في رواياتها كلها، ومن بينها “تاء الخجل” و”اكتشاف الشهوة” و”أقاليم الخوف”، بقيت الكاتبة الجزائرية فضيلة الفاروق تحفر في أرض سردية صعبة، ومثيرة للأسئلة المتعلقة بالنظرة الشرقية للمرأة، والإحساس بالقهر والتحدي لإثبات الذات.
وسواء في الجزائر أو لبنان الذي هاجرت إليه قبل ثلاثة عقود، بقيت الفاروق تدافع بشراسة عن خياراتها ومقولاتها، غير أنها تكشف عن اهتزاز إيمانها بالكتابة في هذا الحوار.
أنت ابنة مصوّر ومعظم أفراد عائلتك من الأطباء، وكانت لك محاولات في الحقلين التشكيل والطب، ومع ذلك لا نعثر على شخوص هذه العوالم في رواياتك.
منذ كتابي الأوّل وهو مجموعة قصصية وحيدة، إلى كتابي الأخير “ما يشبه الشعر”، لم أكتب سوى عن قضايا المرأة والإنسان الضائع، بين إيديولوجيات تحكّمت فيه وحوّلته إلى كائن قاس وظالم، بل إلى ماكنة مجرّدة من المشاعر والرحمة.
كنت طفلة ذكية وحساسة، وكل ما كنت أراه وأسمعه أسجّله في ذاكرتي، لهذا فإن رأسي متخم بذكريات التنمّر في المدرسة والشارع والعائلة الكبيرة. الاعتداء على البنات في الشارع، ضرب الزوجات، الزواج الإجباري، الظلم عند تقسيم الميراث، والإساءات المستمرة في كل مجالات الحياة.
عشت بعيدة عن أبي “المصوّر” بحكم تكفّل عمي بتربيتي، كان عالم البيت والأعمام جميلاً ونقياً، لكنه لم يحضِّرنا لبشاعات الخارج. فرنسا الاستعمارية قامت بتصفية رجال عائلتي، لأنهم اشتغلوا في الطب، شرّدت من تبقى من نساء وأيتام من قراهم وبيوتهم، ليبدأوا من الصفر. وبعد الاستقلال، مسّ التهميش المنطقة كلها بمن فيها عائلتنا.
ما يؤلمني هو تقهقر البرامج الدراسية، لدرجة جعلت الأجيال الجديدة منذ نهاية السبعينيات، مجرد مواد خام اخترقتها بسهولة إيديولوجيات سامّة وقاتلة، جاءتنا من كل الجهات الخارجية. كنت أكتب عن هذه القضايا، ولو سألتني آنذاك، لكان جوابي مختلفاً.
تتحدّثين كأنك أخذت سبيلاً آخر غير الكتابة، فهل اعتزلت هذا المجال؟
لم يعد يهمني شيء، أريد أن أعيش بسلام فقط. منذ سنوات وأنا عاجزة تماماً عن الكتابة، أو الرسم، أو ممارسة بعض الهوايات. أشعر أن الأمور تمشي بطريقة عرجاء، فإذا كان لديك من يحمي ظهرك من مسؤولين فأنت ستتقدم، أمّا إذا كنت تعتمد على اجتهاداتك ومواهبك الشخصية، فتأكد أنك ستدفن حياً.
غادرت الجزائر إلى بيروت،منتصف تسعينيات القرن العشرين بعد انطلاق موجة العنف والإرهاب وتوقف الحرب الأهلية في لبنان، هل لهذه الأجواء تأثير في قلمك؟
كانت الجزائر وما تزال ملهمتي، لكن ماذا أمثّل لها اليوم، لا شيء. لهذا لم ألُم بيروت حين تعاملت معي بفوقية عندما وصلت إليها حالمة. قلت في نفسي إذا كان أبناء بلدي تعاملوا معي بما هو أقسى، فلماذا ألوم بيروت ومثقفيها.
بدأت من الصفر ودخلت ساحة الوغى بزادي القليل من اللغة العربية، أنا الأمازيغية لأجد مكاناً لي. تعلمت في بيروت أن أصبح مقاتلة شرسة، وأتمسّك بالحياة حتى حين يصل الموت إلى أنفي.
عشت الحياة التي حُرمت منها في الجزائر، قرأت أطناناً من الكتب، تزوجت وأنجبت ولداً حظي بأحسن تعليم، وطفولة أجمل من طفولتي، عدت إلى مقاعد الدراسة من جديد لدراسة الإنجليزية، ثم قمت بدورات مع “بي بي سي” للوقوف أمام الكاميرا.
