بدأ مسؤولون أوروبيون إدراك حقيقة لطالما أشار إليها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، مفادها أن الولايات المتحدة لم تعد تريد أن تكون الضامن الأساسي للأمن في أوكرانيا أو في القارة ككل، ما يضعها أمام تحديات وفجوات دفاعية تتطلب حلولاً فاعلة. حسبما أوردت صحيفة “فاينانشيال تايمز”.
وأكد وزير الدفاع الأميركي بيت هيجسيث، هذه الرسالة بشكل قاطع، الأسبوع الماضي، وذلك في خطاب صدم العديد من الأوروبيين، إذ حذر الشركاء من أن الوجود العسكري الأميركي في أوروبا “لن يكون أبدياً”.
ورغم أن ترمب ليس الرئيس الأميركي الوحيد الذي انتقد حلفاء الولايات المتحدة في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، فإنه أول مَن أجبر أوروبا على التفكير بجدية في ما يجب أن تفعله، إذا قررت الولايات المتحدة سحب درعها الدفاعي.
وتشعر الدول الواقعة على الجانب الشرقي من “الناتو” بقلق خاص حيال إمكانية نجاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تأمين انسحاب القوات الأميركية من أراضيها.
ويتعين على أوروبا تنفيذ قائمة من المهام لزيادة إنفاقها الدفاعي وتحسين دفاعاتها الجوية، واستبدال المعدات في مجال الدعم اللوجستي وغيرها من المعدات التي توفرها المؤسسة العسكرية الأميركية، فضلاً عن كيفية تحسين جاهزية القوات الأوروبية والحفاظ على رادع نووي فعَّال.
ولفتت الصحيفة إلى أن الإلحاح المتزايد في أوروبا يظهر بوضوح في المناقشات حول إعادة التسليح الدفاعي، التي تسارعت وتيرتها في الأيام الأخيرة، مع تركيز المحادثات على كيفية زيادة الميزانيات العسكرية الوطنية وإيجاد آليات مالية جديدة لجمع الأموال لتمويل المشاريع المشتركة.
قائمة المهمات الأوروبية
وتشمل المشروعات الدفاعية، درعاً دفاعياً جوياً أوروبياً شاملاً، لسد الثغرات الكبيرة في أنظمة الحماية الجوية والصاروخية غير المتجانسة في القارة، وأنظمة النقل مثل الطائرات الثقيلة للتنقل السريع والتزود بالوقود في الجو، التي توفرها حالياً الولايات المتحدة فقط.
واعتبرت الصحيفة، أن التحدي الحالي يكمن في أن الجيوش الأوروبية تم تجميعها وتدريبها على مدى 80 عاماً للاعتماد على الدعم الأميركي، وأن استبدال ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً ومليارات اليوروهات.
ويرى مسؤولون ومحللون أن الخطر الأكبر هو أن يسحب ترمب، 20 ألف جندي أميركي أرسلهم الرئيس السابق جو بايدن إلى بولندا ورومانيا ودول البلطيق بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في أوائل عام 2022.
وكان الرئيس الأميركي قد صرَّح، الثلاثاء، بأنه لا يريد سحب جميع القوات الأميركية من أوروبا كجزء من اتفاق سلام، قائلاً: “لا أحد يطلب فعل ذلك”، مضيفاً أنه سيدعم نشر قوات حفظ سلام أوروبية في أوكرانيا بسيناريو ما بعد الحرب، موضحاً: “إذا أرادوا القيام بذلك، فهذا رائع.. أنا أؤيد ذلك إذا أرادوا القيام به”.
وقال رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، إنه كان متردداً في التعهد بإرسال قوات بولندية إلى أوكرانيا في مرحلة ما بعد الحرب كجزء من “قوة طمأنة” أوروبية، لأن ذلك قد يترك بلاده، التي تحد روسيا وحليفتها بيلاروس، عرضة للخطر.
كما نقلت الصحيفة عن أحد وزراء الخارجية الأوروبيين قوله: “نطلق عليهم (الأميركيين) الحليف الذي لا غِنى عنه لسبب وجيه، إذ لا يمكننا إدارة أي شكل من أشكال العمليات العسكرية المعقدة من دونهم، أو حتى تحمل المهام البسيطة”.
