كشفت دراسة حديثة نُشرت في دورية “لانسيت” أن الزيادة في متوسط العمر المتوقع في أوروبا قد تباطأت منذ عام 2011.
وأشارت الدراسة، التي أجراها باحثون من جامعة إيست أنجليا البريطانية بالتعاون مع مؤسسات أخرى، إلى أن عوامل مثل النظام الغذائي غير الصحي، وقلة النشاط البدني، والسمنة، بالإضافة إلى تأثير جائحة فيروس كورونا كانت من العوامل الرئيسية وراء هذا التباطؤ.
من بين جميع الدول الأوروبية التي شملتها الدراسة، كانت إنجلترا الدولة الأكثر تأثراً، حيث شهدت أكبر تباطؤ في تحسن متوسط العمر المتوقع. ويعني ذلك أنه بدلاً من التطلع إلى حياة أطول من آبائنا وأجدادنا، قد نجد أنفسنا نواجه انخفاضاً في متوسط العمر المتوقع.
ويعني تباطؤ متوسط العمر المتوقع، أن معدل الزيادة في عمر الأفراد عند الولادة لم يعد يتحسن بالوتيرة التي كان عليها في العقود السابقة، أو أنه قد استقر أو حتى تراجع في بعض الحالات.
يُعتبر متوسط العمر المتوقع أحد أهم المؤشرات التي تعكس صحة السكان وتطورهم. منذ بداية القرن العشرين، شهدت الدول ذات الدخل المرتفع زيادة مطردة في متوسط العمر المتوقع، مع توقف مؤقت خلال فترات الحروب العالمية وجائحة الأنفلونزا في عام 1918.
وقد تحققت هذه الزيادة بفضل التحسينات الكبيرة في معدلات وفيات الرضع، والتغذية، ومستويات المعيشة، ومكافحة الأمراض المعدية مثل السل والكوليرا.
تأثير جائحة كورونا
ومع ذلك، شهدت العقود الأخيرة تباطؤاً في وتيرة هذه الزيادة، خاصة بعد عام 2011، وتفاقم هذا التباطؤ بسبب جائحة كورونا التي أثرت بشكل كبير على معدلات الوفيات ومتوسط العمر المتوقع في العديد من الدول.
ومنذ عام 1900، ارتفع متوسط العمر المتوقع في الدول ذات الدخل المرتفع بشكل مستمر، مدفوعاً بالتحسينات في الرعاية الصحية وظروف المعيشة.
ومع ذلك، بدأت وتيرة هذه الزيادة في التباطؤ بعد عام 2011، حيث أظهرت البيانات انخفاضاً في معدلات التحسن السنوية. وقد عزت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية هذا التباطؤ إلى عدة عوامل، منها انخفاض وتيرة الحد من الوفيات الناجمة عن أمراض القلب والأوعية الدموية وبعض أنواع السرطان، وزيادة الوفيات الناجمة عن أمراض الجهاز التنفسي بين كبار السن في بعض فصول الشتاء.
ويتراوح متوسط العمر المتوقع لسكان أوروبا عادة بين 78 إلى 83 عاماً، مع تفاوتات بين الدول حيث تسجل دول مثل سويسرا وإسبانيا وإيطاليا أعلى المعدلات (حوالي 83 عاماً)، بينما تكون المعدلات أقل في بعض دول أوروبا الشرقية (حوالي 74-77 عاماً).
وبحسب الورقة البحثية؛ يعود هذا التباطؤ إلى عدة عوامل، مثل ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض القلب والسمنة، وتزايد العوامل البيئية الضارة، وتباطؤ التقدم في الرعاية الصحية والوقاية.
وأوضح المؤلف الرئيسي للدراسة، نيك ستيل، الباحث في كلية الطب بجامعة “إيست أنجليا” البريطانية، أن التحسينات الكبيرة التي شهدها متوسط العمر المتوقع خلال القرن العشرين، والتي كانت مدفوعة بالتقدم في الصحة العامة والطب، لم تستمر بنفس الوتيرة بعد عام 2011.
