يواجه الاتحاد الأوروبي اليوم تحديات كبيرة بين إرث “أوروبا القديمة”، التي قامت على القيم الليبرالية والتكامل السياسي والاقتصادي، وبين صعود النزعات القومية والتوجهات الأحادية التي عززها المدّ “الترامبي” في العلاقات الدولية، وكذلك، الضغوط التي تمارسها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ولعلّ أبرزها حث دول القارة العجوز على زيادة إنفاقها العسكري، والسير في خطة سلام بين روسيا وأوكرانيا.
وأسهم الغزو الروسي لأوكرانيا، والدور الداعم الذي تلعبه الصين، وسط تزايد انشغال الولايات المتحدة بمواجهة بكين الصاعدة، وضغط ترمب على الأوروبيين لزيادة ميزانيات تسليح دولهم في خلق “لحظة حاسمة”، أصبح لزاماً عليهم فيها تحمل مسؤولية أكبر عن أمنهم.
وفي ردٍّ على سؤال لـ”الشرق”، خلال مشاركته في قمة الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي، شدد رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر على أهمية مواصلة توفير الدعم لأوكرانيا، بالقدرات والتدريب والتمويل، و”إبقائها في موقع قوي”، فيما اعترف رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك أن “الوحدة الأوروبية أمام أول تحدٍ جاد، بسبب موضوع الإنفاق العسكري”، معتبراً أن هذه المرحلة ربما تمثل “أول اختبار حقيقي لوحدة هذا الكيان”.
ومن أجل ذلك، تعمل الدول الأوروبية على زيادة ميزانيات الدفاع، إذ تمكن معظمها من تحقيق هدف حلف شمال الأطلسي “الناتو” المتمثل في تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، مع تخصيص ما لا يقل عن 20% من هذا الإنفاق على المعدات العسكرية. وقد تجاوزت العديد من الدول هذه الأهداف، لكن تحقيق خطط الدفاع الإقليمية للحلف سيظل بحاجة إلى المزيد من الجهود، خاصة فيما يتعلق بتوفير قوة عالية الجاهزية تضم 300 ألف جندي لتعزيز الجناح الشرقي.
لكن أمين عام حلف “الناتو” مارك روته، الذي كان رئيساً سابقاً للوزراء في هولندا، علّق على جهود الدفاع الأوروبية، بالتأكيد على إمكانية تعزيز الشراكة، شريطة أن يُنظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه ركيزة داعمة لحلف شمال الأطلسي، وليس منافساً له.
ويأتي تصريح روته هذا، في سياق الرد على مخاوف بشأن تخلّف دول الاتحاد الأوروبي عن الوفاء بإنفاق ما نسبته 5% من الناتج المحلي لكلٍ منها، كميزانية دفاعية، وفق ما يطالب به ترمب، وربما في إشارة ضمنية إلى الدعوات لأن يؤسس الاتحاد الأوروبي جيشاً مستقلاً، وينتج مقاربة أمنية مستقلة بعيداً عن حلف “الناتو” والولايات المتحدة.
الاتحاد الأوروبي بين التفكك والمراوغة
مع كل أزمة تبرز في أوروبا، يتجدد السؤال حول تأثير الأزمات على مستقبل الوحدة الأوروبية، مما يطرح معضلة أساسية في السياسات الإقليمية: هل تدفع هذه الأزمات الكتلة الأوروبية نحو المزيد من التماسك أم نحو التفكك؟
ويمكن أن تشكل الأزمات حافزاً لتعزيز استقلالية أوروبا، لا سيما في ظل تزايد الدعوات داخل فرنسا وألمانيا لإنشاء قوة دفاعية مستقلة، وتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، لا سيما مع التغيرات الجيوسياسية وتراجع الالتزام الأميركي بأمن القارة.
ومع ذلك، تظل الانقسامات الداخلية بين دول شرق وغرب أوروبا، وبين الدول الكبيرة والصغيرة، عائقاً أمام تحقيق هذه الرؤية، فبعض الدول، مثل بولندا ودول البلطيق، تُفضل البقاء تحت المظلة الأميركية، بدلاً من تعزيز الدفاع الأوروبي المشترك، خشية التهديدات الروسية المحتملة. كما أن التباين في وجهات النظر بشأن كيفية تحقيق هذه الاستقلالية يُشكل تحدياً إضافياً أمام توحيد السياسات الدفاعية والتكنولوجية.
“أول تحدٍ جاد” أمام الاتحاد الأوروبي
وعلى الرغم من أن بعض دول الاتحاد الأوروبي، مثل بولندا ودول البلطيق، قد بلغت بالفعل هدف الإنفاق الدفاعي، أو اقتربت منه، فإن دولاً أخرى، مثل إيطاليا وإسبانيا وألمانيا والمملكة المتحدة، لا تزال بعيدة عن تحقيق هذا الهدف.
وفي هذا السياق، شدد رئيس وزراء بولندا دونالد توسك لـ”الشرق”، على “ضرورة تجنب الحرب التجارية غير الضرورية والغبية بين الولايات المتحدة وأوروبا”، معتبراً أن هذه “نصيحة لكل زملائي في الاتحاد الأوروبي”.
