في أحدث رواياتها “بيت الجاز”، تواصل نورا ناجي النبش في تاريخ المرأة وهمومها، يشغلها العنف والرهافة والأحلام، الهدوء على السطح والغليان في الداخل.
يعتبرها بعض النقّاد واحدة من أهم الكاتبات المصريات في العقد الأخير، وقبل أسابيع تمّ الإعلان عن تحويل روايتها “بنت الباشا” إلى فيلم سينمائي. هنا حوار مع الكاتبة حول مشروعها السردي.
في أحدث رواياتك “بيت الجاز” تسقط “مرمر” وتبدو كأنها تفتش عن قبيلة نساء في داخلها فما حكايتها؟
مرمر هي بالفعل اختصار للنساء في داخلي، الروح النقية التي تتعرّض لعنف من دون حتى أن تفهم السبب، تمرّ بتجربة مروّعة لا تستوعبها، فتقرر أن تسقط لكنها لا تسقط استسلاماً.
أعتقد أن سقوط مرمر هو قمّة التمرّد والتغيير. وهي لا تمثّل النساء فقط، بل كل المهمّشين والضعفاء، الذين يعيشون الحياة من السطح، والذين يرتدون أحذية غيرهم، وملابس لا تخصّهم، ولا يعرفون من العيش سوى قضاء اليوم بيومه.
هذه الرواية هي محاولة للإشارة إليهم، هي مراجعة كل الوجوه التي تمرّ علينا كل يوم من دون أن نراها فعلاً، وأن نعيد النظر في القصص التي نسمعها، والحوادث التي نقرأها، ونتحسّر ثانية ثم ننساها، وكل تلك القسوة في العالم.
كيف يمكن أن يتغيّر العالم؟ ربما باستيعاب ما يحدث والتأمّل فيه، وليس الاكتفاء فقط بمتابعته على صفحات الفيسبوك، ثم الاستمرار في التصفّح وكأن شيئاً لم يحدث، هذا العصر يفتقد المؤازرة، وربما لذلك يستمر العنف والقهر والظلم، وربما لذلك تبهت المشاعر وتتجمّد الأرواح.
على الأدب إذن أن يتولى مهمّته، وأن يعيد الرهافة إلى البشر. مرمر هي مبادرتي الشخصية، ربما أنجح فيها وربما أفشل، لكن على الكاتب ألا يتوقف عن المحاولة.
وما الذي يتوقعه القارئ من روايتك الجديدة مقارنة مع عملك السابق “بنات الباشا”؟
لا أفكر كثيراً في توقّعات القارئ، لا يعني ذلك عدم الاهتمام، لكني لا أشغل نفسي بما يريده القارئ أو يتوقعه، ما يهمني أن تكون كل رواية حالة جديدة، وحياة جديدة وتجربة جديدة، ربما يجمع أعمالي دوماً خيط ما، ربما اللغة، المشاعر، أو الهمّ العام بالإنسان والحياة، لكن أتمنى ألا يقارن القرّاء رواية بأخرى، فلكل رواية حالة ما سيطرت عليّ ودفعتني للكتابة.
“بنات الباشا” تغلب عليها المشهدية مثلاً، هي تنخرط في حيوات النساء المهمّشات أيضاً، في مركز تجميل في مدينة صغيرة، خلال حدث ضخم هو انفجار كنيسة مارجرجس، وما يتبع ذلك من تداعيات تبرز هشاشة الإنسان.
ولعل هذه الحالة تتواجد أيضاً في “بيت الجاز”، حدث يغيّر حياة ثلاث نساء من طبقات وأزمنة مختلفة.
بالعودة إلى حكايات “بنات الباشا”، ما الذي استوقفك فيها ومازال عالقاً في ذاكرتك؟
عندما أتصفّح “بنات الباشا” اليوم تدهشني القدرة الغريبة على التقمّص، عشر سيدات وعشر قصص مختلفة، وثمّة تفاصيل دقيقة لحيوات أبعد ما تكون عن حياتي، لا أعرف كيف ظهرت خلال الكتابة، ربما لذلك أسمي الانخراط في الكتابة “الغيبوبة الكتابية”، لأني عادة ما أدخل في حالة غياب وعي أثناء الكتابة، وأتحوّل إلى شخصياتي، أرى بأعينهم وأسمع بأذانهم سواء كانت الشخصية لرجل أو امرأة.
