تطوي روسيا عاماً حافلاً بالأحداث والتحديات، على الساحتين المحلية والدولية، أبرزها استمرار الحرب في أوكرانيا الدائرة لنحو ثلاثة أعوام وما تلاها من توسع رقعة الاستهدافات، المتمثلة في ضرب العمق الروسي بصواريخ بعيدة المدى، وتواصل زحف الجيش الروسي على كافة الجبهات شرق أوكرانيا، مع اشتداد المعارك في مقاطعة كورسك الرّوسية، إلى جانب إقبال موسكو على تحديث عقيدتها النووية في ظل التصعيد المتواصل مع الغرب.
ويأتي هذا في وقت تشتد فيه العقوبات الغربية على موسكو، التي تجاوزت سقف 40 ألف عقوبة، وفي أعقاب فوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانتخابات الرئاسية للمرة الخامسة، وتعهده بتحقيق مكاسب اقتصادية وعسكرية، مع تأكيدات متكررة على انفتاحه على “حوار عادل وبناء مع الدول أجمع، بما يتماشي مع مصالح بلاده”.
حرب تقترب من نهايتها؟
على مدار السنوات الثلاث الماضية، عبّرت روسيا عن استعدادها لتسوية الأزمة الأوكرانية بطرق سلمية، متّهمة كييف بما سمّته “غياب الجدية والنية الحقيقية”. وفي الوقت نفسه، تؤكد موسكو ضرورة استمرار العملية العسكرية الخاصة (حرب أوكرانيا)، حتى تحقيق جميع الأهداف الموضوعة في إطارها.
وفيما ينظر البعض بتفاؤل إلى العام الجديد، ويتنبأ بانتصار روسيا في الحرب واستسلام أوكرانيا، يعرب آخرون عن تشاؤمهم من إطالة أمد الحرب، وعدم الثقة في نوايا الإدارة الأميركية الجديدة، والدول الداعمة لكييف في وقف تقديم الدعم العسكري لها.
وفي هذا السياق، اعتبر الخبير العسكري فيكتور ليتوفكين، أن العام المقبل، سيمثل مرحلة جديدة في تاريخ الصراع مع أوكرانيا، إذ توقع في تصريحات لـ”الشرق”، أن تنتهي الحرب التي اندلعت في فبراير 2022 خلال 2025.
الرواية الروسية الرسمية، تؤكد أن زمام المبادرة على الجبهات في يد قواتها بعد سيطرتها على مدى العام الجاري على أكثر من 190 بلدة، إلا أن العمق الروسي خلال الأشهر القليلة الأخيرة، سجل مرحلة جديدة من التصعيد، حيث تعرضت المناطق الحدودية الروسية لضربات بأسلحة بعيدة المدى غربية الصنع من طراز “أتاكمز” و”ستورم شادو” إلى جانب توسع رقعة وحجم الهجمات بالمسيرات الأوكرانية.
وزارة الدفاع الروسية تقول إن قواتها تسيطر على 99.3% من أراضي لوجانسك، وعلى 70% من دونيتسك، وعلى 73.9% من أراضي مقاطعة زابوروجيا، و76% من أراضي مقاطعة خيرسون.
وإلى جانب هذا، تتواصل الأعمال القتالية في مناطق يتوغل فيها الجيش الأوكراني في مقاطعة كورسك الحدودية منذ 6 أغسطس الماضي، مع مواصلة تحركات الجيش الروسي لإعادة السيطرة الكاملة على المنطقة.
“سلام محتمل” في عهد ترمب
في ظل تعهد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب بإنهاء الحرب في أوكرانيا في غضون 24 ساعة، تُرجّح موسكو بدء المفاوضات من أجل تسوية النزاع بأوكرانيا العام المقبل، وتصفها بأنها “قد تكون صعبة جداً”. في الوقت نفسه تؤكد استعدادها لإيجاد حلول وسط، ولكن مع الالتزام بالشروط التي حددها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الصيف الماضي.
وحدد بوتين في يونيو الماضي شروط تسوية الصراع، والتي تشمل من بين أمور أخرى، انسحاب القوات الأوكرانية من 4 مناطق “دونيتسك ولوجانسك وخيرسون وزابوروجيا”، واستبعاد كييف من الانضمام إلى حلف الشمال الأطلسي “الناتو”، ورفع جميع العقوبات المفروضة على موسكو، والتزام أوكرانيا بعدم امتلاك أسلحة نووية.
