في 5 يونيو الماضي، انطلقت رحلة “بوينج” التجريبية “ستارلاينر” لتنقل رائدي فضاء من وكالة “ناسا”، هما باري ويلمور، وسونتيا ويليامز إلى محطة الفضاء الدولية، في مهمة كان من المفترض أن تستمر 8 أيام، إلا أن محركات الكبسولة الفضائية التجريبية تعطلت، وتسرب منها غاز “الهيليوم” أثناء التحامها بمحطة الفضاء الدولية.
وتدرس “ناسا” إبقاء رائدي الفضاء حتى فبراير المقبل، نتيجة للمشاكل التي واجهتها المركبة الفضائية خلال الرحلة، وقالت الوكالة يوم الأربعاء، إنها لا تزال تقيم الخيارات حول كيفية إعادة رواد الفضاء إلى الأرض بأمان، وإنه لم يتم وضع خطة بعد، ولكن المسؤولين أقروا بشكل أكثر صراحة من ذي قبل بأنهم قد يقررون استخدام كبسولة “سبيس إكس”.
وقال ستيف ستيتش، مدير برنامج الطاقم التجاري في ناسا، خلال مؤتمر صحافي: “خيارتنا الأساسية هي إعادة رائدي الفضاء على متن ستارلاينر، ومع ذلك، لقد قمنا بالتخطيط اللازم للتأكد من أن لدينا خيارات أخرى مفتوحة، ولذلك نعمل مع سبيس إكس لضمان استعدادهم للمساعدة”.
وترغب “ناسا” في أن تصبح “ستارلاينر” ثاني مركبة أميركية قادرة على الانطلاق برواد فضاء إلى المحطة الدولية، إلى جانب المركبة “كرو دراجون” التابعة لشركة “سبيس إكس”، والتي تستخدمها الوكالة بشكل رئيسي منذ 2020.
ومع توالي تأجيلات عودة الرحلة، ماذا نعرف عن كبسولة بوينج؟ وكيف تعطلت؟
“ستارلاينر” مركبة فضائية قابلة لإعادة الاستخدام جزئياً، ومصممة لنقل الطاقم إلى محطة الفضاء الدولية وغيرها من الوجهات ذات المدار الأرضي المنخفض، جرى تصميمها وتصنيعها من شركة “بوينج”، بالتعاون مع برنامج الطاقم التجاري التابع لوكالة ناسا”، وتتضمن كبسولة طاقم قابلة لإعادة الاستخدام، وقادرة على القيام بما يصل إلى عشرة مهام، ووحدة خدمة.
ويبلغ قطر الكبسولة حوالي 4.56 متر، فيما يبلغ طولها 5 أمتار ويبغ وزنها وهي فارغة 13 ألف كيلوجرام وهي أكبر قليلاً من وحدة قيادة “أبولو”، أو “سبيس إكس كرو دراجون”، ولكنها أصغر من كبسولة “أرتميس أوريون”، ويمكنها استيعاب ما يصل إلى سبعة أفراد من الطاقم والبقاء على اتصال بمحطة الفضاء الدولية لمدة تصل إلى 7 أشهر.
في يوليو 2010، توقعت “بوينج” أن تكون “ستارلاينر” جاهزة للعمل في وقت مبكر من عام 2015، بشرط الحصول على الموافقة والتمويل في الوقت المناسب، وبحلول أكتوبر 2011، أعلنت وكالة “ناسا” أن “بوينج” ستستأجر منشأة في مركز كينيدي للفضاء لتصنيع واختبار المركبة.
مركبات ستارلاينر.. تأخيرات متتالية
وفي 16 سبتمبر 2014، اختارت وكالة “ناسا” مركبات “ستارلاينر” التابعة لشركة “بوينج”، و”كرو دراجون” التابعة لشركة “سبيس إكس”، كمركبتين فضائيتين لنقل رواد الفضاء من وإلى محطة الفضاء الدولية، وحصلت “بوينج” على عقد بقيمة 4.2 مليار دولار لإكمال “ستارلاينر” بحلول عام 2017، بينما حصلت “سبيس إكس” على عقد بقيمة 2.6 مليار دولار لـ”كرو دراجون”.
