في حفل توزيع جوائز نقاد نيويورك في 9 يناير الماضي، صعد المخرج برادي كوربت، صاحب فيلم The Brutalist، ليتسلم جائزة أفضل فيلم، وختم كلمته بنداء ممتلئ بالحماس يقول: “لقد حان الوقت لأن يجد فيلم No Other Land موزعاً في أميركا!”.
في الحفل نفسه حصل No Other Land (لا أرض أخرى) على جائزة أفضل فيلم وثائقي. وعبر الإنترنت، تحدَّث صاحباه أيضاً عن صعوبة العثور على موزع للفيلم في الولايات المتحدة “لأسباب سياسية”.
مساء الخميس، وصل الفيلم – الذي حصد عشرات الجوائز منذ عرضه في مهرجان برلين 2024، منها جائزة أفضل فيلم وجائزة الجمهور في برلين، ونقاد لوس أنجلوس وجمعية النقاد الأميركيين، وجوائز جوثام، وجوائز أفضل فيلم ومخرج وجائزة الشجاعة من IDA Awards (الجمعية الوثائقية الدولية) – إلى القائمة القصيرة لأوسكار أفضل فيلم وثائقي طويل، ومن المتوقع أن ينتزع الأوسكار بجدارة في مارس المقبل، إذا لم تتدخل “أسباب سياسية” لمنعه من الحصول عليها.
ومع ذلك، وُزِّع No Other Land، حتى الآن، في24 دولة منها بريطانيا، وفرنسا، ومعظم دول أوروبا، ولكنه لا يجد موزعاً في أميركا بعد. و”الأسباب السياسية” هذه يقصد بها غالباً اللوبي الصهيوني، أو الحساسية الناجمة عن التأييد الأعمى لإسرائيل، ورفض مشاهدة، أو الاستماع إلى الطرف الآخر، ومما يؤكد هذا، عدم نجاح فيلم وثائقي مهم آخر هو The Bibi Files للمخرجة ألكسيس بلوم، والذي يتناول فضائح فساد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في إيجاد موزع في الولايات المتحدة حتى الآن، بالرغم من أن الفيلم أميركي!
No Other Land
مع ذلك، ورغم كل شئ، نجح No Other Land في الوصول إلى القائمة القصيرة للأوسكار، وفي ايجاد مؤيدين متحمسين بقامة برادي كوربت، ومئات غيره من السينمائيين والنقاد ولجان تحكيم واختيار الجوائز، ومثلما يحدث كثيراً، يؤدي المنع والقمع الشديد إلى مقاومة مماثلة في الاتجاه المضاد. ومن يشاهد الفيلم سيعرف أن هذه هي رسالة ومضمون الفيلم نفسه.
بدأ No Other Land من محاولة فرد واحد ضعيف، شاب صغير اسمه باسل عدرا، من سكان منطقة مسافر يطا بالضفة الغربية المحتلة، تخرَّج من كلية الحقوق، وعايش منذ طفولته عمليات التهجير والطرد التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي لقرى بلدته، والتي تفاقمت في السنوات الأخيرة، ولم يجد شيئاً يمكن أن يفعله سوى تصوير عمليات الهدم والتهجير بكاميرا هاتفه الجوال.
أثناء تصويره واحدة من هذه المواجهات في عام 2019، التقي باسل بصحافي إسرائيلي، في مثل عمره، اسمه يوفال أبراهام، جاء لكتابة موضوع عن التهجير. يتعاطف يوفال مع باسل وتنشأ بينهم صداقة، تتحول إلى تعاون لرصد عمليات التهجير، وينضم إليهما لاحقاً الناشط الفلسطيني حمدان بلال، صديق باسل، والمصورة الإسرائيلية راشيل زور، ويحمل No Other Land أسماء هؤلاء الأربعة كمخرجين مشاركين.
5 سنوات من التهجير
بكاميرا الهاتف الجوال، أو بكاميرا راشيل الاحترافية، وببعض المواد الأرشيفية الأخرى، من وسائل الإعلام أو ألبوم العائلة، وعلى مدار خمس سنوات تقريباً، يرصد الفيلم عمليات إخلاء 22 قرية فلسطينية، واحدة تلو الأخرى، بيت تلو الآخر، بطريقة منظمة وممنهجة، خاصة بعد صدور قرار من المحكمة العليا الإسرائيلية في عام 2022 بإخلاء “مسافر يطا” بالكامل، لمنع السكان من التقاضي أولاً، ولتبرير العملية، تحت غطاء حاجة الجيش الإسرائيلي لإقامة منطقة تدريب في “مسافر يطا”، بينما تكشف عناوين الفيلم الأخيرة وفقاً لوثيقة سرية تم تسريبها بأن السبب الحقيقي وراء القرار هو منع الفلسطينيين من التواجد في المنطقة، والاستيلاء عليها لبناء مستوطنات إسرائيلية.
ربما لم يكن ليخطر ببال باسل ويوفال، أن تتحول موادهم المصورة إلى أهم فيلم وثائقي في عام 2024. يقول باسل لصديقه في بداية أحداث الفيلم: “يمكننا أن نوقف التهجير. إذا نشطنا ووثقنا كل ما يحدث على الأرض سنجبر أميركا على الضغط على إسرائيل”.