لكن هناك من يرى أن ما تحدث عنه ترمب “مجرد كلام روّجه خلال حملته الانتخابية”، فيما نشرت مجلة “الإيكونوميست”، في نهاية نوفمبر الماضي، توقعات تفيد بأن الضغوط على السلطات الأوكرانية الداعية إلى مفاوضات السلام ستزداد بشكل ملحوظ في عام 2025. ويعتقد مراقبون أن هذا سيحدث نتيجة لتراجع المساعدات العسكرية الغربية.
في سياق إمكانية انتهاء الحرب ومبادرة ترمب بشأن التفاوض مع كييف، توقع المحلل السياسي الروسي يجفيني سيدروف، أن “العام المقبل لن يشهد خفضاً للتصعيد”، وأضاف سيدروف في تصريحات لـ”الشرق”: “دون شك، لن يشهد العام المقبل خفضاً للتصعيد، بما فيه العسكري”، معتبراً أن “جميع الأمور مرتبطة بالعروض التي ستقدم من إدارة ترمب الجديدة لحل الأزمة”.
وأشار إلى أنه “في حال كانت هذه المقترحات تناسب القيادة في روسيا، حينها من الممكن الحديث عن التفاصيل. وحتى اللحظة لا يوجد أي شيء محدد، رغم أن العديد من الدول، تُعرض نفسها كوسيط أو منصة، لكن كما ذكرت الأمر غير واضح حتى اللحظة”.
انفتاح روسي “متردد”
رغم أن العلاقات بين موسكو والعواصم الغربية في أسوأ حالاتها، إلا أن الرئيس الروسي أعرب عن استعداد بلاده لتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى.
وفي حين يعتبر وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، أن سياسة الولايات المتحدة بغض النظر عن الإدارة التي تحكمها، تهدف إلى إضعاف روسيا، يشير كبير الدبلوماسيين الروس إلى أن أي تحسن في العلاقات، يتطلب تغييراً جوهرياً في سلوك واشنطن تجاه موسكو.
الدبلوماسي السابق ونائب رئيس رابطة الدبلوماسيين الروس، أندريه باكلانوف، يرى في تصريحات لـ”الشرق”، أن الإدارة الأميركية الجديدة (إدارة ترمب) “لن تغير موقف واشنطن بشكل ملحوظ” تجاه روسيا خلال العام المقبل.
وأضاف باكلانوف: “جرت لقاءات في موسكو بخصوص ما يمكن التنبؤ به في عام 2025. ما يخص ترمب، نرى أنه في الوقت الحالي يحاول جمع المعلومات حول ما يجري في العالم، للمساعدة في تحضير برنامجه الرئاسي. فيما يخص موقف واشنطن من موسكو فلن يتغير”.
واعتبر الدبلوماسي الروسي السابق، أن الولايات المتحدة “ستحاول مواصلة محاولات الفوز في المنافسة مع روسيا”، مضيفاً: “يبدو موقف ترمب أكثر توازناً، إلا أنه لا يزال خصماً لروسيا، لكنه حذِر بشكل أكبر”، وتابع: “روسيا بدورها ستحاول تطبيع العلاقات مع واشنطن”، لافتاً إلى أن موسكو تهتم بمشروعات مشتركة مع واشنطن في مناطق عدة مثل القطب الشمالي.
بدوره، يتوقع المحلل السياسي يفجيني سيدوروف، أن الدول الرافضة للحوار مع موسكو، لن تتخلى عن موقفها الحالي في العام المقبل، وستواصل محاولاتها لإلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا.
وأضاف سيدوروف في تصريحاته لـ”الشرق”: “يجب فصل العلاقات بين روسيا والغرب إلى قسمين: العلاقات بين موسكو وواشنطن، وموسكو والعواصم الأوروبية. ما يخص العلاقات مع الولايات المتحدة، فبشكل عام هناك نوع من الإيجابية، كون أن الأميركيين في الإدارة الجديدة يفهمون موقف موسكو، ومستعدون لمناقشة شروطها التي حددتها لتطبيع العلاقات”.