أعتقد أن الصدق في الكتابة هو ما يمنح النص روحه، وما يجعله على تماس مع القارئ.
قبل أشهر قليلة تمّ الإعلان عن تحويلها إلى فيلم، هل تعتبرين ذلك اعترافاً جماهيرياً برواياتك؟
تحويل عمل روائي إلى فيلم أو دراما هو حلم كل كاتب، لأنه يمنح النصّ حياة جديدة، ويقدّمه لفئات أخرى من المتلقّين، لكني لا أرى أن تلك المسألة تتعلق بالجماهيرية بقدر ما تتعلق بالحظ. ربما لأني مخلصة جداً للكتابة، لكني سعدت عندما تحوّلت إلى فيلم، ورأيت الشخصيات حيّة أمامي أثناء التصوير.
إذا عدنا إلى “سنوات الجري في المكان” هل كانت تطهّراً مما حدث في 2011 أم تدريباً على فلسفة “الخسارة” أم تأريخاً للذات؟
يمكن أن أجيب بنعم على الخيارات الثلاثة، كانت تأريخاً للذات ولجيلي كاملاً، الذي تأقلم بشكل ما مع الخسارة، وبالتأكيد كانت تطهّراً من سنوات صعبة، كما أنها تحية إلى هذا الجيل الذي ابتلع مراراته، ونجا بشكل أو بآخر من ثورة وجائحة، والأصعب نجا من “تروماته”، أو لعله لم ينجُ، لعله لا يزال قيد المحاولة، لكنه جيل شجاع وفنان ومأزوم وحساس ومتحمّس وقوي وضعيف ومحبط وعنيد، هذا الجيل يجمع كل التناقضات التي رغبت في التعبير عنها.
عرّف سارتر مجموعته القصصية “الجدار” بأنها “خمس انحرافات مأساوية صغيرة”.. بماذا تعرّفين روايتك التي تحمل العنوان ذاته؟
هي كذلك انحرافات مأساوية، ورصد لجرائم العالم، ومحاولة أولى للتطهّر بلا شك من الغربة والألم والضياع والقلق والاكتئاب، كتبتها في مرحلة صعبة لكل العالم، ثورات وحروب ومجاعات وعنف وموت، وكانت البطلة تحاول أن تفهم ما الذي يتغيّر في العالم؟ ربما منحتني رواية “الجدار” بداية الخيط، لمحاولات الفهم والتغيّر والصمود.
من يقرأ “بانا” ثم “الجدار” يشعر أن لغتك تخلّصت من رومانسيتها الطفولية ومالت أكثر نحو التقشف والتكثيف، هل النصّ يخترع لغته؟
طبعاً، وكذلك النضج والتقدّم في العمر وطبقات القسوة. أشعر دائماً أني مثقلة بطبقات تراكمت طوال السنين، طبقات الابتسامات الزائفة والمجاملات والماكياج والهواء الملوّث والأفكار المعقّدة والخيانات والخذلان والعجز والحزن والكراهية، وكذلك بطبقات الأمل والمحبة وقطرات المطر والابتسامات الصادقة والصداقة والروايات الجميلة واللوحات المدهشة والموسيقى العذبة.
كل يوم يمرّ يضيف إلى الكاتب، كل خبرة وكل فكرة وكل سطر جديد يقرأه أو يكتبه. من الطبيعي أن تتطوّر اللغة، وأن تتخلص من فائضها. ولكل نصّ لغته بالتأكيد. أنا لا أستبعد أبداً أن أكتب ذات يوم رواية رومانسية صرفة، في تلك الحالة سأستعيد نفسي القديمة، وتلك الروح الأولى الساذجة ربما، لكنها صادقة كذلك.