وأكد على وجوب أن يدرك الحلفاء الأوروبيون أثناء “محادثاتنا المحتملة مع الأصدقاء الأميركيين، أننا لا نستطيع أن نفقد المنطق السليم. ولا يمكننا أن نفقد إدراكنا لمصالحنا، لكن في الوقت نفسه، لا يمكننا أن نفقد احترامنا لذاتنا الأوروبية وثقتنا بأنفسنا”.
وأضاف توسك، الذي شَغَل سابقاً منصب رئيس المجلس الأوروبي، أحد أهم الأذرع التنفيذية في الاتحاد، أن هذه المرحلة “ربما تمثل أول اختبار جاد للوحدة الأوروبية في سياق غير مسبوق”، حيث تواجه القارة تحديات متعلقة بالإنفاق العسكري المتزايد بين الحلفاء عبر المحيط الأطلسي.
وأكد رئيس الوزراء البولندي، خلال مشاركته في قمة الاتحاد الأوروبي، الأسبوع الماضي، أنه كان دائماً داعماً لعلاقات أطلسية قوية، مشيراً إلى أن دولاً مثل الدنمارك ودول البلطيق تتبنى هذا النهج أيضاً، نظراً إلى قربها الجغرافي ومصالحها الأمنية المشتركة.
تحذير من تداعيات وقف الدعم الأميركي لأوكرانيا
يرى الخبير في الشؤون الأوروبية جيري موريسيو، من جامعة جورج ميسن في بروكسل، أن الحل يكمن في تقديم مساعدات مالية وعسكرية لأوكرانيا بقيمة 30 مليار دولار سنوياً، وهو المبلغ نفسه الذي تدفعه واشنطن، وفق المقاربة الأمنية المتفق عليها بين الولايات المتحدة وأوكرانيا.
ومع ذلك، أشار إلى أن توقف الولايات المتحدة عن دفع هذا المبلغ قد يؤدي إلى خلق بيئة صعبة ومعقدة.
وعلى الرغم من تشكيكه في احتمال توقف المساعدات الأميركية لأوكرانيا، حثَّ موريسيو الأوروبيين على مواصلة الإنفاق الدفاعي، مشدداً على ضرورة أن يطوّر الأوروبيون استراتيجية عسكرية واضحة المعالم، بحيث يتم تنسيق هذه المساعدات بشكل فعال بدلاً من أن تظل غير منظمة وغير ذات جدوى.
معاقبة روسيا وسط استمرار الحاجة إلى غازها
وأضاف موريسيو أن الاتحاد الأوروبي فشل في فرض عقوبات موحدة على روسيا بسبب غياب التوافق بين الدول الأعضاء، لا سيما أن بعض الدول، مثل فرنسا وإسبانيا، لا تزال تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي.
وأوضح موريسيو أن هذا الوضع يُشكل تحدياً كبيراً أمام تبني مقاربة فعالة للحد من النفوذ الروسي في الصراع الدائر بين موسكو وكييف.
أوكرانيا المصير الغامض
ويبدو أن الخطة المعروفة بمعاهدة أوكرانيا، التي أطلقها مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جيك سوليفان، في منتصف العام الماضي، قد أُلغيت بعدما منح ترمب الأوروبيين مهلة زمنية لإيجاد مقاربة سلام في أوكرانيا.
ومع استمرار الحرب وتصاعد المخاوف من احتمال استهداف روسيا لدول أوروبا الشرقية مستقبلاً، برزت توترات جديدة بين أوروبا والولايات المتحدة، لا سيما بعد فرض ترمب رسوماً جمركية على كبار الشركاء التجاريين لواشنطن، ما أثار شبح حرب تجارية عبر الأطلسي.
وبحسب تقارير صحافية غربية، فإن المبعوث الخاص للرئيس ترمب إلى أوكرانيا وروسيا، كيث كيلوج، الذي سيشارك الجمعة 14 فبراير، في مؤتمر ميونيخ للأمن، نفى صحة الحديث عن أنه سيعلن عن مقترح البيت الأبيض للسلام خلال وجوده في ألمانيا.
في الوقت نفسه، هناك وعي متزايد في عواصم الاتحاد الأوروبي بضرورة اتباع نهج أوروبي مشترك في مجال الدفاع، مع التركيز على بناء “تحالف من الراغبين”، يضم المملكة المتحدة والنرويج، رغم كونهما خارج الاتحاد الأوروبي، باعتباره مساراً محتملاً لتعزيز الأمن الإقليمي.
ستارمر: الأولوية لإبقاء أوكرانيا في موقف قوي
ورداً على سؤال لـ”الشرق”، عن الضمانات الأمنية التي يمكن أن يقدمها الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لأوكرانيا، قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إنه “من الأهمية بمكان أن نحافظ على عزمنا، وهذا يعني أنه يتعين علينا أن نواصل وضع أوكرانيا في أقوى موقف ممكن، سواء كان ذلك من خلال توفير القدرات، أو التدريب، أو التمويل”.