وتضمنت هذه العقود رحلة تجريبية واحدة على الأقل مأهولة مع وجود رائد فضاء من “ناسا” على متنها، وكان من المقرر أن تجري “بوينج” ما لا يقل عن رحلتين مأهولتين، وربما ما يصل إلى 6 رحلات مأهولة إلى محطة الفضاء الدولية، وقتها؛ اعتبر العديد من المسؤولين في الوكالةأن عرض “بوينج” لمركبة “ستارلاينر”، أقوى من مقترحات شركة “سبيس إكس”، لتنفيذ كبسولة “كرو دراجون”.
لكن شركة “بوينج” واجهت تجاوزات في الميزانية تزيد عن 1.5 مليار دولار في مشروع “ستارلاينر”، بسبب التأخيرات والتحديات الإدارية وقضايا الهندسة، وقد أثارت التكلفة المرتفعة لكل رحلة انتقادات من مدير الوكالة والمراقبين، خاصة عند مقارنتها بالتكاليف المنخفضة بشكل كبير لمركبة “كرو دراجون” المنافسة.
وكان من المقرر في الأصل إجراء أول رحلة تجريبية مأهولة في عام 2017، لكن التأخيرات المختلفة دفعت الإطلاق إلى التأخير؛ حتى تم إجراء أول اختبارين لرحلة مدارية غير مأهولة للمركبة الفضائية في عامي 2019، و2022.
أعطال كارثية
وقالت وكالة “ناسا” في 7 فبراير 2020 إن خطأين في البرمجيات تم اكتشافهما أثناء الاختبار غير المأهول الأول، أحدهما منع الالتحام المخطط له بمحطة الفضاء الدولية، وكان من الممكن أن يؤدي كل منهما إلى تدمير المركبة الفضائية، لو لم يتم اكتشافهما وتصحيحهما في الوقت المناسب.
وقد وجد فريق تحقيق مشترك بين “ناسا”، و”بوينج” أن “العيبين الحرجيين في البرمجيات لم يتم اكتشافهما قبل الرحلة على الرغم من الضمانات المتعددة”، وفقًا لبيان الوكالة، وحدد فريق المراجعة 80 توصية كانت “بوينج”، بالتعاون مع “ناسا”، تعالجها في عام 2020.
ونظراً لأن أول رحلة تجريبية لم تحقق أهدافها، قال مسؤولو “بوينج” في 6 أبريل 2020 إن كبسولة طاقم “ستارلاينر” ستطير في مهمة تجريبية ثانية بدون طيار، قبل إرسال رواد الفضاء، وبعدها قالوا في 25 أغسطس 2020 إنهم مهدوا الطريق لأول مهمة تجريبية مع رواد فضاء في منتصف عام 2021.
قام الباحثون في “بوينج” بإجراء عمليات تعديل جوهرية على المركبة؛ من ضمنها غطاء مخصص لدعم المركبة وحمايتها أثناء عودتها؛ وتثبيت لسخان الوقود؛ وتعديل نظام المظلة لتخفيف صدمة الهبوط.
وفي 10 نوفمبر 2020، قال مدير برنامج الطاقم التجاري التابع لوكالة “ناسا”، ستيف ستيتش، إن اختبار الرحلة المدارية الثانية سيتأخر حتى الربع الأول من عام 2021 بسبب مشاكل في البرامج.
واستمر الاختبار غير المأهول في التأخر، وتم تحديد موعده في مارس 2021 مع استهداف لموعد الرحلة المأهولة في الصيف التالي. إلا أن الرحلة التجريبية غير المأهولة تأجلت مرة أخرى بسبب صعوبات تقنية جديدة.