في “بانا” ثمّة عالم خيالي ترسمه طفلة، فما هي ملامح عالمك الخيالي؟
ما زلت أعيش في بانا، عالمي الخيالي منذ الطفولة، لأني أحافظ على تلك الطفلة داخلي، كل الأفكار عن العرائس التي تتحرّك ليلاً، والأبواب السحرية التي تخفي عوالم أخرى، والأشياء التي تتأنسن والمحبة الصافية، كل ذلك لا يزال يعيش في مكان ما داخلي، وربما هو ما يمدّني بالكتابة حتى لو تغيّر النصّ وتغيّرت الأفكار. على الكاتب أن يحافظ على تلك الأصالة داخله ليتمكن من التعبير عن كل شيء.
في أكثر من رواية لك تتصدّر الذات الأنثوية راوية وبطلة، هل تنطلقين من مرجعية نسوية والتزام أخلاقي أم تصوّر جمالي؟
أنطلق مما يتطلبه النص فقط، لا أتعمّد أن أكتب رواية نسوية، بطلتها امرأة، كما لا أتعمّد الكتابة بصوت الرجل، ما يريده النصّ أحترمه، وما تتطلبه الفكرة هو ما أعتمده، لا أخجل من تصنيفي ككاتبة نسوية، لكني في نفس الوقت لا أتعمّد ذلك.
أهديتِ روايتك الأولى إلى الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق وكرّرت الإهداء في “فاتيما” لماذا؟
لأني أصبحت أنا بسبب د. أحمد خالد توفيق، وأنا هنا أتحدث عن الإنسان والكاتب معاً. يختلف الجميع حول جودة الكتابات لأي كاتب، لكني لا يمكن أن أتنصّل مما أنا على يقين به، وهو أني قرأت بسبب هذا الرجل، وكتبت حتماً بسببه.
هو ما منحني مفتاح عالم جديد، عندما دخلته لم أخرج منه، الكتابة هي مصدر رزقي، وهي ما أعيش منه، وما أعيش له. تخيّل لو لم أقرأ هذه الروايات الصغيرة المسلية وأنا طفلة، كيف كانت ستكون حياتي، بالتأكيد شيئاً ربما لا أحبه ولا أتمناه.
كما أني أهدي جميع رواياتي إلى ابنتي فاتيما، لأنها السبب الأوحد لاستمراري في الحياة والكتابة. وأتمنى أن تفخر بي.
بعد 15 عاماً من الكتابة هل خططت لكل ذلك حين التحقت بدراسة الفنون الجميلة، وما سبب عودتك للدراسة مجدداً؟
لم أخطط للكتابة حتى بعدما أصدرت روايتي الأولى، كنت أعتقد أنها تجربة أولى وأخيرة، لكن اتضح أني غير قادرة على العيش من دون كتابة.
دراسة الفنون الجميلة أفادتني كثيراً، لأنها منحتني أفقاً جديداً، وجعلتني أرى كل شيء بشكل مختلف. وعدت لدراسة الأدب الإنجليزي في كلية الآداب، لأني أحب التعلم، وأسعى دائماً لتطوير نفسي. لا يمكن أن يظل الكاتب في مكانه، عليه أن يتحرّك دائماً.
هل تعتقدين أن الكتابة علاجاً ناجعاً للوحدة وترميم الخيبات؟
الكتابة رفيقة الوحدة، وهي ما يقضي عليها، ثمّة ونس في الكتابة لا يشعرك بالوحدة، وفي نفس الوقت لا بدّ من الوحدة لتتمكن من الكتابة، هذه العلاقة المعقّدة مثل أفعى تأكل ذيلها، لا يمكن إيجاد خط فاصل بينهما، ولا يمكن في نفس الوقت أن أقول بيقين أن الكتابة تعالج الوحدة أو تنهيها.
لكن الكتابة حتماً ترمّم الخيبات، أو على الأقل تحوّلها إلى انتصارات جديدة، لأن كل خيبة تتحول – بتحولها إلى نصّ- إلى مشاع، فلا يمكن أن تكون “خيبة” تصبح رابطاً يجمع حتى ولو شخصين، وتمنح تلك الطمأنينة، بأن ثمّة آخر يفهمك ويعبّر عنك ويراك. هل هناك ما هو أجمل من ذلك.