أما فيما يتعلق بالدول الغربية الأخرى (أوروبا)، شدد المحلل الروسي، على أن تلك الدول “تهتم فقط بالتعاون في المجال الاقتصادي”، مشيراً إلى أنها “ستواصل خطواتها نحو تطبيع العلاقات مع موسكو، لكن في الوقت نفسه ستكون هناك مواجهة مع بعض الدول الرافضة بشكل تام في الوقت الحالي أي حوار مع موسكو، وتواصل نهج إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا”.
تحديات الاقتصاد الروسي
في ما يخص الأوضاع الاقتصادية، فإن الاقتصاد الروسي شهد تحسناً خلال 2024، من حيث معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي، ومستويات دخل المواطنين، ومعايير الموازنة، إلا أن الأمر لا يخلو من تحديات متزايدة متمثلة في العقوبات وانخفاض أسعار السلع الروسية الموجهة للتصدير، ومعدلات البطالة، وتقلب سعر صرف العملة الروسية “الروبل”، ومستوى التضخم، الذي انحرف بشكل كبير عن المستوى المستهدف.
الحكومة الروسية، تشير في بياناتها على أعتاب 2025، إلى أن روسيا تحتل المركز الأول في أوروبا والرابع عالمياً من حيث حجم الاقتصاد، وتعادل القوة الشرائية. دون استبعاد تسجيل الناتج المحلي الإجمالي للبلاد نسبة 4% بحلول نهاية العام الجاري.
الخبيرة الاقتصادية الروسية أولجا كرسينياك، ترى أن أبرز التحديات التي ستواجهها روسيا خلال العام المقبل، تكمن في مواجهة التضخم.
وقالت في تصريحات لـ”الشرق”: “خلال العام المقبل، من المتوقع أن تتخذ الحكومة الروسية خطوات لخفض مستوى التضخم في البلاد، وهناك جميع الأسس المطلوبة، كون أن الاقتصاد الروسي آخذ في النمو”.
وأشارت الخبيرة الاقتصادية الروسية، إلى أن الاقتصاد الروسي يتجه إلى التعايش تحت تأثير العقوبات الغربية، مضيفة: “سياسية العقوبات الغربية بالطبع تؤثر سلباً على الاقتصاد. وقبل كل شيء على عرض السلع والخدمات، وقد تمكنت البلاد من توفير كل ما هو مطلوب في الداخل رغم شدة العقوبات”.
وسيبقي الاقتصاد الروسي تحت تأثير القيود والعقوبات، في ظل اعتماده الكبير على أسعار الطاقة، إلا أن موسكو تواصل تحركاتها لتنويع الشركاء التجاريين وفي مقدمتهم الصين والهند، وتطوير بدائل اقتصادية قد تمكنها من الحفاظ على استقرار نسبي.
الغاز العابر للقارة العجوز
يعد مصير الغاز الروسي العابر إلى أوروبا مجهولاً، إذ يبدو أن أوكرانيا تخطو بجدية كبيرة نحو عدم السماح بالعبور عبر أراضيها، خاصة مع تصريحات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي قال إن الغاز الروسي لن يمر عبر بلاده بعد الحادي والثلاثين من ديسمبر الجاري، حتى لو تم شراؤه مسبقاً من قبل دولة ثالثة أو مباشرة من قبل دولة مستهلكة في الاتحاد الأوروبي.
ومن بين الدول التي ستتأثر بالقرار الأوكراني، حال تنفيذه، المجر وسلوفاكيا والنمسا ومولدوفا وأوكرانيا نفسها. إلا أن حال المجر أفضل من غيرها، كونها خفضت العام الماضي حجم مشتريات الغاز عبر أوكرانيا، وبدأت في استخدام الطريق الجنوبي لتزويد الكميات الرئيسية من الوقود عبر “السيل التركي”.