تآكل بسبب الرطوبة
وخلال نافذة الإطلاق في أغسطس 2021، تم اكتشاف بعض المشكلات في 13 صماماً لنظام الدفع في المركبة الفضائية قبل الإطلاق؛ بعد أن تم تثبيت المركبة على صاروخ الإطلاق؛ ما اضطر الشركة إلى تفكيك المركبة مرة أخرى، وإعادتها إلى المصنع.
واكتشفت “بوينج” تآكلاً في الصمامات بسبب تسرب الرطوبة، والتي تفاعلت مع الوقود، لكن مصدر الرطوبة لم يكن واضحاً، وبحلول أواخر سبتمبر 2021، لم تحدد الشركة السبب الجذري للمشكلة، وتأخرت الرحلة حتى انطلقت في 19 مايو 2022 وهي تحمل دمية اختبار ترتدي بدلة الفضاء الزرقاء أثناء الطيران.
ورصد العلماء فشل محركان مسؤولان عن نظام التحكم في المناورة المدارية؛ لكن المركبة الفضائية كانت قادرة على تعويض قوتهما باستخدام المحركات المتبقية، كما فشل محركان من نظام التحكم المستخدم في مناورة “ستارلاينر” أثناء الالتحام بسبب انخفاض ضغطهما، وأظهرت بعض الأنظمة الحرارية المستخدمة لتبريد المركبة الفضائية درجات حرارة أبرد من المطلوب، مما تطلب من المهندسين إدارتها أثناء الالتحام.
في 22 مايو 2022، التحمت الكبسولة بمحطة الفضاء الدولية؛ وبعد 3 أيام عادت الكبسولة من الفضاء وهبطت بنجاح؛ وأثناء الدخول في الغلاف الجوي، فقدت إحدى أنظمة الملاحة الاتصال بأقمار نظام تحديد المواقع العالمي.
كان اختبار الطيران المأهول لمركبة “ستارلاينر” هو العقبة الأخيرة قبل أن يتم السماح للمركبة الفضائية بالمهام التشغيلية المنتظمة، وتضمّن هذا الاختبار الحاسم إرسال طاقم مكون من شخصين إلى محطة الفضاء الدولية للإقامة لمدة 8 أيام، وبعد التقييم الناجح والموافقة على بيانات اختبار الطيران، سيتم اعتماد “ستارلاينر” للمهام الروتينية.
المركبة الفضائية ونجاح جزئي
دُمجت المركبة الفضائية مع صاروخ الإطلاق “أطلس في” في 16 أبريل 2024 استعداداً للإطلاق، وكان من المقرر أن تتم الرحلة في 7 مايو 2024 ولكن تم إلغاؤها قبل ساعتين تقريباً من الإقلاع بسبب مشكلة في صمام أكسجين صاروخ الإطلاق، ثم تأخر الإطلاق مراراً، بسبب تسرب الهيليوم، والذي يستخدم لضغط محركات نظام التحكم في التفاعل في وحدة خدمة في “ستارلاينر”.
وكانت محاولة الإطلاق الثانية في 1 يونيو الماضي، ولكن تم إلغاؤها قبل 3 دقائق و50 ثانية من الإقلاع عندما سجل كمبيوتر تسلسل الإطلاق الأرضي خلل في مصدر الطاقة، وكانت محاولة الإطلاق الثالثة في 5 يونيو ناجحة جزئياً.
وواجهت المهمة تحديات فنية كبيرة أثناء رحلتها التي استمرت 25 ساعة؛ ومن بين هذه التحديات تسرب الهيليوم، وخلل في نظام الدفع، وكلاهما يشكل مخاطر كبيرة على نجاح المهمة وسلامة الطاقم.