لكن هذا التفاؤل الحماسي، سرعان ما يخبو مع توالي عمليات الطرد، وزيادة وتيرة عنف الجيش والمستوطنين وتجاهل المجتمع المحلي والإقليمي والدولي لما يحدث، وكأن شيئاً لا يحدث، وكأن العالم بدأ في 7 أكتوبر 2023. كان آخر فيديو استطاع باسل تصويره بعد 7 أكتوبر بأيام، ويظهر فيه مستوطن يحمل بندقية يطلق النار على أحد أبناء عمومة باسل، وهو شاب أعزل، ويرديه قتيلاً أمام الكاميرا، ليكمل دائرة العنف التي يبدأ بها الفيلم، حيث تصوّر الكاميرا إطلاق جندي إسرائيلي النار على قريب لباسم اسمه هارون، ينتج عنه إصابة هارون بشلل تام، ونراه على مدار السنوات التالية عاجزاً طريح الفراش محمولاً على بطانية من بيت يتم تهجيره إلى كهف في الجبل تعيش فيه الأسرة.
ونعلم في العناوين الختامية أن هارون قد مات في النهاية متأثراً بإصابته، بعد أن فشل في إيجاد جهة تعالجه، أو تتولى سفره للعلاج في الخارج. قبلها، يصوّر الفيلم أم هارون، الأرملة، التي ترعى أربعة أبناء، منهم أطفال، وحدها، وهم يتعرضون للعنف والطرد كل حين، فوق الفقر والطبيعة القاسية، ولكنها صامدة ذات ملامح وتكوين مثل الجبل الذي يعيشون فيه.
كما في الدراما
يخفت حماس باسل بمرور الوقت، ويكاد يتحول إلى اليأس مع نهاية الفيلم. اليأس حتى من أن يستمع إليهم، أو يراهم العالم، ولكن مثلما يحدث في الدراما الجيدة، يبعث الفيلم نفسه بعد الانتهاء من صنعه، ويخرج إلى العالم، حيث لا يستطيع أن يوقفه أحد، حتى اللوبي الصهيوني، ويحلّق عالياً حيث يراه الجميع.
يمتلئ الفيلم بمثل هذه اللحظات المتسامية جمالياً، أحياناً من خلال كاميرا هاتف يهتز ويسقط وسط العنف واطلاق النار، أو من خلال كاميرا فائقة الجودة ومصورة محترفة تلتقط العديد من اللحظات الصامتة المعبرة لهؤلاء الفلسطينيين البسطاء في محنتهم الكونية التي تبدو أزلية: أمهات يعددن الطعام، أو يجلسن صامتات حزينات يحدقن في الأفق البعيد، وأطفال يلعبون بأي شئ يمكنهم تحويله إلى لعبة، أو يقفزون فوق أجساد آبائهم لحمايتهم من اعتداء الجنود المسلحين.
أسباب للنجاح
صحيح أن مضمون الفيلم السياسي هو أهم ما فيه، ولكن هذا وحده، ليس سبب جودة الفيلم وحصده لكل هذه الجوائز والإشادات النقدية (على موقع Rotten Tomatoes حصل الفيلم على تقييم نقدي 100% وهو أمر نادر كما نعلم).
على العكس، لقد نجح الفيلم رغم مضمونه السياسي. وذلك لعدة أسباب منها:
- بناء الفيلم المحكم درامياً وزمنياً: في 95 دقيقة فقط يروي صنّاع الفيلم وقائع خمس سنوات، من عشرات، وربما مئات الساعات التي قاموا بتصويرها. لا يقع الفيلم في فخ الشرح والإطالة الزائدة، ولا في خطأ الاختزال المخل، ويبدو زمن عرضه وكأنه الوقت المناسب بالضبط لحكي الحكاية!
- مشاهد الفيلم كلها تشيع بالتلقائية والصدق الخام للحقيقة: حتى اللقطات القليلة جداً “الممسرحة” (حوارات بين باسل ويوفال) واضح أنها مرتجلة وطبيعية. ولا يملك المرء سوى أن يحب كل الشخصيات “الطيبة”، وأن يخاف ويكره كل الشخصيات “الشريرة”، مع أنه لا يوجد أي محاولة مفتعلة من صناع الفيلم لتنميط هذه الشخصيات، وهذا الصدق البسيط يصل إلى المشاهد بالضرورة.
- قصة الصداقة بين باسل ويوفال التي ترقى بالفيلم إلى مستوى إنساني يتجاوز التحيزات، ويجبر أي مشاهد (لا يملك التصلب الكافي والقدرة على خداع الذات) على أن يرى ويسمع ما لا يتاح له، أو ما لا يرغب في، رؤيته وسماعه عادة.
- أخيراً، وأهم شيء في هذا الفيلم أنه لا يحمل الجنسية الإسرائيلية، وإنما الفلسطينية والنرويجية فقط. لا يوجد الكثير من جهات الدعم، وبالتالي من المواءمات والتكييفات و”الفذلكات”. الشركة الفلسطينية تمثل صناع الفيلم الأربعة، والشركة النرويجية معروفة بأعمالها الوثائقية المميزة.
No Other Land درس في المقاومة مثلما هو درس في صناعة الأفلام!
*ناقد فني.