استمتعت باكتشاف لبنان، وشاهدت الكثير من الأفلام في صالات السينما، حضرت مهرجانات ومسرحيات وزرت معارض تشكيل، وكنت أستغرب كيف لهذا البلد أن يعيش فيه الناس آمنين والأغلبية مسلحة.
وعلى الرغم من ذلك كله، حين أجلس لأكتب تحضرني الجزائر، تهطل دموعي كأنها مطر غزير، وقلت ذات يوم إن “الجزائر محبرتي” فإن كتبت فلأجلها وإن صمتّ فذلك بسببها أيضاً.
لكنك لا تشتكين من الغربة وكأنك تأقلمت مع اللحظة البيروتية وفرضت نفسك ونصّك داخلها، فما مفهوم الغربة لديك؟
في البداية كنت متذمّرة جداً وخصوصاً في السنوات الأولى، وأردت العودة إلى الجزائر، لكن الوضع كان سيئاً. بالنسبة لي انتهى العمر ولم نستفد من الحياة كما نريد في الجزائر. بلد استشنائي في غناه وجماله، لكن لا تجد الأجيال الشابة فرص عمل فيه، ولا يجد الموظف البسيط فرصة للاستمتاع فيه، هل هناك اغتراب أكثر من هذا.
أيام الحرب الأخيرة في لبنان كان القصف الإسرائيلي مستمراً، وكانت الممثلة آنجو ريحان تقدّم عرضها على مسرح “مونو”، وكان الجمهور غفيراً، هل تتخيّل ذلك، بيروت تختلف عن كل مدن العرب.
في الجزائر غداة الاستقلال، خرجت النساء بدون “عجاراتهن” أو أغطية وجوههنّ، تحرّرن يومها لأنهنّ شعرن بالأمان، فكل جزائري هو أخ للجزائري، للأسف بقيت كلمة “خويا” وكلمة “أختي” مثل طللٍ لغوي في لهجتنا اليومية، وكشفت مواقع التواصل عن كراهية غريبة وتشنّج كبير تجاه ثقافة التسامح، وحقد يملأ القلوب.
نحن منكشفون بوضوح أمام العالم الذي يقوم بدراستنا، فأكثر مستخدمي مواقع التواصل عندنا يستعملون أسماء مستعارة، ويختبئون خلف صور وهمية، أي أن “العجار” عاد ولكن بطريقة أخرى.
معظم شخوصك من الإناث انطلاقاً من روايتك الأولى، وهنّ مكافحات بقدر ما هن ضحايا لمجتمع ذكوري، هل هذا الخيار نتيجة واقع عانيت منه شخصياً؟
على رأي محمد شكري “هل تريدونني أن أكتب عن الفراشات بينما أقتات من القمامة؟” هذا واقعنا وأنا كتبته، الأدب مرآة المجتمع، هناك أدباء يكتبون ما يسعد القارئ، وما يتوقعونه منه من انسجام وتصفيق، وهناك من يحلم بحياة أفضل مثلي، فيمارس حقّه في النقد.
توصفين بالجرأة في مقابل انبثاقك من بيئة جزائرية أمازيغية محافظة، هل ساعدتك الهجرة على التخفّف من التابوهات؟
ولدت وتربّيت في منطقة تنضح بالحرية، منطقة “آريس” في الشرق الجزائري، التي أنجبت الثوّار الذين لم تخفهم فرنسا بكل عتادها.
تخيلني منذ طفولتي المبكرة وأنا أسمع قصص البطولات من أفواه الثوريين، تخيّل أن ثورة التحرير شارك فيها الجميع، النساء وحتى الأطفال، أبي في الرابعة عشرة كان مع أطفال آخرين يوصلون الطعام والسلاح للثوّار على البغال. كل هذه القصص جعلت مني ما أنا عليه، فضلاً عن بيتنا المتميّز بكم الكتب التي كنا نقرأها. بالنسبة لي كان مساري عادياً ونتيجة حتمية لما عشته.
بدأت خيبتي حين انتقلت إلى قسنطينة، وكأنك وضعت طائراً حراً في قفص، فوجدتني ألجأ إلى الكتابة لأطفئ نار الغضب في قلبي.
كانت تلك أول هجرة ذقت مرارتها، وكأن الله كان يعدّني لما هو أكبر، أي الهجرة إلى بيروت، حيث اكتشفت العالم على شساعته، طوائف مختلفة، جنسيات كثيرة، لغات متعددة، تخيلني في بلد صغير جغرافياً، لكنه أكبر مما يستوعبه رأسي بتعدده.
من بيروت سافرت إلى بلدان أخرى، بريطانيا، أميركا، أوروبا، الخليج. رأيت العالم، وزرت المتاحف والمكتبات والجامعات، وأصبت بمرض المقارنة، لأن الجزائر كانت تحضر غصباً عني في كل ما رأيته وسمعته. الجزائر تستحق الأفضل، ولهذا كتبت من دون مجاملة، هذا كل شيء.