في هذا الصدد، عدّد كبير الخبراء في الصندوق الوطني الروسي لأمن الطاقة، ستانيسلاف ميتراخوفيتش، الخسائر التي قد تجنيها روسيا من قرار عدم تمديد عبور الغاز إلى أوروبا، وقال لـ”الشرق”: “حتى اللحظة لا يوجد فهم واضح بشأن مصير العقود”، مرجحاً أن تتوصل السلطات الروسية المعنية إلى إمكانية تمديدها لكن بشكل آخر، مثلاً أن تقوم شركات من سلوفاكيا أو من دول أخرى بنقل الغاز باسمها من الحدود الروسية الأوكرانية، لصالح باقي الدول، مثل النمسا ومولدوفا، التي تعتمد على الغاز الروسي.
وأضاف: “أما أوكرانيا بدورها، ففي حال خسارتها للغاز فسيتوجب عليها إما زيادة إنتاج الغاز أو نقل الغاز من الغرب إلى الشرق وهذا الأمر قد يكون مقعداً. كما ستعاني من مشكلات في الطاقة والكهرباء، فيما ستخسر روسيا جزءاً من أرباحها، أما سلوفاكيا والنمسا، فقد يتضرران في الصناعة أكثر، فيما مولدوفا وترانسيستريا، فقد يمس الضرر المواطنين العاديين”.
وكان نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، أكد استعداد بلاده لمواصلة إمدادات الغاز إلى أوروبا عبر عدة طرق، مشيراً إلى أن مصير عبور غاز بلاده عبر أوكرانيا يعتمد على الاتفاقيات المبرمة بين الاتحاد الأوروبي وكييف، واصفاً وضع الغاز في أوروبا بأنه “متوتر بالفعل”، فالاحتياطيات في منشآت التخزين أقل بنسبة 3% إلى 5% عن المتوسط خلال السنوات الخمس الماضية.
تشديد سياسة الهجرة
خلال العام الجاري 2024، حاولت روسيا البحث عن توازن في سياسة الهجرة، خاصة بعد الهجوم الذي استهدف قاعة الحفلات “كروكوس” في ضواحي العاصمة موسكو في مارس الماضي، والذي أودى بحياة عشرات الضحايا والجرحى.
وعلى الرغم من الوضع الصعب في سوق العمل داخل البلاد على خلفية الحرب الأوكرانية والأوضاع الأمنية والاقتصادية في عشرات المناطق الروسية خلال السنوات الأخيرة، إلا أن سلطاتها اتخذت قرارات تمنع الأجانب من العمل في مختلف المجالات، مثل النقل والرعاية الصحية والتعليم والتجارة.
ووفق مديرية الهجرة بوزارة الداخلية الروسية، فإنه اعتباراً من الأول من سبتمبر 2024، يتواجد في روسيا 6 ملايين و174 ألفاً و777 مهاجراً (5.5 مليون منهم من أوزبكستان، وطاجيكستان، وقيرجيزستان، وبيلاروس، وأوكرانيا، وأرمينيا، وأذربيجان، وتركيا، وكازاخستان والصين وتركمانستان).
وأدخلت السلطات الروسية تغييرات جديدة على القوانين، شملت قواعد جديدة للعمال المهاجرين والموظفين المؤهلين، كما حددت المدة القصوى للإقامة في روسيا للأجانب بدون تأشيرات، وإدخال البصمات في المطارات الروسية، فضلاً عن قواعد الزواج.
وبحسب الجهات الرسمية، فمنذ بداية العام الجاري، طردت السلطات أكثر من 60 ألف مواطن أجنبي قسراً من الاتحاد الروسي. في حين بلغ عدد المطرودين العام الماضي حوالي 30 ألفاً. ومنذ بداية العام قيدت دخول 180 ألف مواطن أجنبي.
وبحسب الخبراء، فإن العام المقبل سيشهد تشديد الإجراءات المتعلقة بسياسة الهجرة في البلاد، واعتباراً من فبراير 2025، سيكون لدى حرس الحدود الروسي المزيد من الأسباب لرفض السماح بدخول الأشخاص. كما سيخفض الحد الأقصى لفترة التأشيرة من 180 يوماً إلى 90 يوماً.
وتترقب الأوساط الداخلية في روسيا العام المقبل بتفاؤل حذر، مما سيحمله من تحديات ضبابية خاصة مع استمرار الحرب الأوكرانية، وسط آمال بإبرام اتفاقية سلام وإنهاء الأعمال القتالية، وعودة الحياة إلى طبيعتها.