وفي الفترة من عام 1990 إلى 2011، كان هناك انخفاضاً كبيراً في معدلات الوفيات الناتجة عن أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطانات، مما أدى إلى تحسن ملحوظ في متوسط العمر المتوقع.
ولكن بعد 2011، شهدت هذه التحسينات تباطؤاً كبيراً، إذ كانت أمراض القلب والأوعية الدموية العامل الرئيسي وراء هذا التراجع بين عامي 2011 و2019، ومع ظهور جائحة كورونا تفاقم الوضع، حيث أدت الجائحة إلى انخفاض واضح في متوسط العمر المتوقع بين عامي 2019 و2021.
وأشارت الدراسة إلى أن بعض عوامل الخطر الصحية الكبرى مثل السمنة، وارتفاع ضغط الدم، وارتفاع نسبة الكوليسترول إما ازدادت أو توقفت عن التحسن في معظم الدول الأوروبية، فعلى الرغم من تحسن العلاجات الطبية لضبط مستويات الكوليسترول وضغط الدم، إلا أنها لم تكن كافية للتعويض عن التأثيرات السلبية للسمنة والنظام الغذائي غير الصحي.
واعتمد الباحثون في دراستهم على بيانات دراسة عبء الأمراض العالمية، والتي تعدّ واحدة من أكثر الدراسات شمولاً في قياس فقدان الصحة على مستوى العالم، حيث تعتمد على مساهمات ما يقرب من 12 ألف باحث من أكثر من 160 دولة.
وقام الفريق بمقارنة التغيرات في متوسط العمر المتوقع وأسباب الوفاة ومستويات التعرض لعوامل الخطر عبر الفترات الزمنية من 1990–2011، و2011–2019، و2019–2021.
ومن بين الدول التي شملتها الدراسة النمسا، وبلجيكا، والدنمارك، وفنلندا، وفرنسا، وألمانيا، واليونان، وأيسلندا، وإيرلندا، وإيطاليا، ولوكسمبورج، وهولندا، والنرويج، والبرتغال، وإسبانيا، والسويد، وإنجلترا، وأيرلندا الشمالية، واسكتلندا، وويلز. ورغم التباطؤ في تحسن متوسط العمر المتوقع، أكدت الدراسة أننا لم نصل بعد إلى الحد البيولوجي الأقصى لطول العمر.
سياسات صحية قوية
ويقول ستيل، إن متوسط العمر المتوقع في العديد من الدول لا يزال يتحسن بين كبار السن، مما يدل على وجود إمكانية لتقليل عوامل الخطر والوقاية من الوفيات المبكرة.
وأوضحت الدراسة أن الدول التي تبنت سياسات صحية وطنية قوية، مثل النرويج، وأيسلندا، والسويد، والدنمارك، وبلجيكا، تمكنت من الحفاظ على معدلات مرتفعة لمتوسط العمر المتوقع بعد عام 2011.
وعلى العكس، كانت إنجلترا والدول الأخرى في المملكة المتحدة من بين الأكثر تضرراً، سواء بعد 2011 أو خلال جائحة كورونا، وذلك بسبب ارتفاع معدلات الإصابة بأمراض القلب والسرطان نتيجة النظام الغذائي غير الصحي.
ويعلق الباحث جون نيوتن، من المركز الأوروبي للبيئة والصحة البشرية بجامعة إكستر على النتائج، قائلاً: “يجب أن نشعر بالقلق بسبب التراجع الملحوظ في تحسن متوسط العمر المتوقع في العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة”.
ولكن هناك أيضاً أمل، إذ أثبتت الدراسة أن معالجة الأسباب الجذرية للأمراض الكبرى يمكن أن يكون فعالاً إذا استمرت التحسينات في تقليل المخاطر الصحية الأساسية.
وشدد الباحثون على أهمية الوقاية باعتبارها حجر الأساس لمجتمع أكثر صحة، كما أشاروا إلى أن التباطؤ في تحسن متوسط العمر المتوقع، خاصة بسبب أمراض القلب والسرطان، يتطلب اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لمعالجة الأسباب الأساسية مثل سوء التغذية والسمنة وقلة النشاط البدني.