تمكَّن علماء في الفلك من رصد أضخم “نفاث راديوي” تم اكتشافه حتى الآن في تاريخ الكون المبكر، وذلك باستخدام تلسكوب “لوفار” (LOFAR).
والنفاث الراديوي، هو تيار قوي من الجسيمات المشحونة، تُطلَق بسرعة قريبة من سرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية)، من مراكز بعض المجرات النشطة، مثل الكوازار (جسم شديد السطوع يستمد طاقته من ثقب أسود فائق الكتلة)، والنوى المجرية النشطة.
وتنتج هذه النفاثات عن عملية سقوط المادة في الثقب الأسود المركزي، ما يؤدي إلى إطلاق كميات هائلة من الطاقة عبر آليات فيزيائية معقدة.
ويمتد النفاث الراديوي المكتَشف لمسافة مذهلة تصل إلى 200 ألف سنة ضوئية، أي ضعف عرض مجرة درب التبانة تقريباً.
دراسة تطور المجرات
يساعد هذا الاكتشاف، الذي تم باستخدام مجموعة من التلسكوبات، في فهم كيفية تَشكُّل النفاثات الراديوية الأولى ودورها في تطور المجرات.
وعندما تسقط المادة في قرص التراكم حول الثقب الأسود، تتعرض لقوى جاذبية هائلة، واحتكاك شديد، ما يؤدي إلى تسخينها، وإنتاج إشعاع قوي.
وفي بعض الحالات، تتفاعل هذه المادة مع المجال المغناطيسي القوي حول الثقب الأسود، ما يخلق قنوات يتم من خلالها طرد الجسيمات المشحونة إلى الفضاء بسرعة هائلة على شكل نفاثات.
وتُعرف النفاثات الراديوية بشدتها العالية وطولها الهائل، حيث يمكن أن تمتد لمسافات تصل إلى مئات الآلاف من السنين الضوئية، وتنبعث منها موجات راديوية يمكن التقاطها بواسطة التلسكوبات الراديوية على الأرض.
وفي بعض الحالات، تظهر هذه النفاثات بشكل متماثل على جانبي المجرة، بينما في حالات أخرى تكون غير متساوية بسبب تأثيرات بيئية مختلفة.
وتمثل النفاثات الراديوية عنصراً رئيسياً في دراسة تطور المجرات والكون المبكر، حيث تلعب دوراً في تنظيم تشكل النجوم داخل المجرات، كما تساهم في توزيع المادة والطاقة عبر الفضاء بين المجرات، كما تساعد دراسة هذه النفاثات العلماء على فهم طبيعة الثقوب السوداء، وآلية إطلاق الطاقة في أقوى البيئات الكونية.
رغم أن النفاثات الراديوية تُرصد بوضوح في المجرات القريبة، إلا أن العثور عليها في الكون المبكر كان أمراً نادراً حتى وقت قريب. ويعود ذلك جزئياً إلى تأثير إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، الذي يُضعف الإشارات الراديوية القادمة من المسافات السحيقة.
تقنيات متقدمة
باستخدام تقنيات متقدمة مثل شبكة التلسكوبات الحديثة، تمكَّن العلماء من اكتشاف أضخم نفاث راديوي معروف حتى الآن في الكون المبكر، مما يفتح آفاقاً جديدة لفهم تشكل المجرات الأولى.
وبحسب الدراسة، المنشورة في دورية “أستروفيزيكال جورنال ليترز” (The Astrophysical Journal Letters)، تم التعرف على النفاث الراديوي الجديد لأول مرة باستخدام تلسكوب LOFAR، وهو شبكة من التلسكوبات الراديوية المنتشرة في أنحاء أوروبا.
وأظهرت المتابعة تفاصيل أوضح عن النفاث الراديوي والكوازار المسؤول عنه.
والكوازار المكتشف، المسمى J1601+3102، تشكَّل عندما كان عمر الكون أقل من 1.2 مليار سنة، أي نحو 9% فقط من عمره الحالي.
ورغم أن بعض الكوازارات تمتلك ثقوباً سوداء ضخمة تصل كتلتها إلى مليارات أضعاف كتلة الشمس، فإن الكوازار المكتشف حديثاً يحتوي على ثقب أسود أصغر نسبياً بكتلة تبلغ 450 مليون مرة كتلة الشمس.
ويتميز النفاث المكتشف بأنه غير متماثل من حيث السطوع والمسافة التي يمتد إليها، مما يشير إلى تأثره ببيئة كونية شديدة القسوة.
ومن المثير للاهتمام أن هذا الكوازار، رغم عدم امتلاكه ثقباً أسود له كتلة هائلة مقارنة بغيره، إلا أنه استطاع إنتاج نفاثات راديوية ضخمة، ما يدل على أن الكتلة الكبيرة ليست بالضرورة شرطاً لتكوين هذه النفاثات القوية في الكون المبكر.
واعتبر العلماء أن غياب النفاثات الراديوية الكبيرة في الكون المبكر “لغز فلكي”، ويُعتَقد أن السبب وراء ذلك هو تأثير إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، الذي يعمل كضباب يحد من رصد الضوء الراديوي القادم من تلك المسافات السحيقة.
لكن الكوازار المكتشف يُعد استثناء بفضل ضخامته وتفرده، ما أتاح إمكانية رصده على الرغم من بعده الهائل.
ولا يزال العلماء يسعون لفهم الظروف التي تساهم في تكوين هذه النفاثات الراديوية القوية، وتحديد توقيت ظهور أولى هذه الظواهر في تاريخ الكون.