وقال وزير الدفاع البلجيكي، ثيو فرانكن، لـ”فاينانشيال تايمز”، إن “غالبية أنظمة الدفاع الأساسية في أوروبا كانت من الولايات المتحدة.. عندما نتحدث عن طائرات F-35 وعن أنظمة الصواريخ أرض-جو، فهي كلها أميركية تقريباً”.
وأضاف الوزير أن طائرات “شينوك” الأميركية، هي الخيار الأفضل فيما يتعلق بطائرات مروحية الثقيلة، مشيراً إلى أن الطائرة المماثلة NH90، التي تم تطويرها من قبل مجموعة أوروبية، كانت “مروعة”.
ووفق الصحيفة، من الناحية النظرية، يجب أن يكون من السهل على أوروبا توفير عدد كافٍ من الجنود لحماية حدودها من أي هجوم، إذ تضم الجيوش الأوروبية ما يقرب من مليوني عسكري، مع 1.3 مليون في الاتحاد الأوروبي وحده، لكن عملياً، العديد من هذه القوات غير مؤهلة للانتشار.
تغيير قواعد اللعبة
ونقلت الصحيفة عن جاك واتلينج، وهو زميل بارز في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في لندن قوله: “ما قاله هيجسيث غير مريح أبداً، لكن إذا كان ذلك سيُجبر أوروبا على تنظيم أمورها، فقد يكون هذا هو الدافع الشديد الذي نحتاجه”.
وترى كاميل جراند، وهي مسؤولة سابقة رفيعة المستوى في حلف الناتو، وتعمل حالياً في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أنه، حال حصول أوروبا على هذه الأصول الاستراتيجية، فإن ذلك سيشكل “أكبر تغيير في قواعد اللعبة”، إذ ستتمكن أوروبا من أداء المهام العسكرية بشكل كامل تقريباً، دون مساعدة الولايات المتحدة.
ونقلت الصحيفة عن بِن باري، وهو عميد سابق في الجيش البريطاني وزميل بارز في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، قوله “غالباً ما تكون هناك فجوة كبيرة بين القدرات ومدى جاهزية القوات، كما أنه من غير الواضح أيضاً ما إذا كانت القوات الأوروبية لديها مخزونات كافية من الذخيرة والإمدادات وقطع الغيار”.
فجوة الحرب النووية
أما فابيان هوفمان، باحث دكتوراه في “مشروع أوسلو النووي”، فيرى أنه حال أعلنت الولايات المتحدة رسمياً أنها لن تحمي أوروبا، فإن الدول الأوروبية في الناتو ستفقد الوصول إلى الأسلحة النووية التكتيكية الأميركية المُصمَمة لتدمير الأهداف في منطقة معينة، على عكس الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية المُصمَمة لتدمير المدن بأكملها، محذراً من أن عدم امتلاك القارة للأسلحة النووية التكتيكية سيؤدي إلى خلق “فجوة ردع”، التي يمكن لروسيا استغلالها بترسانتها الخاصة.
وقال مسؤول عسكري غربي رفيع، إن “دول الناتو الأوروبية تمتلك صواريخ كروز وأخرى باليستية، لكن الخطوة التالية على سلم التصعيد هي الحرب النووية الشاملة، وهذه فجوة نحتاج إلى سدها”.
ولا تعد رغبة أوروبا في “الاستقلال الدفاعي” جديدة، حيث تمت تجربتها طوال معظم تاريخ الناتو، بدءاً من فكرة إنشاء مجتمع الدفاع الأوروبي في أوائل خمسينيات القرن الماضي، لكن كل تلك الجهود فشلت، كما أنها جرت عندما كانت الولايات المتحدة لا تزال مستعدة لتحمل تكاليف الدفاع الأوروبي.
وتناقش الحكومات الأوروبية، سُبل تمويل مشاريع الدفاع المشتركة بشكل جماعي، بما في ذلك مع بريطانيا وغيرها من الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
واعتبرت الصحيفة أن القضية الاستراتيجية الأكبر التي تواجه أوروبا الآن هي مستقبل “المظلة النووية” الأميركية، لا سيما الأسلحة النووية التكتيكية التي تفتقر إليها دول القارة، حيث تمتلك فرنسا وبريطانيا، القوتين النوويتين في أوروبا، نحو 515 رأساً نووياً، لكن هذه الأسلحة هي في الغالب أسلحة استراتيجية.