تسرب الهيليوم
يلعب الهيليوم دوراً حاسماً في تشغيل مركبة “ستارلاينر” الفضائية، وخاصة في الضغط على محركات الدفع لنظام التحكم في التفاعل، وهي المحركات الضرورية لمناورة المركبة الفضائية، بما في ذلك الالتحام بمحطة الفضاء الدولية، وإجراء تصحيحات المسار أثناء الرحلة، وتم اكتشاف العديد من تسربات الهيليوم، مما أدى إلى تعريض أداء هذه الأنظمة الحرجة للخطر.
ولا يعرف أحد على وجه الدقة سبب ذلك التسريب؛ لكن المواد المستخدمة في أنظمة السباكة، والصمامات الخاصة بالمركبة الفضائية ربما تعرضت للإجهاد أو التدهور، وخاصة في ظل الظروف القاسية للسفر في الفضاء، وقد يؤدي هذا إلى حدوث شقوق مجهرية، أو فشل في السدادات، مما يؤدي إلى تسرب الهيليوم.
كما أن المركبة الفضائية تتعرض لتغيرات شديدة في درجات الحرارة أثناء رحلتها، من الفراغ البارد في الفضاء إلى الحرارة التي تولدها أنظمة المركبة الفضائية، ويمكن أن تتسبب هذه التقلبات في درجات الحرارة في التمدد والانكماش الحراري، مما يؤدي إلى إجهاد السدادات والمفاصل، مما قد يساهم في حدوث تسربات.
ومع عدم كفاية الهيليوم للحفاظ على الضغط المناسب، لن تتمكن المحركات من العمل بكامل كفاءتها، وقد يشكل هذا خطراً على قدرة المركبة الفضائية على المناورة بدقة، وخاصة أثناء عملية الهبوط على الأرض.
بالإضافة إلى تسرب الهيليوم، تعطلت مجموعة من دافعات المركبة البالغ عددها 28 أثناء الرحلة؛ وتعد الدوافع حيوية للتحكم في موقف المركبة الفضائية، وتنفيذ تصحيحات المسار، وفشل الدافع المعطل في البداية في الاستجابة للأوامر، مما أدى إلى المساس بقدرة المركبة الفضائية على المناورة.
تحليل البيانات لكشف الأسباب
وقد يكون الخلل ناتجاً عن مشاكل كهربائية، مثل ماس كهربائي، أو فشل في إلكترونيات التحكم في الدافع، ويمكن أن تؤدي الأعطال الكهربائية إلى تعطيل الاتصال بين أنظمة التحكم في المركبة الفضائية والدافع، مما يؤدي إلى حدوث خلل، كما يمكن أن يمنع الانسداد في خطوط الوقود التي تغذي الدافع من إطلاقه.
ومع تعطل أحد الدوافع، تنخفض قدرة المركبة الفضائية على التحكم في مسارها وإجراء تعديلات دقيقة، وقد يؤثر هذا على إجراءات الالتحام أو يجعل من الصعب الحفاظ على المسار الصحيح، مع زيادة عبء العمل على الدافعات المتبقي، وحتى الآن؛ تستمر فرق “ناسا”، و”بوينج” في تحليل البيانات
وبحسب “ناسا”، فبينما يجري المهندسون دراساتهم على المركبة الفضائية على الأرض، يتابع رائدا الفضاء “ويلمور”، و”ويليامز” عن كثب تقدم فريق الأرض أثناء وجودهما على متن المحطة، واندمج الثنائي في عبء العمل اليومي للمختبر المداري، مما يمنح المحطة طاقماً مكوناً من تسعة أفراد حيث تتداخل مهمتهما مع البعثة 71.
وعمل رواد الفضاء بشكل أساسي على صيانة المختبر على متن المحطة المدارية، ويوم الأربعاء، أمضى “ويلمور” وقتًا في فحص أجهزة السباكة المتقدمة ثم حزم مكونات دعم الحياة للعودة إلى الأرض؛ فيما قامت “ويليامز” بتركيب معدات فيديو عالية الدقة داخل وحدة مختبر كولومبوس ثم فحص قارئ الباركود، وأجهزة التردد اللاسلكي.