وأضاف أن “هذا الدعم مهم للغاية، وأي مناقشة حول الضمانات الأمنية يأتي في المرتبة الثانية بعد مسألة وضع أوكرانيا في أقوى موقف ممكن”، وهي من النقاط التي ناقشها خلال اجتماعه مع قادة الاتحاد الأوروبي في القمة.
أما فيما يخص الموقف الأميركي، فإن بصيص الأمل الوحيد لأوكرانيا قد يكمن في سعي ترمب المستمر لعقد صفقة مفيدة للولايات المتحدة، حيث تتلخص فكرته الأخيرة في أن تدفع أوكرانيا ثمن الدعم الأميركي من خلال تقديم تنازلات اقتصادية تتعلق بالمعادن النادرة والموارد الاستراتيجية الأخرى.
دعم أميركي لأوكرانيا مقابل معادنها الثمينة
وتشمل هذه التنازلات صفقات تفضيلية لتوريد التيتانيوم وخام الحديد والفحم، إلى جانب معادن حيوية مثل الليثيوم. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح ما إذا كان هذا النهج سيمثل أساساً مستداماً للدعم الأميركي على المدى البعيد، أو ما إذا كان سيؤثر على سياسات إدارة ترمب في حال حدوث وقف لإطلاق النار.
وأرسل الرئيس الأميركي وزير الخزانة سكوت بيسنت إلى كييف للقاء الرئيس زيلينسكي، في زيارة هدفها مواصلة المفاوضات بشأن حصول الولايات المتحدة على المعادن المهمة هناك.
وفي هذا السياق، يرى جوزيف هاموند، الخبير في الشؤون الدولية من لندن، أن مطالب الرئيس الأميركي المتعلقة بالإنفاق الدفاعي وإيجاد مقاربة للسلام في أوكرانيا واضحة، رغم محاولات البعض تصويرها على نحو مختلف.
وفي حديث لـ”الشرق”، قال هاموند إن ترمب كان صريحاً في انتقاداته لروسيا، كما لم يتوانَ عن انتقاد البيروقراطية المرهقة في الاتحاد الأوروبي، مشيراً إلى أن دول التكتل تعامل الولايات المتحدة “بشكل سيئ للغاية”، وفقًا لخطاب الرئيس الأميركي في مؤتمر دافوس.
متغيرات جيوسياسية وتوقعات بتزايد النفوذ روسيا العالمي
وأظهرت دراسة شاملة أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في دول عدة خارج الفلك الغربي، من بينها الصين والهند والسعودية وجنوب إفريقيا وتركيا، أن غالبية الناس يتوقعون تزايد النفوذ الروسي عالمياً خلال العقد المقبل. كما يشارك ما يقارب نصف السكان في كل من البرازيل وإندونيسيا هذا التوقع.
في المقابل، أظهرت الدراسة أن الروس والصينيين في علاقة متبادلة من التقدير تفوق بكثير نظيرتها لدى الأوروبيين والأميركيين، فمنذ نهاية عام 2022، تحسّن الانطباع عن روسيا في الصين بشكل طفيف، بينما تعززت نظرة الروس إلى الصين أيضاً، ما يجعلهما يشكلان تحالفاً نادراً من “الوفاق الودي” في المشهد السياسي العالمي اليوم.
أجواء “غير المُبشرة”
كما اعتبر عضو البرلمان الأوروبي توبياز بوشنسكي في تصريحات لـ”الشرق” أن “تصاعد التوتر في أوروبا، هو بالفعل أحد العوامل المؤثرة في السياسات”، متسائلاً عن كيفية “تطور الأوضاع في الفترة المقبلة، خاصة مع وجود ترمب في المشهد”.
وأضاف: “من الصعب التنبؤ بذلك، فهو (ترمب) لاعب سياسي شديد الصرامة، وما سيفعله لا يزال غير واضح. ومع ذلك، من المؤكد أن المرحلة المقبلة ستكون مثيرة للاهتمام، في حين أن الأجواء في ألمانيا وفرنسا لا تبدو مبشرة بالكثير من التفاؤل حالياً”.
ويغيب تماماً الرأي العام الأوروبي عن المشهد السياسي في لعب دور ضاغط على المؤسسات لتغيير المسار في ما يتعلق بمقاربة السلام في أوكرانيا، وكذلك للضغط على من أجل تقليل النفقات الدفاعية التي ستضغط على قطاعات أخرى مثل الصحة والتعليم والثقافة والمساعدات الإنسانية للدول الفقيرة، على غرار إفريقيا ودول في الشرق الأوسط، وهذا يُقلص من نسبة التأثير على المستوى الدولي.
وعلى النقيض اعتبر واحد فقط من كل 5 أوروبيين أن الولايات المتحدة حليف، وهو انخفاض كبير مقارنة بما كان عليه قبل عامين. وهذه النسبة تعادل نصف عدد الأميركيين الذين يرون الاتحاد الأوروبي كحليف. بينما يعتبر الأميركيون الاتحاد الأوروبي حليفاً مستقراً، في حين ارتفعت نسبة من يرونه شريكاً ضرورياً من الربع إلى الثلث.