موازنة 2025 التي من المفترض التصويت عليها قبل نهاية العام الحالي، بسبب رفض المعارضة لبعض الإجراءات، خاصة في ما يتعلق بـ”زيادة الضرائب وخفض الإنفاق الحكومي على قطاعات عدة منها ميزانية الضمان الاجتماعي”، التي أقرها بارنييه باستخدام إجراء دستوري يُعرف بالمادة (49.3) وهو ما رفضته المعارضة، التي أرادت إدخال بعض التعديلات.
ودعا اليمين المتطرف بقيادة زعيمة حزب “التجمع الوطني” مارين لوبان إلى خفض مساهمة فرنسا في موازنة الاتحاد الأوروبي، مع الإسراع في آليات محاربة التضخم وزيادة الرواتب وتخفيض الضرائب، وهي نفس المطالب رفعها اليسار الراديكالي.
اليمين المتطرف أكبر المستفيدين
وبشأن السيناريوهات المحتملة أمام الرئيس الفرنسي في المرحلة المقبلة، قال النائب عن حزب “فرنسا الأبية” اليساري الراديكالي، رودريجو آريناس لـ”الشرق”، إن “هناك احتمالين اثنين، إما أن نعطي الفرصة لليمين المتطرف، أو احترام صناديق الاقتراع، واختيار رئيس حكومة من الجبهة الشعبية الجديدة، وتشكيل أغلبية توافقية لن تتضرر بحجب الثقة، وتصوت نصاً بنص”.
في المقابل، تعتقد ليونو كروا، وهي مقربة من الرئيس ماكرون ونائبة عن حزب النهضة الرئاسي، أن المعارضة في وضع “عدم المسوولية الشاملة”.
وأضافت: “أتفهم أن نختلف في الرأي مع الآخرين، أو نكون غاضبين، لكن ترك بلدنا بدون حكومة، وبدون ميزانية أمر خطير، (مع أنهم كانوا قادرين على عقاب الحكومة في أي وقت)، فإن هذا يجعل منهم أشخاصاً عديمي المسؤولية”.
واعتبرت كروا في حديث لـ”الشرق”، أن سقوط الحكومة يخدم أجندات اليمينية المتطرفة مارين لوبان، التي تطمح للترشح للانتخابات الرئاسية المقررة في عام 2027، كما يخدم مصالح جان لوك ميلانشون، زعيم اليسار الراديكالي.
وبشأن السيناريوهات المحتملة وسط الفراغ السياسي، قالت كروا: “إننا ندخل مرحلة غير مسبوقة. و في أفضل الحالات، سيتم اعتماد ميزانية العام الماضي، ولكن حتى هذا السيناريو له عواقب خطيرة. سيصبح زهاء 380 ألف فرنسي كانوا معفيين من الضرائب خاضعين لها الآن بسبب التضخم، وسيدفع 18 مليون فرنسي ضرائب أعلى، كما ستزداد صعوبة تمويل فرنسا في الأسواق المالية، ولن تُنفذ الإصلاحات الضرورية، ما سيؤدي إلى عدم استقرار كبير وتعقيدات مالية خطيرة”.
من جهته، حذر النائب عن الحزب الجمهوري فانسان جينبران من مغبة الإنسداد الحاصل بين الهيئتين التشريعية والتنفيذية، وقال: “عندما يجتمع اليمين واليسار المتطرفان، فإننا سنصبح في مأزق، وعندما لا نصوت على الميزانية، فهذا معناه نقصاً في الميزانية لمزارعينا وللمستشفيات وللشرطة، وزيادة في الضرائب لثمانية عشر مليون فرنسياً.
وأضاف جينبران لـ”الشرق”: “لا أعتقد أنه قرار صائب، سيضر الفرنسيين خلال الأسابيع و الأشهر المقبلة”.
خيارات ماكرون الضيقة
أعلنت الرئاسة الفرنسية أن ماكرون سيتوجه الخميس بخطاب إلى الأمة، غداة إسقاط نواب البرلمان للحكومة التي تشكلت قبل 3 أشهر فقط.
يأتي ذلك فيما دعا أقصى اليسار إلى استقالة ماكرون وتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، وهو الموقف الذي نأت عنه زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان متبنية خطاباً أكثر اعتدالاً.
وأكد ميلانشون أن ماكرون لن يكمل عهدته الرئاسية، وعليه الإسراع في تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة من أجل إنقاذ الجمهورية ومؤسسات الدولة الفرنسية، على حد تعبيره.
و كان جان فرانسوا كوبيه، القيادي في الحزب الجمهوري أطلق نفس الدعوة قبل أيام، مطالباً فيها الرئيس بالتنحي والاستقالة كحل وحيد للأزمة غير المسبوقة التي تعصف بفرنسا.
وفي السياق، أظهر استطلاع رأي أعده مركز “إيلاب”، أن 63% من الفرنسيين يؤيدون استقالة الرئيس إيمانويل ماكرون في حال إسقاط الحكومة بسبب حجب الثقة، ما يزيد من تعقيد المشهد السياسي في البلاد.
لكن ماكرون رفض مثل هذه الدعوات واستبعد إجراء انتخابات تشريعية جديدة. ولا يدعو الدستور الفرنسي الحالي إلى استقالة الرئيس بعد إطاحة الجمعية الوطنية بحكومته.
وقال الرئيس الفرنسي للصحافيين في وقت سابق من هذا الأسبوع: “لقد انتُخبت لأخدم حتى عام 2027، وسأفي بهذا التفويض”.
وينص الدستور أيضاً على أنه لا يمكن إجراء انتخابات تشريعية جديدة حتى يوليو على الأقل، ما يخلق طريقاً مسدوداً محتملاً لصناع السياسات.
وتوجه ميشال بارنييه الخميس إلى قصر الإليزيه لتقديم استقالته التزاماً بنص المادة 50 من الدستور.
وقال الإليزيه في بيان، الخميس، إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طلب من رئيس الوزراء ميشيل بارنييه وحكومته البقاء لتصريف الأعمال حتى ترشيح رئيس وزراء جديد.
وذكر فيليب بالار، النائب عن “التجمع الوطني”، أن “للرئيس الصلاحية التامة في اختيار رئيس حكومة جديد، و أضاف أنه يأمل أن يختار أعضاء من كل الأطياف السياسية، بما فيها “التجمع الوطني”، الذي يمثل 11 مليون فرنسي.
عدم اليقين الاقتصادي
أدى عدم الاستقرار السياسي إلى تفاقم المخاوف بشأن اقتصاد فرنسا، وخاصة ديونها، والتي قد ترتفع إلى 7٪ من الناتج المحلي الإجمالي العام المقبل دون إصلاحات كبيرة.
ويقول المحللون إن سقوط حكومة بارنييه قد يدفع أسعار الفائدة الفرنسية إلى الارتفاع، ما يزيد من حجم الدين، وفق “واشنطن بوست”.
وحذرت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني في وقت متأخر الأربعاء من أن سقوط الحكومة “يقلل من احتمالات تعزيز المالية العامة” ويزيد من الجمود السياسي.
ومن المتوقع أن يتناول خطاب ماكرون، المقرر في الساعة الثامنة مساءً بالتوقيت المحلي، هذه التحديات الاقتصادية مع تحديد مسار الحكومة المستقبلية.