لم أشعر أبداً بأني أكسر تابوهات، إلا حين شنّ البعض عليّ حرباً، هناك من يتحسّس حين أقول بأني أمازيغية وأفتخر بأمازيغيتي، وهناك من يتحسّس لأن لدي رؤية سياسية مختلفة، وآخرون يفصّلون لي شخصية لا تمتّ إليّ بصفة.
لكن من أين لي بالقصص التي كتبتها، هل تخيلتها كلها؟ بالطبع لا، كلها حدثت وما زالت تحدث، والدليل أن صفحات الحوادث في صحفنا تزعزع الكيان وأنت تقرأها، أما إن دخلت محاكمنا فهناك سيغمى عليك مما ستسمع وترى.
لا شك في أنك مصنّفة ضمن الكاتبات النسويات وغادة السمان نموذجاً، فأي مكابدات قمت بها لأجل أن تكوني أنت؟
أنا لم أقبل الظلم وكتبت ذلك فقط، ووجدتني مصنّفة في خانة المغضوب عليهم، مثل نساء قرأتهن وتأثرت بهن، ومنهم غادة السمان، مع أني أيضاً تأثرت بأدباء رجال، مثل تشارلز دكينز الثائر على الفقر والظلم البورجوازي.
كل شيء كان يقودني إلى طريق سلكتها رغم صعابها، إنه قدري والأقدار لا يمكن أن تغيّرها. وما كابدته لأستمر لا يمكن اختصاره في سطرين، لكن مع هذا سأخبرك أننا كنا مجموعة كبيرة من الصبايا حين بدأنا نكتب، واليوم لم يتبق منا غير اسمين أو ثلاثة.
الأدب خطير وليس مهمة سهلة، خاصة حين يكون خيارك أن تكون حراً. حين قرأت نوال السعداوي كان عمري خمسة عشر عاماً، وكل ما كتبته عن النساء عملياً صادفته في الحياة، هالني مثلاً أن الرجال يتخلّون عن نسائهم المصابات بسرطان الثدي، أنجزت أكثر من تحقيق في مستشفى قسنطينة، لكن لا تنتظر أن الصبايا يصدقن ذلك حين يكنّ عازبات، هن يلعنّ نوال السعداوي، حتى يمضي بهن العمر إلى عيش التجربة، وهنا يكتشفن أن السعداوي كانت على حق.
قلما نعثر على رواية طويلة لك على الرغم من ثراءات التجربة الإنسانية لديك لماذا ؟
حجم رواياتي صغير لكن تأثيرها قوي، مثلاً غسان كنفاني يكتب لا ليقف خطيباً ويثرثر على منبره، بل ليرمي قنبلته الفكرية في وجه الظالمين ويمضي.
ليس عندي قدرة على الثرثرة الأدبية في النصوص، وتكرار الكلام، وتضخيم ما لا يجب تضخيمه. بالمختصر أحب الإيجاز، ولا أدري إن كانت هذه ميزة أم نقيصة في أدبي.
ثلاثة عقود من الكتابة، جعلت غيرك ينشرون عدداً كبيراً من العناوين، بينما لا يتجاوز معدل النشر لديك رواية كل ستة أعوام، بأي إيقاع تكتبين؟
أنا أقوم بالعمل الذي تقوم به كل سيدة، أطبخ وأرتب وأدفع الفواتير وأقوم بإجراء التصليحات في المنزل وأشرف على الأشغال في بستاني، وفوق هذا كله تأتي القراءة التي هي العمود الفقري لعملي وشغفي، ولكي أركز يجب أن أحظى بهدوء وراحة، وهذا قليلاً ما يتوفر لي. ما معنى أن يكون لدي خمسون كتاباً وأنا مهملة لعائلتي؟
بقيت منذ مغادرتك للجزائر على انفصال واتصال معها، كيف تقرئين اللحظة الثقافية الجزائرية اليوم؟
منذ تسع وعشرين سنة وأنا أعيش في لبنان، وحاصلة على الجنسية اللبنانية، لكني أقدّم نفسي بصفتي جزائرية. أرغب أن أكون في الجزائر دائماً، اتخذت قرار العودة أكثر من مرّة وفشلت لأسباب تعود للجزائر نفسها، ومن يقررون مصائرنا فيها.
ما يحدث في الجزائر ثقافياً لحظة انتقالية طويلة جداً، ومتذبذبة بين يأس وأمل، نعم أعتبر نفسي من الصورة الكاملة لهذا المشهد، لكن من الذوات التي تحتمي بالكهف، وتفكّر في سبل مجدية لتحافظ على إنسانيتها.